اَلْمُصَفَّى مِنْ كِتَابِ

الشفا بتعريف حقوق المصطفى

صلى الله عليه وسلم

          

                       القاضي عياض رحمه الله                                             

 1* نسبه

هو أبو الفضل: عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليَحْصُبي الإمام العلامة يكنى أبا الفضل سبتي الدار والميلاد أندلسي الأصل.
-قال ولده محمد: كان أجدادنا في القديم بالأندلس ثم انتقلوا إلى مدينة فاس وكان لهم استقرار بالقيروان لا أدري قبل حلولهم بالأندلس أو بعد ذلك وانتقل عمرون إلى سبتة بعد سكنى فاس.

 

  2* مكانته

-كان القاضي أبو الفضل إمام وقته في الحديث وعلومه عالماً بالتفسير وجميع علومه فقيهاً أصولياً عالماً بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم بصيراً بالأحكام عاقداً للشروط حافظاً لمذهب مالك رحمه الله تعالى شاعراً مجيداً رباناً من الأدب خطيباً بليغاً صبوراً حليماً جميل العِشرة جواداً سمحاً كثيرَ الصدقة دءوباً على العمل صلباً في الحق.

 

   3* رحلته في طلب العلم وشيوخه

-رحل إلى الأندلس - سنة سبع وخمسمائة - طالباً للعلم فأخذ بقرطبة عن القاضي أبي عبد الله: محمد بن علي بن حمدين وأبي الحسين بن سراج وعن أبي محمد بن عتاب وغيرهم وأجاز له أبو علي الغساني وأخذ بالمشرق عن القاضي أبي علي: حسين بن محمد الصدفي وغيره وعني بلقاء الشيوخ والأخذ عنهم وأخذ عن أبي عبد الله المازري كتب إليه يستجيزه وأجاز له الشيخ أبو بكر الطرطوشي.
-ومن شيوخه: القاضي أبو الوليد بن رشد

-قال صاحب الصلة البشكوالية: وأظنه سمع من ابن رشد وقد اجتمع له من الشيوخ - بين من سمع منه وبين من أجاز له: مائة شيخ.

-وذكر ولده محمد منهم: أحمد بن بقي وأحمد بن محمد بن مكحول وأبو الطاهر: أحمد بن محمد السلفي والحسن بن محمد بن سكرة والقاضي أبو بكر بن العربي والحسن بن علي بن طريف وخلف بن إبراهيم بن النحاس ومحمد بن أحمد بن الحاج القرطبي وعبد الله بن محمد الخشني وعبد الله بن محمد البطليوسي وعبد الرحمن بن بقي بن مخلد وعبد الرحمن بن العجوز وغيرهم ممن يطول ذكرهم.

 

   4* ما قام به من مهام

-قال صاحب الصلة: وجمع من الحديث كثيراً وله عناية كبيرة به واهتمام بجمعه وتقييده وهو من أهل التفنن في العلم واليقظة والفهم وبعد عوده من الأندلس أجلسه أهل سبتة للمناظرة عليه في المدونة وهو ابن ثلاثين سنة أو ينيف عنها ثم أجلس للشورى ثم ولي قضاء بلده مدة طويلة حمدت سيرته فيها ثم نقل إلى قضاء غرناطة في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ولم يطل أمره بها ثم ولي قضاء سبتة ثانياً.
قال صاحب الصلة: وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه بعض ما عنده. قال بن الخطيب: وبنى الزيادة الغربية في الجامع الأعظم وبنى في جبل المينا الراتبة الشهيرة وعظم صيته.

 

  5* نفيه إلى مراكش

ولما ظهر أمر الموحدين بادر إلى المسابقة بالدخول في طاعتهم ورحل إلى لقاء أميرهم بمدينة سلا فأجزل صلته وأوجب بره - إلى أن اضطربت أمور الموحدين عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة فتلاشت حاله ولحق بمراكش مشرداً به عن وطنه فكانت بها وفاته.

 

   6* تصانيفه

وله التصانيف المفيدة البديعة منها:

 1 - إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم –

 2- كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم أبدع فيه كل الإبداع وسلم له اكفاؤه كفايته فيه ولم ينازعه أحد من الانفراد به ولا أنكروا مزية السبق إليه بل تشوفوا للوقوف عليه وأنصفوا في الاستفادة منه وحمله الناس عنه وطارت نسخه شرقاً وغرباً

3- وكتاب مشارق الأنوار في تفسير غريب حديث الموطأ والبخاري ومسلم وضبط الألفاظ والتنبيه على مواضع الأوهام والتصحيفات وضبط أسماء الرجال وهو كتاب لو كتب بالذهب أو وزن بالجوهر لكان قليلاً في حقه وفيه أنشد بعضهم:

مشارق أنوار تـبـدت بـسـبـتة

 

ومن عجب كون المشارق بالغرب؟

4- وكتاب التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة جمع فيه غرائب من ضبط الألفاظ وتحرير المسائل

5- وكتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك

6- وكتاب الإعلام بحدود قواعد الإسلام

7- وكتاب الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع وكتاب: بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد    8- وكتاب الغنية في شيوخه وكتاب المعجم في شيوخ بن سكرة

9- وكتاب نظم البرهان على حجة جزم الأذان  -

10- وكتاب مسألة الأهل المشروط بينهم التزاور.


ومما لم يكمله:

1- المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان

2-وكتاب العيون الستة في أخبار سبتة

3-وكتاب غنية الكاتب وبغية الطالب في الصدور والترسل

4-وكتاب الأجوبة المحبرة على الأسئلة المتخيرة

5-وكتاب أجوبة القرطبيين

6-وكتاب أجوبته عما نزل في أيام قضائه من نوازل الأحكام في سفر

7-وكتاب: سر السراة في أدب القضاة

-وكتاب خطبه وكان لا يخطب إلا بإنشائه.

 

 7-شعره
 وله شعر كثير حسن رائق

 فمنه قوله:

 

يا من تحمل عني غير مكـتـرث

 

لكنه للضنا والسقم أوصـى بـي

تركتني مستهام القلـب ذا حـرق

 

أخا جوى وتـبـاريح وأوصـاب

أراقب النجم في جنح الدجا سحراً

 

كأنني راصد للنجـم أوصـابـي

وما وجدت لذيذ النـوم بـعـدكـم

 

إلا جنى حنظل في الطعم أوصاب

وله رحمه الله تعالى:

 

الله يعلم أني منـذ لـم أركـم

 

كطائر خانه ريش الجناحـين

فلو قدرت ركبت الريح نحوكم

 

فإن بعدكم عني جنى حينـي

وله من أبيات:

 

إن البخيل بلحظه أو لفظه

 

أو عطفه أو رفقه لبخيل

وله في خامات الزرع بينها شقائق النعمان هبت عليها رياح:

 

انظر إلى الزرع وخامـاتـه

 

تحكي وقد ماست أمام الرياح

كتيبة خضـراء مـهـزومة

 

شقائق النعمان فيها جـراح

وله غير ذلك كثير.

 

8-تاريخ مولده ووفاته

كان مولد القاضي عياض بسبتة في شهر شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة ( 496هـ)

وتوفي بمراكش في شهر جمادى الأخيرة وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة (544هـ)

وقيل: إنه مات مسموماً سمه يهودي

ودفن رحمه الله تعالى بباب إيلان داخل المدينة.     الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب

 

+ ـ ذكره السيوطي في طبقات الحفاظ، قال :

  القاضي عِيَاض رحمه الله بن موسى بن عياض بن عمر بن موسى بن عياض العلامة عالم المغرب أبو الفضل اليحصبي السبتي الحافظ...

ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة(476 هـ)أجاز له أبو علي الغساني.
وتفقه وصنف التصانيف التي سارت بها الركبان كالشفاء وطبقات المالكية وشرح مسلم والمشارق في الغريب وشرح حديث أم زرع والتاريخ وغير ذلك.

وبعُد صيته وكان إمام أهل الحديث في وقته وأعلم الناس بعلومه وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم.


وولي قضاء سبتة ثم غرناطة. مات ليلة الجمعة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمراكش ( 544.هـ)

 

+ وقال ابن كثير في البداية والنهاية

 ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة

 وفيها كانت وفاة القاضي عِيَاض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي قاضيها أحد مشايخ العلماء المالكية وصاحب المصنفات الكثيرة المفيدة منها الشفا وشرح مسلم ومشارق الأنوار وغير ذلك وله شعر حسن وكان إماما في علوم كثيرة كالفقه واللغة والحديث والأدب وايام الناس ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة ومات يوم الجمعة في جمادى الآخرة وقيل في رمضان من هذه السنة بمدينة سبتة رحمه الله


 

+وقال ابن خلكان

القاضي عياض  القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض ابن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم وصنف التصانيف المفيدة منها الإكمال في شرح كتاب مسلم كمل به المعلم في شرح مسلم للمازري ومنها مشارق الأنوار وهو كتاب مفيد جدا في تفسير غريب الحديث المختص بالصحاح الثلاثة وهي الموطأ والبخاري ومسلم وشرح حديث أم زرع شرحا مستوفى وله كتاب سماه التنبيهات جمع فيه غرائب وفوائد وبالجملة فكل تواليفه بديعة  ذكره أبو القاسم بن بشكوال في كتاب الصلة فقال دخل الأندلس طالبا للعلم فأخذ بقرطبة عن جماعة وجمع من الحديث كثيرا وكان له عناية كبيرة به والاهتمام بجمعه وتقييده وهو من أهل التفنن في العلم والذكاء واليقظة والفهم واستقضى ببلده يعني مدينة سبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة فلم يطل أمده فيها انتهى كلامه  وللقاضي عياض شعر حسن فمنه ما رواه عنه ولده أبو عبد الله محمد قاضي دانية قال أنشدني أبي لنفسه في خامات زرع بينها شقائق النعمان هبت عليه ريح  :

 

                      انظر إلى الزرع وخاماتـه           تحكي وقد ماست أمام الرياح   

                      كتيبة حمــراء مهزومة           شقائق النعمان فيها جــراح

 

  الخامة القصبة الرطبة من الزرع ؛ وأنشد أيضا لأبيه  :

 

                     الله يعلم أني منذ لم أركـــم        كطائر خانه ريش الجناحين   

                     فلو قدرت ركبت البحر نحوكم        لأن بعدكـم عني جنى حيني

 

ورأيت لابن العريف رسالة كتبها إليه فأحببت ذكرها ثم أضربت عنها لطولها  وذكره العماد في الخريدة فقال كبير الشان غزير البيان وذكر له البيتين في الزرع الذي بينه شقائق النعمان ثم قال بعد ذلك وله في لزوم ما لا يلزم 

                            إذا ما نشرت بساط انبساط       فعنه فديتك  فاطْــوِ المزاحا   

                            فإن المزاح على مـا حكاه       أولو العلم قبلي عن العلم زاحا   

 

ومدحه أبو الحسن ابن هارون المالقي الفقيه المشاور بقوله: 

                        ظلموا عياضا وهو يحلم عنهـم       والظلم بين العالمين قديــم   

                        جعلوا مكان الراء عينا في اسمه      كي يكتموه فإنــه مـعلوم

                        لولا ما ناحـت أبــاطح  سبتة      والروض حول فنائها معدوم   

 

وذكره ابن الأبار في تسمية أصحاب أبي علي الغساني فقال من أهل سبتة وأصله من بسطة يكنى أبا الفضل أحد الأئمة الحفاظ الفقهاء المحدثين الأدباء وتواليفه وأشعاره شاهدة بذلك كتب إليه أبو علي في جماعة جلة ولقي أيضا آخرين مثلهم وشيوخه يقاربون المائة  وكان مولد القاضي عياض بمدينة سبتة في النصف من شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة وتوفي بمراكش يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى ودفن بباب إيلان داخل المدينة وتولى القضاء بغرناطة سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة  وتوفي ولده المذكور سنة خمس وسبعين وخمسمائة رحمه الله تعالى  وعياض بكسر العين المهملة وفتح الياء المثناةمن تحتها وبعد الألف ضاد معجمة  واليحصبي بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الحاء المهملة وضم الصاد المهملة وفتحها وكسرها وبعدها باء موحدة هذه النسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير  وسبتة مدينة مشهورة بالمغرب وكذلك غرناطة بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح النون وبعد الألف طاء مهملة ثم هاء وهي بالأندلس  .

 

+ وقال الذهبي   في سير أعلام النبلاء

  القاضي عِيَاض رحمه الله

الإمام العلامة الحافظ الأوحد شيخ الإسلام القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن  عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي ثم السبتي المالكي... تفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي والقاضي محمد بن عبد الله المسيلي  واستبحر من العلوم وجمع وألف وسارت بتصانيفه الركبان واشتهر اسمه في الآفاق 

-قال خلف بن بشكوال : هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم استقضي بسبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة فلم يطول بها وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه. 

-وقال الفقيه محمد بن حماده السبتي جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة كان هينا من غير ضعف صليبا في الحق تفقه على أبي عبد الله التميمي وصحب أبا إسحاق بن جعفر الفقيه ولم يكن أحد بسبتة في عصره أكثر تواليف من تواليفه له كتاب الشفا في شرف المصطفى مجلد وكتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك في مجلدات وكتاب العقيدة وكتاب شرح حديث أم زرع وكتاب جامع  التاريخ الذي أربى على جميع المؤلفات جمع فيه أخبار ملوك الأندلس والمغرب واستوعب فيه أخبار سبتة وعلماءها وله كتاب مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار الموطأ والصحيحين  إلى أن قال وحاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده وما زاده ذلك إلا تواضعا وخشية لله تعالى وله من المؤلفات الصغار أشياء لم نذكرها  قال القاضي شمس الدين في وفيات الأعيان هو إمام الحديث في وقته وأعرف الناس بعلومه وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم  قال ومن تصانيفه كتاب الإكمال في شرح صحيح مسلم كمل به كتاب المعلم للمازري وكتاب مشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث وكتاب التنبيهات فيه فوائد وغرائب وكل تواليفه بديعة وله شعر حس

  -قلت تواليفه نفيسة وأجلها وأشرفها كتاب الشفا لولا ما قد حشاه بالأحاديث المفتعلة عمل إمام لا نقد له في فن الحديث ولا ذوق والله يثيبه على حسن قصده وينفع بــشفــائه وقد فعل وكذا فيه من التأويلات البعيدة ألوان ونبينا صلوات الله عليه وسلامه غني بمدحة التنزيل عن الأحاديث وبما تواتر من الأخبار عن الآحاد وبالاحاد النظيفة الأسانيد عن الواهيات فلماذا يا قوم نتشبع بالموضوعات فيتطرق إلينا مقال ذوي الغل والحسد ولكن من لا يعلم معذور فعليك يا أخي بكتاب دلائل النبوة للبيهقي فإنه شفاء لما في الصدور وهدى ونور ...

 

+وقال الإمام محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله ،في الرسالة المستطرفة

وكتاب الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي نسبا نسبة الى يحصب بن مالك قبيلة من حمير السبتي دارا وبلدا نسبة الى سبته مدينة مشهورة بالمغرب الأندلسي أصلا المالكي مذهبا المتوفى بمراكش سنة أربع وأربعين وخمسمائة ودفن بباب ايلان داخل المدينة وفيه أحاديث ضعيفة وأخرى قيل فيها انها موضوعة تبع فيها شفاء الصدور للخطيب أبي الربيع سليمان بن سبع السبتي ولم ينصف الذهبي في قوله انهم حشو بالأحاديث الموضوعة والتأويلات الواهية الدالة على قلة نقده مما لا يحتاج قدر النبوة له اه فإنه تحامل منه لا ينبغي كما قاله غير واحد بل هو كتاب عظيم النفع وكثير الفائدة لم يؤلف مثله في الإسلام وقد جربت قراءته لشفاء الأمراض المزمنة وتفريج الكروب ودفع الخطوب شكر الله سعي مؤلفه وجازاه عليه بأتم جزاء واعظمه امين وقد افرد بعضهم الأحاديث المسندة فيه وهي ستون حديثا في جزء....

+ قال القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي عن كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى  :

حسب المتأمل أن يحقق أن كتابنا هذا لم نجمعه لمنكِر نبوة نبينا r  ، ولا لطاعنٍ في معجزاته ، فنحتاج إلى نصْب البراهين عليها ، وتحصين حوزتها ، حتى لا يتوصل المطاعن إليها ، ونذكر شروط المعجز والتحدي وحده ، وفساد قول من أبطل نسخ الشرائع ، ورده ؛ بل ألفناه لأهل مِلـََّّتِـه ، المُلبِّين لدعوته ، المصدقين لـنبوَّته ، ليكون تأكيداً في محبتهم له ، ومنماةً لأعمالهم ، وليزدادوا إيماناً مع إيمانهم.......

 

                                         اَلْمُصَفَّى مِنْ كِتَابِ

   الشفا بتعريف حقوق المصطفى

صلى الله عليه وسلم

للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي

رحمه الله

 بسم الله الرحمن الرحيم

                                             مقدمة الكتاب

اللهم صل على سيدنا  محمد و آله و سلم .


قال الفقيه القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي رضي الله عنه   : الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى ، المختص بالملك الأعز الأحمى ، الذي ليس دونه منتهى ، و لا وراءه مرمى ، الظاهر لا تخيلا و وهما ، الباطن تقدسا لا عدماً ، وسع كل شيء رحمةً و علماً ، و أسبغ على أوليائه نعما عماً ، و بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً و عجماً ، و أزكاهم محتداً و منمى ، و أرجحهم عقلاً و حلماً ، و أوفرهم علماً و فهماً ، و أقواهم يقيناً و عزماً ، و أشدهم بهم رأفة و رحمى ، و زكاه روحاً و جسماً ، وحاشاه عيباً و وصماً ، و آتاه حكمة و حكماً ، و فتح به أعيناً عمياً ، و قلوباً غلفاً ، و آذاناً صماً ، فآمن به و عزره ، و نصره من جعل اللهُ له في مغنم السعادة قسماً ، و كذب به و صدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً ، ((وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء : 72 )) . صلى الله عليه وسلم صلاةً تنمو و تنمى ، و على آله و سلم تسليماً كثيراً .
أما بعد أشرق الله قلبي و قلبك بأنوار اليقين ، و لطف لي و لك بما لطف لأوليائه المتقين ، الذين شرفه م الله بنزل قدسه ، و أوحشهم من الخليقة بأنسه ، و خصهم من معرفته و مشاهدة عجائب ملكوته و آثار قدرته بما ملأ قلوبهم حبرة ، و وله عقولهم في عظمته حيرة ، فجعلوا همهم به واحداً ، و لم يروا في الدارين غيره مشاهدا ، فهم بمشاهدة جماله و جلاله يتنعمون ، و بين آثار قدرته و عجائب عظمته يترددون ، و بالإنقطاع إليه و التوكل عليه يتعززون ، لهجين بصادق قوله : (قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ))- سورة الأنعام  - آية 91-  

فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة والسلام ، و ما يجب له من توقير و إكرام ، و ما حكم من لم يُوَفِّ واجب عظيم ذلك القدر ، أو قصَّر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر ، و أن أجمع لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال ، و أبينه بتنزيل صور و أمثال .
فاعلم _ أكرمك الله _ أنك حمَّلتني من ذلك أمراً إمراً ، و أرهقتني فيما ندبتني إليه عسراً ، و أرقيتني بما كلفتني مرتقى صعباً ، ملأ قلبي رعباً ، فإن الكلام في ذلك يستدعي تقرير أصول و تحرير فصول ، و الكشف عن غوامض ودقائق من علم الحقائق ، مما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم ويضاف إليه ، أو يمتنع أو يجوز عليه ، ومعرفة النبي والرسول ، والرسالة والنبوة ، والمحبة والخلة ، و خصائص هذه الدرجة العلية ، و ها هنا مهامِهُ فِيَح تحار فيها القطا ، و تقصر بها الخطا ، و مجاهل تضل فيها الأحلام إن لم تهتد بعَلم عِلم و نظر سديد ، و مداحض تزل بها الأقدام ،إن لم تعتمد على توفيق من الله وتأييد .
لكني لما رجوته لي و لك في هذا السؤال و الجواب من نوال و ثواب ، بتعريف قدره الجسيم ، و خلُقه العظيم   وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق ، و ما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق ، (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً   (المدثر -31)، و لما أخذ الله تعالى على الذين أوتوا الكتاب (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَه) (آل عمران 187    ).


و لما حدثنا به أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، قال : حدثنا الحسين ابن محمد ، حدثنا أبو عمر النمري حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر محمد ابن بكر ، حدثنا سليمان بن الأشعث ، حدثنا موسى بن اسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا علي بن الحكم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال رسول الله
r : من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة .
فبادرت إلى نكت مسفرة عن وجه الغرض ، مؤدياً من ذلك الحق المفترض ، اختلسها على استعجال ، لما المرء بصدده من شغل البدن و البال ، بما طوقه من مقاليد المحنة التي ابتلي بها ، فكادت تشغل عن كل فرض و نفل ، و ترد بعد حسن التقويم إلى أسفل سفل ، و لو أراد الله بالإنسان خيراً لجعل شغله وهمَّه كله فيما يحمد غداً أو يذم محله ، فليس ثم سوى حضرة النعيم ، أو عذاب الجحيم ، و لكان عليه بخويصته ، و استنفاذ مهجته و عمل صالح يستزيده ، و علم نافع يفيده أو يستفيده .
جبر الله صدع قلوبنا ، و غفر عظيم ذنوبنا ، و جعل جميع  استعدادنا لمعادنا ، و توفر دواعينا فيما ينجينا و يقربنا إليه زلفى، و يُحظينا بمنه و كرمه و رحمته .
و لما نويت تقريبه ، و درجت تبويبه ، و مهدت تأصيله ، و خلصت تفصيله ، و انتحيت حصره و تحصيله ، ترجمته ب
الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، و حصرت الكلام فيه في أقسام أربعة :
القسم الأول : في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاً و فعلاً ، و توجه الكلام فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في ثنائه تعالى عليه ، و اظهاره عظيم قدره لديه ، و فيه عشرة فصول .
الباب  الثاني : في تكميله تعال ى له المحاسن خلقاً و خلقاً ، قرانه جميع الفضائل الدينية و الدنيوية فيه نسقاً ، و فيه سبعة و عشرون فصلاً .

 
الباب الثالث : فيما ورد من صحيح الأخبار و مشهورها  بعظيم قدره عند ربه و منزلته ، و ما خصَّه به في الدارين من كرامته ، و فيه اثنا عشر فصلاً .
الباب الرابع : فيما أظهره الله تعالى على يديه من الآيات و المعجزات ، و شرفه به من الخصائص و الكرامات ، و فيه ثلاثون فصـل .


القسم الثاني : فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام ، و يترتب القول فيه في أربعة أبواب :
البـــــاب الأول:  في فرض الإيمان به و وجوب طاعته و اتباع سنته ، و فيه خمسة فصول .
الباب التاني: في لزوم محبته و منا صحته ، و فيه ستة فصول .
الباب الثـالث : في تعظيم أمره و لزوم توقيره و بره ، و فيه سبعة فصول .
الباب الرابــــع : في حكم الصلاة عليه و التسليم و فرض ذلك و فضيلته ، و فيه عشرة فصول .


القسم الثالث :   فيما يستحيل في حقه ، و ما يجوز عليه شرعاً ، و ما يمتنع و يصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه .


و هذا القسم ـ أكرمك الله ـ هو سر الكتاب ، و لباب ثمرة هذه الأبواب ، و ما قبله له كالقواعد و التمهيدات و الدلائل على ما ن ورده فيه من النكت البينات ، و هو الحاكم على ما بعده ، و المنجز من غرض هذا التأليف و عده ، و عند التقصي لموعدته ، و التفصي عن عهدته ، يشرق صدر العدو اللعين ، و يشرق قلب المؤمن باليقين ، و تملأ أنواره جوانح صدره و يقدر العاقل النبي حق قدره . و يتحرر الكلام فيه في بابين   
الباب الأول :   فيما يختص بالأمور الدينية ، و يتشبث به القول في العصمة و فيه ستة عشر فصلاً .
الباب الثاني : في أحواله الدنيوية ، و ما يجوز طروءه عليه من الأعراض البشرية،و فيه تسعة فصول.


القسم الرابع : في تصرف وجوه الأحكام على من تنقصه أو سبه صلى الله عليه و سلم و ينقسم الكلام فيه في بابين :


الباب الأول : في بيان ما هو في حقه سب و نقص ، من تعريض ، أو نص ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في حكم شانئه و مؤذيه و متنقصه و عقوبته ، و ذكر استتابته ، و الصلاة عليه و وراثته ، و فهي عشرة فصول .


و ختمناه
بباب ثالث جعلناه تكملة لهذه المسألة ، و وصلة للبابين اللذين قبله في حكم من سبَّ اللهَ تعالى و رسلَه و ملائكتَه و كتبَه ، و آلَ النبي رسول الله r و صحبَه .
و اختصر الكلام فيه في خمسة فصول ، و بتمامها ينتجز الكتاب ، و تتم الأقسام و الأبواب ، و تلوح في غرة الإيمان لمعة منيرة ، و في تاج التراجم درة خطيرة ، تزيح كل لبس ، و توضح كل تخمين و حدس ، و تشفي صدور قوم مؤمنين ، و تصدع بالحق ، و تعرض عن الجاهلين ، و با لله تعالى ـ لا إله سواه ـ أستعين .

 

                                       القسم الأول

      في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاً وفعلاً

مقدمة القسم الأول

قال [ الفقيه ] القاضي الإمام أبو الفضل رضي الله عنه :

لا خفاء على من مارس شيئاً من العلم ، أو خُص بأدنى لمحة من فهم ، بتعظيم الله تعالى قدر نبينا  r    ، و خصوصه إياه بفضائل و محاسن و مناقب لا تنضبط لزمام ، و تنويهه من عظيم قدره بما تكلُّ عنه الألسنة و الأقلام . فمنها ما صرح به الله تعالى في كتابه ، و نبه به على جليل نصابه ، و أثنى عليه من أخلاقه و آدابه ، و حض العباد على التزامه ، و تقلد إيجابه ، فكان جل جلاله هو الذي تفضل وأولى ، ثم طهر و زكى ، ثم مدح بذلك و أثنى ، ثم أثاب عليه الجزاء الأوفى ، فله الفضل بدءاً  وعودا ً ، و الحمد أولى وأخرى .
ومنها ما أبرزه للعيان من خلُقه على أتم وجوه الكمال و الجلال ، و تخصيصه بالمحاسن الجميلة و الأخلاق الحميدة ، و المذاهب الكريمة ، و الفضائل العديدة ، و تأييده بالمعجزات الباهرة ، و البراهين الواضحة ، و الكرامات البينة التي شاهدها من عاصره ورآها من أدركه ، و علمها علمَ يقين من جاء بعده ، حتى انتهى علم ذلك إلينا ، و فاضت أنواره علينا ،
r كثيراً .

*حدثنا القاضي الشهيد أبو علي الحسين بن محمد الحافظ ، رحمه الله قراءة منى عليه ، قال : أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ، و أبو الفضل أحمد بن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، قال : حدثنا أبو علي السنجي ، قال : محمد بن أحمد ابن محبوب ، قال : حدثنا أبو عيسى بن سورة الحافظ ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس : أن النبي r أُتي بالبراق ليلةَ أُسرِي به ملجماً مسرجاً، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه . قال : فارفض عرقاً .

الباب الأول : في ثناء الله تعالى عليه و إظهاره عظيم قدره لديه

                                              وفيه 10 فصول :

1-   فيما جاء من ذلك مجيء المدح

2-   في وصفه تعالى له بالشهادة

3-  فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة والمبرة

4-  في قسمه تعالى بعظيم قدره

5-  في قسمه تعالى جده له ليحقق مكانته عنده

6-  فيما ورد من قوله تعالىفي جهتهr مورد الشفعة والإكرام

7-  فيما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز من عظيم قدره وشريف منزلته على الأنبياء وخطوة رقبته

8-  في إعلام الله تعالى خلقَه بصلواته عليه وولايته له ورفع العذاب بسببه

9-  فيما تضمنته سورة الفتح من كرامته r

10-        فيما أظهره الله تعالى في كتابه العزيز من كرماته عليه ومكانته عنده

اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى ، و عد محاسنه ، و تعظيم أمره ، و تنويه قدره ، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه ، و بان فحواه ، و جمعنا ذلك في عشرة فصول :

الفصل الأول

فيما جاء من ذلك مجيء المدح و الثناء و تعداد المحاسن ، كقوله تعالى : ((لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 128 ))     

-قال السمرقندي   : و قرأ بعضهم : من أنفَسكم ـ بفتح الفاء . و قراءة الجمهور بالضم .
-قال القاضي الإمام أبو الفضل ـ [ وفقه الله ] أعلم الله تعالى المؤمنين ، أو العرب ، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين : من المواجه بهذا الخطاب أنه بعث فيهم رسولاً من أنفَُسهم يعرفونه ، و يتحققون مكانه ، و يعلمون  صدقه و أمانته ، فلا يتّهِمونه بالكذب و ترك النصيحة لهم ، لكونه منهم ، و أنه لم تكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله
r ولادة أو قرابة ،   و هو عند ابن عباس و غيره معنىقوله تعالى :( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (الشورى : 23 )  و كونه من أشرفهم ، و أرفعهم ، و أفضلهم ، على قراءة الفتح ، و هذه نهاية المدح   ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة ، و أثنى عليه بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم و رشدهم و إسلامهم ، و شدة ما يعنتهم و يضر بهم في دنياهم و أخراهم ، و عزته و رأفته و رحمته بمؤمنهم .
قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .

ومثله في الآية الأخرى : قوله تعالى : ((لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران : 164 ))   
و في الأية الأخرى : ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة : 2 )  و قوله تعالى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 151 )

*وروي عن علي بن أبي طالب ، عنه r  في قوله تعالى : (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) التوبة 129- قال : نسباً و صهراً و حسباً ، ليس فى آبائي من لدن آدم سفاح ، كلنا نكاح .  

- قال ابن الكلبي : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحاً و لا شيئاً مما كان عليه الجاهلية .

*وعن ابن عباس رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : ((وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء : 219 ))ـ قال : من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبياً   .

-وقال جعفر ابن محمد : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من جنسهم في الصورة ، و ألبسه من نعمته الرأفة و الرحمة ، و أخرجه إلى الخلق سفيراً صادقاً ، و جعل طاعته طاعته ، و موافقته موافقته ، فقال تعالى (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء : 80 ) و قال الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء : 107 )

 -قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً  r   بزينة الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ، فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال r : حياتي خير لكم وموتي خير لكم و كما قال r : إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً .

 -وقال السمر قندي : (رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) : يعني للجن و الإنس .


و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و ر حمة للمنافق بالأمان من القتل ، و رحمة للكافر بتأخير العذاب .

-قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين و للكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .

-وحكى أن النبى r قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه الرحمة شىء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل علي بقوله : (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (   التكوير 20+21 ))   

 -وروي عن جعفر بن محمد الصادق ـ فى قوله تعالى :( (فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) (الواقعة : 91 )) . أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد  r .

*وقال الله تعالى :( (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور : 35 )

- قال كعب ، و ابن جبير: المراد بالنور الثاني هنا محمد r . و قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ )*أي نور محمد r
-وقال سهل بن عبد الله : المعنى : الله هادي أهل السموات و الأرض ، ثم قال : مثل نور محمد إذ كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، و أراد بالمصباح قلبه ، و بالزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان و الحكمة يوقد من شجرة مباركة أي من نور إبراهيم . و ضرب المثل بالشجرة المباركة .
و قوله :( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) أي تكاد نبوة محمد
r تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت .
و قيل في هذه الآية غير هذا . و الله أعلم .

*وقد سماه الله تعالى في القرآن في غير هذا الموضع نوراً و سراجاً منيراً ، فقال تعالى  ( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة : 15 )

-وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الأحزاب : 45 +46 ))   
و من هذا قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( 1 ) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ( 2 ) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ( 3 ) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( 4 ) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( 5 ) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( 6 ) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ( 7 ) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ( 8 )) [ سورة الشرح  

شرح : وسع . والمراد بالصدر هنا : القلب . قال ابن عباس : شرحه بالإسلام .
و قال سهل : بنور الرسالة .

 
و قال الحسن : ملأه حكماً و علماً .


و قيل : معناه ألم نطهر قلبك حتى لا يؤذيك الوسواس . و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك :

 
قيل : ما سلف من ذنبك ـ يعني قبل النبوة .


و قيل : أراد ثقل أيام الجاهلية .

 
و قيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي و السلمي .

 
و قيل : عصمناك ، و لولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي .


(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) قال يحيى بن آدم : بالنبوة . و قيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . و قيل : في الأذان  .

-قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه r  على عظيم نعمه لديه ، و شريف منزلته عنده ، و كرامته عليه ، بأن شرح قلبه للإيمان و الهداية ، ووسعه لوعي العلم ، و حمل الحكمة ، و رفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه ، و بغضه لسيرها ، و ما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله ، و حط عنه عهدة أعباء الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، و تنويهه بعظيم مكانه ، و جليل رتبته ، و رفعه و ذكره ، و قِرانه مع اسمه اسمه .

 
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب و لا متشهد و لا صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .

-وروى أبو سعيد الخدري أن النبي r  قال : أتاني جبريل عليه السلام ، فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله و رسوله أعلم . قال : إذا ذكرتُ ذكرتَ معي .

-قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك . و قال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني .
-وقال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية .      
و أشار بعضهم في ذلك إلى الشفاعة .

 
و من ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته و اسمه باسمه ، فقال تعالى : ((قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 )) . (((آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد : 7 )، فجمع بينهما بواو العطف المشركة .
و لا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .

-حدثنا الشيخ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الحافظ فيما أجازنيه   ، و قرأته على الثقة عنه ، قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر بن داسة : حدثنا أبو داود السجزي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن حذيفة رضي الله عنه ، عن النبي r، قال : لا يقولن أحدكم ما شاء الله و شاء فلان ، و لكن ما شاء الله   ثم    شاء فلان .

-قال الخطابي : أرشدهم r إلى الأدب في تقديم مشيئة الله تعالى على مشيئة من سواه ، و اختارها بثم التي هي للنسق و التراخي ، بخلاف الواو التي هي للإشتراك .

-ومثله الحديث الآخر : إن خطيباً خطب عند r، فقال : من يطع الله و رسوله فقد رشد ، و من يعصهما . فقال له النبي r: بئس خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب . قال أبو سليمان : كره منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية .

-وذهب غيره إلى أنه كره له الوقوف على يعصهما .

-وقول أبي سليمان أصح ، لما روي في الحديث الصحيح أنه قال : و من يعصهما فقد غوى ، و لم يذكر الوقوف على يعصهما .

-وقد اختلف المفسرون و أصحاب المعاني في قوله تعالى : ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : 56 ))، هل  (يُصَلُّونَ)  راجعة على الله تعالى و الملائكة أم لا ؟   فأجازه بعضهم ، و منعه آخرون ، لعلة التشريك ، و خصوا الضميربالملائكة ، و قدروا الآية : إن الله يصلي ، و ملائكته يصلون .

-وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك طاعته ، فقال تعالى :( (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء : 80 )
و قد قال تعالى : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 31 ) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 32 )آل عمران-

-روي أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ) فقرن طاعته بطاعته رغماً لهم . و قد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى في أم الكتاب :( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ( 6 ) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) الفاتحة- ، فقال أبو العالية ، والحسن البصري : الصراط المستقيم هو رسول اللهr   و خيار أهل بيته وأصحابه ، حكاه عنهما أبو الحسن المارودي و حكى مكي عنهما نحوه ، و قال : هو رسول الله rو صاحباه : أبو بكر و عمر رضي الله عنهما .

-وحكى أبو الليث السمرقندي مثله عن أبي العالية ، في قوله تعالى : (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)، قال : فبلغ ذلك الحسن ، فقال : صدق والله و نصح .


-وحكى الماوردي ذلك في تفسير (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ )عن عبد الرحمن بن زيد .


-وحكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن بعضهم ، في تفسير قوله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة : 256 )) ـ أنه محمد
r و قيل : الإسلام .
و قيل : شهادة التوحيد .

-وقال سهل في قوله تعالى : (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا  ) (إبراهيم : 34 ) ـ قال : نعمته r
*وقال تعالى :( (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (  33 ) (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ34) الزمر –


أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد  
r

-وقا ل بعضهم : وهو الذي صدق به .-وقرىء : صدق  بالتخفيف . -وقال غيرهم : الذي صدق به المؤمنون   -وقيل أبو بكر . و قيل علي .  وقيل غير هذا من الأقوال .

-وعن مجاهد ـ في قوله تعالى :(   أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد : 28  ) ـ قال : بمحمد r و أصحابه .

الفصل الثاني

في وصفه تعالى له بالشهادة و ما يتعلق بها من الثناء و الكرامة

*قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً  ( 46 )الأحزاب . 

-جمع الله تعالى في هذه الآية ضروباً من رتب الأثرة ، و جملة أوصاف من المدحة فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة ، و هي من خصائصه صلى الله عليه و سلم ، و مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته ، و داعياً إلى توحيده و عبادته ، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق .
-حدثنا الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا هلال ، عن عطاء ابن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله
r  قال : أجل ، و الله ، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) ، و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ  ولا  صخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، و لكن يعفو ويغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لاإله إلا الله ، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً.

-وذكر مثله عن عبد الله بن سلام  وكعب الأحبار ، وفي بعض طرقه ، عن ابن إسحاق : ولا صخِب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال للخنا ، أسدده لكل جميل ، و أهب له كل خلق كريم ، و أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، و التقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ،  والعفو والمعروف خلقه ، والعدل سيرته ، والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلا م ملته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأسمي به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العلة، وأجمع به بعد الفرقة ، وأولف به بين قلوب مختلفة  وأهواء متشتتة   وأمم متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس .

-وفي حديث آخر : أخبرنا رسول الله r عن صفته في التوراة : عبدي أحمد المختار ، مولده بمكة ، و مهاجره بالمدينة ، أو قال : طيبة .  أمته الحمادون لله على كل حال .

-وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )الأعراف 157-158 -
-وقد قال تعالى : ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران : 159)  

-قال السمرقندي : ذكَّرهم الله مِنته أنه جعل رسولَه رحيماً بالمؤمنين ، رؤوفاً ليِّن الجانب ، و لو كان فظاً خشناً في القول لتفرقوا من حوله ، و لكن جعله الله تعالى سمحاً ، سهلاً طلقاً براً لطيفاً .
هكذا قاله الضحاك .

-وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة : 143 )

-قال أبوالحسن القابسي : أبان الله تعالى فضل نبينا r ، و فضل أمته بهذه الآية ،

 -وفي قوله في الآية الأخرى : (وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ)  سورة الحج   78  -

-وكذلك قوله تعالى : ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء : 41 )

 قوله تعالى : وسطاً : أي عدلاً خياراً . ومعنى هذه الآية : و كما هديناكم فكذلك خصصناكم و فضلناكم بأن جعلناكم أمة خياراً عدولاً ، لتشهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم ، و يشهد لكم الرسول بالصدق .
-وقيل : إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء : هل بلغتم؟ فيقولون : نعم . فتقول أممهم : ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فتشهد أمة محمد
r للأنبياء ، و يزكيهم النبي r .
-وقيل : معنى الآية : إنكم حجة على كل من خالفكم ، و الرسول حجة عليكم . حكاه السمرقندي .
-وقال الله تعالى : (
َبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ  )-يونس : 2   
-قال قتادة ، و الحسن ، و زيد بن أسلم : قدم صدق : هو محمد
r ، يشفع لهم .
-وعن الحسن أيضاً : هي مصيبتهم بنبيهم .
-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، هو شفيع صدق عند
ربهم .

-وقال سهل بن عبد الله التستري : هي سابقة رحمة أودعها الله في محمد r .
-وقال محمد بن علي الترمذي : هو إمام الصادقين و الصديقين ، الشفيع المطاع ، و السائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه عنه السلمي .

الفصل الثالث

فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة و المبرة

من ذلك قوله تعالى : ((عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة : 43 )
-قال أبو محمد مكي : قيل هذا إفتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، و أعزك الله .
-وقال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
-وحكى السمرقندي عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب : لم أذنت لهم ؟ .
-قال : ولو بدأ النبي
r  بقوله ، لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ، ثم قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب . و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب .
ومن إكرامه إياه و بره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال نفطويه : ذهب ناس إلى أن النبي
  معاتب بهذه الآية ، و حاشاه من ذلك ، بل كان مخيراً فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لقعـدوا لنفاقهم ، و أنه لا حرج عليه في الأذن لهم .
-قال القاضي أبو الفضل : يجب على المسلم المجاهد نفسه ، ا لرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بأدب القرآن في قوله و فعله ، و معاطاته و محاوراته ، فهو عنصر المعارف الحقيقية ، و روضة الأداب الدينة و الدنيوية ، و ليتأمل هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ، المستغني عن الجميع ، و يستثر ما فيها من الفوائد ، و كيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب ، و أنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب .

-و قال تعالى :( (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (الإسراء : 74 )
قال بعض المتكلمين : عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد الزلات ، و عاتب نبياً
r   قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاءً و محافظة لشرائط المحبة ، و هذه غاية العناية .
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه ، ففي أثناء عتبه براءته ، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته .

-ومثله قوله تعالى : ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) -الأنعام : 33 ).

-قال علي رضي الله عنه : قال أبو جهل للنبي r : إنا لا نكذبك و لكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) .
-وروي أن النبي
r لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل عليه السلام فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ، فأنزل الله تعالى الآية .
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته تعالى له  
r ، و إلطافه به في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، و أنهم غير مكذبين له ، معترفون بصدقه قولاً وإعتقاداً ، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ الأمين ، فدفع بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال تعالى : (  وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) - سورة الأنعام 33   .
فحاشاه من الوصم ، و طوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد إنما يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى : ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل : 14 )

ثم عزاه و آنسه بما ذكره عمن قبله ، و وعده النصر بقوله تعالى : ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) -الأنعام : 34  

-فمن قرأ وإن (يُكْذِبثوك) بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذباً . و قال الفراء ، و الكسائي : لا يقولون إنك كاذب . وقيل : لا يحتجون على كذبك ، و لا يثبتونه .
و من قرأ ( يُكََذِّبُوك) بالتشديد فمعناه : لا ينسبوك إلى الكذب . و قيل : لا يعتقدون كذلك .
و مما ذكر من خصائصه وبر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم ، فقال تعالى : ( يا آدم )،( يا نوح )، (يا موسى )، (يا داود )، (يا عيسى )،( يا زكريا )، (يا يحيى )... و لم يخاطب هو إلا : (يأيها الرسول) ،( يأيها النبي)، (يأ يها المزمل )، (يأيها المدثر) .     

الفصل الرابع

في قسمه تعالى في عظيم قدره

قال الله تعالى :( (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)-الحجر   72 - اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد r ، و أصله ضم العين ، من العُمر ، و لكنها فتحت لكثرة الإستعمال   ومعناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك .
و هذه نهاية التعظيم ، وغاية البر والتشريف .

- قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما برأ نفساً ـ أكرم عليه من محمد r ، و ما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره .
-وقال أبو الجوزاء : ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد
r ، لأنه أكرم البرية عنده .

-وقال تعالى :( يس ( 1 ) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يس.
اختلف المفسرون في معنى (يس) على أقوال ، فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي
r أنه قال : لي عند ربي عشرة أسماء ذكر منها : طه و يس ـ اسمان له .

-وحكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن جعفر الصادق ـ أنه أراد : يا سيد ، مخاطبة لنبيه r      

-عن ابن عباس : يس ـ يا إنسان ، أراد محمداً r.
-وقال : هو قسم ، و هو من أسماء الله تعالى .
-وقال الزجاج : قيل معناه : يا محمد . و قيل : يا رجل . و قيل : يا إنسان .
وعن ابن الحنفية : يس : يا محمد .
و عن كعب : يس : قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السماء و الأرض بألفي عام : يا محمد إنك لمن المرسلين . ثم قال : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ))-يس .
فإن قرر أنه بين أسمائه
r ، و ضح فيه . أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ، و يؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه ، و إن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته ، و الشهادة بهدايته : أقسم الله تعالى باسمه و كتابه إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، و على صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ، ولا عدول عن الحق .
-قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتاب إلا له ، و فيه من تعظيمه و تمجيده ـ عن تأويل من قال : إنه يا سيد ـ ما فيه ، و قد قال
r : أنا سيد ولد آدم ، و لا فخر .
و قال تعالى : (
 لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 )) -سورة البلد   .
-قيل : لا أقسم به إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه ، حكاه مكي .
-وقيل : [ لا ] زائدة ، أي أقسم به و أنت به يا محمد حلال . أو حل لك ما فعلت فيه على التفسيرين .
-والمراد بالبلد عند هؤلاء مكة .
-وقال الواسطي : أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حياً ، و ببركتك ميتاً ـ يعني المدينة .
والأول أصح ، لأن السورة مكية ، و ما بعده يصححه : قوله تعالى (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) البلد     .
ونحوه قول ابن عطاء في تفسير قوله تعالى : ((وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) - التين : 3  قال : أمنها الله تعالى بمقامه فيها و كونه بها ، فإن كونه أمان حيث كان .
ثم قال : _(
(وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) -البلد : 3 ومن قال : أراد آدم فهو عام ، و من قال : هو ابراهيم و ما ولد ـ إن شاء الله ـ إشارة إلى محمد r ، فتتضمن السورة القسم به r في موضعين .
و قال تعالى : (الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)-البقرة :1-  2

- قال ابن عباس : هذه الحروف أقسام أقسم الله تعالى بها . و عنه و عن غيره فيها غير ذلك.
-وقال سهل ابن عبد الله التستري : الألف هو الله تعالى . واللام جبريل و الميم محمد
r .
-وحكى هذا القول السمرقندي ، و لم ينسبه إلى سهل ، و جعل معناه : الله أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه ، و على الوجه الأول يحتمل القسم أن هذا الكتاب حق لا ريب فيه ، ثم فيه من فضيلة قِران اسمه باسمه نحو ما تقدم .

-وقال ابن عطاء ـ في قوله تعالى  (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)-قـ : 1- أقسم بقوة قلب حبيبه محمد r   حيث حمل الخطاب و المشاهدة و لم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله .
و قيل : هو اسم للقرآن . و قيل : هو اسم لله تعالى . و قيل : جبل محيط بالأرض . و قيل غير هذا .
و قال جعفر بن محمد ـ في تفسير : والنجم إذا هوى : إنه محمد صلى الله عليه و سلم ، وقال : النجم قلب محمد
r   : انشرح من الأنوار .

-وقال : انقطع عن غير الله .
و قال ابن عطاء ـ في قوله تعالى(وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) -الْفَجْرِ: محمد
r ، لأنه منه تفجر الإيمان .  

الفصل الخامس

 في قسمه تعالى جده ، له ، ليحقق مكانته عنده

*قال جل اسمه (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى *أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ *) -  الضُّحَى-

 اختلف في سبب نزول هذه السورة ، فقيل : كان ترك النبي r قيام الليل لعذر نزل به ، فتكلمت امرأة في ذلك بكلام .

و قيل : بل تكلم به المشركون عند فترة الوحي ، فنزلت السورة .
قال القاضي الإمام أبو الفضل : تضمنت هذه السورة من كرامة الله تعالى له ، و تنويهه به و تعظيمه إياه ستة و جوه :

الاول : القسم له عما أخبره به من حاله بقوله تعالى (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى). أي ورَب الضحى ،   وهذا من أعظم درجات المبرة .

الثاني : بيان مكانته عنده و حظوته لديه بقوله تعالى : (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) ، أي ماتركك و ما أبغضك . و قيل : ما أهملك بعد أن اصطفاك .

الثالث : قوله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى )، قال ابن إسحاق : اي مالك في مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا .
و قال سهل : أي ما ما ذخرت لك من الشفاعة و المقام المحمود خير لك مما أعطيتك في الدنيا .

الرابع : قوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)
و هذه آية جامعة لوجوه الكرامة ، و أنواع السعادة ، و شتات الإنعام في الدارين . و الزيادة .
قال ابن إسحاق : يرضيه بالفُلْجِ في الدنيا ، و الثواب في الأخرة .
و قيل : يعطيه الحوض و الشفاعة.
وروي عن بعض آل النبي
 rأنه قال : ليس آية في القرآن أرجى منها ، و لا يرضى رسول r  أن يدخل أحد من أمته النار .

الخامس : ما عدّه تعالى عليه من نعمه ، و قرره من آلائه قِبله في بقية السورة ، من هدايته إلى ما هداه له ، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير ، ولا مال له ، فأغناه بما آتاه ، أو بما جعله في قلبه من القناعة و الغنى ، و يتيماً فحدب عليه عمه و آواه إليه .
و قيل : آواه إلى الله . و قيل : يتيماً : لا مثال لك ، فآواك إليه .
و قيل : المعنى : ألم يجدك فهدى بك ضالاً ، و أغنى بك عائلاً ، و آوى بك يتيماً ـ ذكّره بهذه المنن ، و أنه على المعلوم من التفسير لم يُهمله في حال صغره و عيلته و يتمه و قبل معرفته به ، ولا  ودعه  ولا قلاه ، فكيف بعد اختصاصه و اصطفائه !

السادس : أمره بإظهار نعمته عليه وشكر ما شرفه بنشره واشادة ذكره بقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )، فإن من شكر النعمة الحديث بها ، و هذا خاص له ، عام لأمته .

و قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * َما زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى *)- النجم-

اختلف المفسرون في قوله تعالى : (والنجم ) بأقاويل معروفة ، منها النجم على ظاهره ، و منها القرآن .
و عن جعفر بن محمد أنه محمد   
 rوقال : هو قلب محمد .
و قد قيل في قوله تعالى : (وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ *  )- َالطَّارِقِ ـ إن النجم هنا أيضاً محمد
r، حكاه السلمي

تضمنت هذه الأيات من فضله و شرفه العِد ما يقف دونه العَد ، و أقسم جل اسمه على هداية المصطفى ، و تنزيهه عن الهوى ، و صدقه فيما تلا ، و أنه وحي يوحى أوْصله إليه ـ عن الله ـ جبريل ، و هو الشديد القوى .
ثم أخبر تعالى عن فضيلته بقصة الإسراء ، و انتهائه إلى سدرة المنتهى ، و تصديق بصره فيما رأى ، و أنه رأى من آيات ربه الكبرى .  وقد نبَّه على مثل هذا في أول سورة الإسراء .
و لما كان ما كاشفه به عليه السلام من ذلك الجبروت ، و شاهده من عجائب الملكوت لا تحيط به العبارات   ولاتستقل بحمل سماع أذناه العقول ـ رمز عنه تعالى بالإيماءة و الكناية الدالة على التعظيم ، فقال تعالى : (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) - النجم   10- .
و هذا النوع من الكلام يسميه أهل النقد و البلاغة بالوحي و الإشارة ، و هو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز .
و قال تعالى : (
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) – النجم8 1  ـ انحسرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى ،    و تاهت الأحلام في تعيين تلك الآيات الكبرى .

-قال القاضي أبو الفضل : اشتملت هذه الآيات على إعلام الله تعالى بتزكية جملته r ، و عصمتها من الآفات في هذا المسرى ، فزكى فؤاده و لسانه و جوارحه : فزكى قلبه بقوله : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) . و لسانه بقوله :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) .و بصره بقوله : (َما زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)  

-وقال تعالى :( فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ *وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * ))-التكوير   15 -- 25 - .

(لا أقسم) : أي أقسم . (إنه لقول رسول كريم )، أي كريم عند مرسله . (ذي قوة )على تبليغ ما حمله من الوحي  ( مكين ): أي متمكن المنزلة من ربه ، رفيع المحل عنده ،( مطاع ثم ): أي في السماء .(أمين)  على الوحي .

-قال علي بن عيسى وغيره : الرسول الكريم هنا محمد r ، فجميع الأوصاف بَعْدُ على هذا له .
-وقال غيره : هو جبريل ، فترجع الأوصاف إليه .
(وَلَقَدْ رَآهُ) ـ يعني محمداً . قيل : رأى ربه . و قيل : رأى جبريل في صورته .
(وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) ، أي : بمتهم . و من قرأها بالضاد فمعناه : ما هو ببخيل با لدعاء به ، و التذكير بحكمه و بعلمه ، و هذه لمحمد
r باتفاق .

-وقال تعالى :( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ *إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ   * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ *إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ *) - القلم 1-  16 -.

أقسم الله تعالى بما أقسم به من عظيم قسمه على تنزيه المصطفى بما غَمَصَتْه  الكفَرة به ، و تكذيبهم له ، و آنسه ، و بسط أمله بقوله ـ محسناً خطابه : (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). و هذه نهاية المبرة في المخاطبة ، و أعلى درجات الآداب في المحاورة ، ثم أعلمه بما له عنده من نعيم دائم ، و ثواب غير منقطع ، لا يأخذه عد ، و لا يمتَنّ به عليه ، فقال تعالى:( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ).
ثم أثنى عليه بما منحه من هباته ، و هداه إليه ، و أكد ذلك تتميماً للتمجيد ، بحرفي التأكيد ، فقال تعال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) . قيل : القرآن و قيل : الإسلام . و قيل : الطبع الكريم . و قيل : ليس لك همة إلا الله .

-قال الواسطي : أثنى عليه بحسن قبوله لما أسداه إليه من نعمه ، و فضله بذلك على غيره ، لأنه جبله على ذلك الخلق ، فسبحان اللطيف الكريم ، المحسن الجواد ، الحميد الذي يسر للخير و هدى إليه ، ثم أثنى على فاعله ، و جازاه عليه سبحانه ، ما أغمَر نوالَه ، و أوسعَ إفضاله ، ثم سلاه عن قولهم بعد هذا بما و عده به من عقباهم ، و توعدهم بقوله :(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ *إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) - القلم     5- 7 
ثم عطف بعد مدحه على ذم عدوه ، و ذكره سوء خلقه ،و عد معايبه ، متولياً ذلك بفضله ، و منتصراً لنبيه ، فذكر بضع عشرة خصلة من خصال الذم فيه بقوله : (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ   * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ *إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ *) ثم ختم ذلك بالوعيد الصادق بتمام شقائه وخاتمة بواره بقوله تعالى :( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ *)) . فكانت  نُصرة الله تعالى له أتم من نصرته لنفسه ، و رده تعالى على عدوِّه أبلغ من ردِّه ،وأثبت في ديوان مجده .

الفصل السادس

فيما ورد من قوله تعالى في جهته عليه السلام مورد الشفقة و الإكرام


قال تعالى : (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى *  ) - طه 1-2

- قيل : طه : اسم من أسمائه عليه السلام . و قيل : هو اسم الله، و قيل : معناه يارجل .و قيل : يا إنسان . و قيل : هي حروف مقطعة لمعان .  

-وقال الواسطي : أراد يا طاهر ، يا هادي . و قيل : هو أمر من الوطء . و الهاء كناية عن الأرض ، أي اعتمد على الأرض بقدميك ، ولا تتعب نفسك بالإعتماد على قدم واحد ، وهو قوله تعالى : (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى.)نزلت الآية فيما كان النبي r يتكلفه من السهر و التعب و قيام الليل.

-أخبرنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ، و غير واحد ، عن القاضي أبي الوليد الباجي إجازة   ومن أصله نقلت ، قال : حدثنا أبوذر الحافظ ، حدثنا أبو محمد الحموي ،حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي جعفر ،عن الربيع بن انس ، قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى قام على رجل و رفع الأخرى ، فأنزل الله تعالى : (طه) ـ يعني طأ الأرض يا محمد ، (  أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * )) - طه  2 - 4   .
ولا خفاء بما في هذا كله من الإكرام و حسن المعاملة .
وإن جعلنا طه من أسمائه عليه السلام كما قيل ، أو جعلت قسماً لحق الفصل بما قبله .
-ومثل هذا من نمط الشفقة و المبرة قوله تعالى : ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف : 6 ))، أي قاتل نفسك لذلك غضباً أو غيظاً ، أو جزعاً .
-ومثله قوله تعالى أيضاً :( (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء : 3 ))، ثم قال : ((إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) (الشعراء : 4  

-ومن هذا الباب قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ *) (الحجر 94  - 97 ) .
وقوله :( (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأنعام : 10)     (الأنبياء   41)

 قال مكي : سلاه بما ذكر ، و هون عليه ما يلقى من المشركين ، و أعلمه أن من تمادى على ذلك يحل به ما بمن قبله .

-ومثل هذه التسلية قوله تعالى : ((وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) (فاطر :   فاطر   4 ] .

-ومن هذا قوله تعالى :( (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات :   52 ) .
عزاه الله تعالى بما أخبر به عن الأمم السالفة و مقالتها لأنبيائهم قبله ، و محنتهم بهم ، و سلاه بذلك من محنته بمثله من كفار مكة ، و أنه ليس أول من لقي ذلك ، ثم طيب نفسه ، و أبان عذره بقوله تعالى : ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) (الذاريات : 54 )) ، أي أعرض عنهم (فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ)، ( الذاريات : 54 ))  أي في أداء ما بلغت و إبلاغ ما حملت .

-ومثله قوله تعالى : ((وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور : 48 ))، أي اصبر على أذاهم فإنك بحيث نراك و نحفظك .
سلاه الله تعالى بهذا في آي كثيرة من هذا المعنى .



الفصل السابع

 فيما أخبر الله تعالى به في كئتابه العزيز من عظيم قدره و شريف منزلته و حظوة رتبته

-قوله تعالى : ((وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (آل عمران : 81 )


-قال أبو الحسن القابسي : استخص الله تعالى  محمداً
r بفضل لم يؤته غيره ، أبانه به ، و هو ما ذكره في هذه الآية ، قال المفسرون : أخذ الله الميثاق بالوحي ، فلم يبعث نبياً إلا ذكر له محمداً و نعته ، و أخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنَن به .
و قيل : أن يبينه لقومه ، و يأخذ ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم . و قوله : (ثُمَّ جاءَكُم ): الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد
r .

-قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لم يبعث الله نبينا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد r   لئن بُعث و هو حي ليؤمِنَن به و لينصرنّه ، و يأخذ العهد بذلك على قومه .
و نحوه عن السدي و قتادة في آي تضمنت فضله من غير وجه واحد .

-قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) (الأحزاب : 7 )) .

-وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً *لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً  * ( النساء   163 ، 166 ) .

روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في كلام بكى به النبي r، فقال بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن بعثك آخر الأنبياء ، و ذكرك في أولهم ، فقال :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ( الأحزاب   7 ).  بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك   وهم بين أطباقها يعذبون يقولون :( َيا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (الأحزاب : 66 ).

-قال قتادة : إن النبي r قال : كنت أول الأنبياء في الخلق ، و آخرهم في البعث ، فلذلك وقع ذكره مقدماً هنا قبل نوح و غيره .

-قال السمر قندي : في هذا تفضيل نبياً r ، لتخصيصه بالذكر قبلهم ، و هو آخرهم .
المعنى : أخذ الله تعالى عليهم الميثاق ، إذ أخرجهم من ظهر آدم كالذر .

-وقوله تعالى : ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة : 253 ))   .

-قال أهل التفسير : أراد بقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) ـ محمداً r ، لأنه بعث إلى الأحمر و الأسود   وأحلت له الغنائم ، وظهرت على يديه المعجزات ، وليس أحد من الأنبياء أعطي فضيلة أو كرامة إلا وقد أعطي محمد r مثلها .

-قال بعضهم : و من فضله أن الله تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم ، و خاطبه بالنبوة و الرسالة في كتابه ، فقال :( (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)(الأحزاب 1) ، و ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك) .
( المائدة67)-

وحكى السمر قندي عن الكلبي ـ في قوله تعالى :( (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) (الصافات : 83 )) ـ أن الهاء عائدة على محمد r ، أي أن من شيعة محمد لإبراهيم ، أي على دينه و منهاجه .
و أجازه الفراء ، و حكاه عنه مكي . و قيل : المراد نوح عليه السلام .


                                                     
الفصل الثامن

في إعلام الله تعالى خلقه بصلواته عليه و ولايته له و رفعه العذاب بسببه

قال الله تعالى : ((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ  ) (الأنفال : 33 ))، أي ما كنت بمكة ، فلما خرج النبي r من مكة ، و بقي من المؤمنين نزل : (َمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال : 33 ) .
-وهذا مثل قوله :( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح : 25 ).
-وقوله تعالى( وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ  ) (الفتح : 25 )): فلما هاجر المؤمنون نزلت (وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (الأنفال : 34 ) وهذا من أبين ما يظهر مكانته
r ، ودرأ به العذاب عن أهل مكة بسبب كونه ، ثم كون أصحابه بعده  بين أظهرهم ، فلما خلت مكة منهم عذبهم الله بتلسيط المؤمنين عليهم   وغلبتهم إياهم ، وحكم فيهم سيوفيهم ، وأورثهم أرضهم  وديارهم  وأموالهم .
و في الآية أيضاً تأويل آخر :

-حدثنا القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله بقراءتي عليه ، قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، وأبو الحسين الصيرفي ، قالا : حدثنا أبو يعلى ابن زوج الحرة ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن محبوب المروزي ، حدثنا أبو عيسى الحافظ ، حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا ابن نمير ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن عباد بن يوسف ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله r : أنزل الله علي أمانين لأمتي،(وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ  َمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) فإذا مضيت تركت فيهم الإستغفار .

-ونحو منه قوله تعالى : ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء : 107 ))   

وقال r : أنا أمان لأصحابي .قيل : من البدع .
و قيل : من الإختلاف و الفتن .

-قال بعضهم : الرسول r هو الأمان الأعظم ما عاش ، و ما دامت سنته باقية فهو باق ، فإذا أميتت سنته فانتظر البلاء و الفتن .

-وقال الله تعالى  : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : 56 ))   

أبان الله تعالى فضل نبيه r بصلواته عليه ، ثم بصلاة ملائكته ، و أ مر عباده بالصلاة و التسليم عليه .
-وقد حكى أبوبكر بن فورك أن بعض العلماء تأول قوله
r : و جعلت قرة عيني في الصلاة على هذا ، أي في صلاة الله تعالى علي و ملائكته و أمره الأمة بذلك إلى يوم القيامة  . و الصلاة من الملائكة  استغفار  ، و منا له دعاء ، و من الله عز و جل رحمة . و قيل : يصلون : يباركون .


 -وقد فرق النبي
r  حين علم الصلاة عليه بين لفظ الصلاة و البركة .
و سنذكر حكم الصلاة عليه .

-وذكر بعض المتكلمين في تفسير حروف ((كهيعص) (مريم : 1 )) أن الكاف من كافٍ  ، أي كفاية الله تعالى لنبيه ، قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك ) (الزمر  36 )  .
و الهاء هدايته له ، قال : (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) (الفتح : 2 ))   
و الياء تأييده ، قال :( هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال : 62 ))
و العين عصمته له قال : (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ  ) (المائدة : 67 ))   
و الصاد : صلواته عليه ، قال (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : 56 ))   وقال تعالى :( وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم : 4 ) )، مولاه أي وليه . و صالح المؤمنين : قيل : الأنبياء . و قيل :
الملائكة . و قيل : أبوبكر ، و عمر . و قيل : علي . و قيل : المؤمنون على ظاهره .


                                                   ا
لفصل التاسع

 فيما تضمنته سورة الفتح من كراماته صلى الله عليه و سلم

قال الله تعالى :( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً *وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً *وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً *لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ * (  الفتح   1إلى10 ] .

تضمنت هذه الأيات من فضله الثناء عليه و كريم منزلته عند الله تعالى ، و نعمته لديه ـ ما يقصر الوصف عن الإنتهاء إليه ، فابتدأ جل جلاله ـ بإعلامه بما قضاه له من القضاء البين بظهور ه ، و غلبته على عدوه ، وعلُو كلمته و شريعته ، وأنه مغفور له ، غير مؤاخذ بما كان و ما يكون .
قال بعضهم : أراد غفران ما وقع و ما لم يقع ، أي إنك مغفور لك .
-وقال مكي : جعل الله المنة سبباً للمغفرة ، وكل من عنده ، لا إله غيره   منةً بعد منة ، و فضلاً بعد فضل  
ثم قال : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) : قيل بخضوع من تكبر عليك .
وقيل : يفتح مكة و الطائف .
-وقيل : يرفع ذكرك في الدنيا وينصرك ويغفر لك ، فأعلمه بتمام نعمته عليه بخضوع متكبري عدوه له ، وفتح أهم البلاد عليه وأحبها له ، و رفع ذكره ، و هدايته الصراط المستقيم المبلغ الجنة والسعادة ،      ونصره النصر العزيز ، ومنته على أمته المؤمنين بالسكينة والطمأنينة التي جعلها في قلوبهم ، و بشارتهم بما لهم بعد ، وفوزهم العظيم ، والعفو عنهم ، والستر لذنوبهم ، وهلاك عدوه في الدنيا والآخرة ، ولعنهم وبعدهم من رحمته ، وسوء منقلبهم .
ثم قال :(
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً  * )) –الفتح-8+9-  فعد محاسنه وخصائصه ، من شهادته على أمته لنفسه ، بتبليغه الرسالة لهم .

-وقيل : شاهداً لهم بالتوحيد ، ومبشراً لأمته بالثواب . وقيل : بالمغفرة  ومنذراً عدوه بالعذاب .
-وقيل : محذراً من الضلالات ليؤمنوا بالله ثم به
r  من سبقت له من الله الحسنى . و يعزروه ،        ويجلونه . وقيل : ينصرونه . وقيل : يبالغون في تعظيمه .  ويوقروه ، أي يعظموه .
وقرأه بعضهم : تعززوه ـ بزاءين : من العز ، والأكثر والأظهر أن هذا في حق محمد
r   .
ثم قال : (وَتُسَبِّحُوهُ  )، فهذا راجع إلى الله تعالى .
-قال ابن عطاء جمع للنبي
r  في هذه السور نعم مختلفة ، من الفتح المبين ، و هو من أعلام الإجابة   والمغفرة ، وهي من أعلام المحبة ، و تمام النعمة ، و هي من أعلام الإختصاص . والهداية ، وهي من أعلام الولاية ، فالمغفرة تبرئة من العيوب ، وتمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة ، والهداية وهي الدعوة إلىالمشاهدة .  

-وقال جعفر بن محمد : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ، و أقسم بحياته ، و نسخ به شرائع غيره ، و عرج به إلى المحل الأعلى ، و حفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر و ما طغى ، و بعثه إلى الأحمر و الأسود ، وأحل له ولأمته الغنائم ، و جعله شفيعاً مشفعاً ، وسيد ولد آدم ، وقرن ذكره بذكره ، ورضاه برضاه ، و جعله أحد ركني التوحيد .

ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) ـ الفتح 10ـ يعني بيعة الرضوان ، أي إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك .
(يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ـ الفتح 10ـ ، يريد عند البيعة . قيل : قوة الله ، وقيل : ثوابه . وقيل : مِنته . وقيل : عقده ، وهذه استعارة ، وتجنيس في الكلام ، وتأكيد لعقد بيعتهم إياه . وعظم شأن المبايع
r
وقد يكون من هذا قوله تعالى : ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى  ) ـالأنفال : 17 ـ ، و إن كان الأول في باب المجاز ، و هذا في باب الحقيقة ، لأن القاتل و الرامي بالحقيقة هو الله ، وهو خالق فعله ورميه ، وقدرته عليه ومسببه ، ولأنه ليس في قدرة البشر توصيل تلك الرمية حيث وصلت ، حتى لم يبق منهم من لم تملأ عينيه ، وكذلك قتل الملائكة لهم حقيقة .
-وقد قيل في هذه الآية الأخرى إنها على المجاز العربي ، و مقابلة اللفظ ومناسبته ، أي ما قتلتموهم ،    وما رميتهم أنت إذ رميت وجوههم بالحصباء والتراب ، ولكن الله رمى قلوبهم بالجزع ، أي إن   منفعة الرمي كانت من فعل الله ، فهو القاتل و الرامي بالمعنى و أنت بالاسم .


 

الفصل العاشر

فيما أظهره الله تعالى في كتابه العزيز من كرامته عليه و مكانته عنده و ما خصه الله به من ذلك سوى ما انتظم فيما ذكرناه قبل

ومن ذلك ما قصه تعالى في قصة الإسراء في سورة : سبحان ، و النجم ، و ما انطوت عليه القصة من عظيم منزلته و قربه و مشاهدته ما شاهد من العجائب .
ومن ذلك عصمته من الناس بقوله تعالى : (َاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ  ) ـالمائدة : 67 ـ . و قوله تعالى : ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) ـالأنفال : 30ـ

و قوله :  (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ـالتوبة : 40 ـ

وما رفع الله به عنه في هذه القصة من أذاهم بعد تحزبهم لهلكه وخلوصهم نجيا في أمره ، والأخذ على أبصارهم عند خروجه عليهم ، وذهولهم عن طلبه في الغار ، وما ظهر في ذلك من آيات ، و نزول السكينة عليه ، و قصة سراقه بن مالك حسب ما ذكره أهل الحديث والسير في قصة الغار ، وحديث الهجر ة .

ومنه قوله تعلى : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ * )) ـالكوثرـ

أعلمه الله تعال بما أعطاه . والكوثر حوضه . وقيل : نهر في الجنة . وقيل الخير الكثير . وقيل : الشفاعة   وقيل : المعجزات الكثيرة . وقيل : النبوة . و قيل : المعرفة . ثم أجاب عنه عدوه ، ورد عليه قوله ، فقال تعالى :( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ، أي عدوك ومبغضك . والأبتر : الحقير الذليل ، أو المفرد الوحيد ، أو الذي لاخير فيه .

 وقال تعالى :( (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ـالحجر : 87 ـ     .

-قيل : السبع المثاني السور الطوال الأول . والقرآن العظيم : أم القرآن . وقيل : السبع المثاني : أم القرآن . والقرآن العظيم : سائره . و قيل : السبع المثاني : ما في القرآن ، من أمر ، ونهى ، وبشرى ، وإنذار ، وضرب مثل ، وإعداد نعم ، وآتيناك نبأ القرآن العظيم .
-وقيل : سميت أم القرآن مثاني لأنها تثني في كل ركعة . وقيل : بل الله تعالى اثتثناها لمحمد
r ،     و ذخرها له دون الأنبياء .

-وسمي القرآن مثاني : لأن القصص تثني فيه . و قيل : السبع المثاني : أكرمناك بسبع كرامات : الهدي   والنبوة ، والرحمة ، والشفاعة ، والولاية ، والتعظيم ، والسكينة . وقال : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ـالنحل : 44 ـ

-وقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)ـسبأ : 28 ـ.+

-وقال تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ـالأعراف : 158 ـ

- قال القاضي : فهذه من خصائصه .

-وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ـإبراهيم : 4 ـ فخصهم بقومهم ، و بعث محمداً r  إلى الخلق كافة ، كما قال r : [ بعثت إلى الأحمر و الأسود ] .

-وقال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) ـالأحزاب : 6 ).

- قال أهل التفسير :( أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ): أي ما أنفذه فيهم من أمر فهو ماض عليهم كما يمضي حكم السيد على عبده .
-وقيل : اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس .( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، أي هن في الحرمة كالأمهات ، حرم نكاحهن عليهم بعده ، تكرمة له وخصوصية ، و لأنهن له أزواج في الآخرة .
-وقد قرىء : و هو أب لهم . و لا يقرأ به الآن  لمخالفته المصحف .

-وقال الله تعالى :( وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ـالنساء : 113 ـ

قيل : فضله العظيم بالنبوة . و قيل : بما سبق له في الأزل . وأشار الواسطي إلى أنها إشارة إلى احتمال الرؤية التي لم يحتملها موسى ، صلى الله عليهما .

الباب الثاني

في تكميل الله تعالى له المحاسن خلقاً و خلقاً و قرانه جميع الفضائل الدينية و الدنيوية فيه نسقاً

وفيه 23 فصلا:

1-  في اجتماع خصال الكمال والجلال  فيه  r   

2- في تفصيل هذه الخصال المحمودة : صفاته الجسمية r

3-   في نظافة جسمهr  ، و طيب رائحته ، و نزاهته عن الأقذار و عورات الجسد

4- رجاحة عقله وفصاحة لسانه r  

5-  فصاحة لسانه ، و بلاغة قولهr

6- شرف نسبه وكرم بلده ومنشئهr

7 – حالتهr في الضروريات  

8- في الخصال المكتسية من الأخلاق الحميدة

9- في بيان أصول هذه الأخلاق و تحقق وصف النبي r  بها

10- في الفرق بين الحلم والإحتمال ، والعفو مع القدرة ، والصبر على ما يكره

11- في معاني الجود و الكرم ، و السخاء و السماحة

12- في الشجاعة و النجدة

 13- في حسن عشرتهr   وأدبه و بسط خلقه

14-  في شفقته  r ورأفته ورحمته لجميع الخلق

15- خلقهr   في الوفاء وحسن العهد ، وصلة الرحم

16- في تواضعه r

17- عدله ، و أمانته ، و عفته ، وصدق لهجته r

 18- وقاره r ، و صمته ، و تؤدته و حسن هديه

 19- زهده r  في الدنيا 

 20- خوفه ربه ، و طاعته له ، و شدة عبادته  r

21- تفضيل الله بعض الأنبياء عليهم السلام  على بعض

22- حديث جامع لوصفه r

23- في تفسير غريب هذا الحديث و مشكله                              

مقدمة الباب الثاني

اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم r   ، الباحث عن تفاصيل جمل قدره العظيم أن خصال الجلال و الكمال في البشر نوعان : ضروري دنيوي اقتضته الجبلة و ضرورة الحياة الدنيا ، و مكتسب ديني ، و هو ما يحمد فاعله ، و يقرب إلى الله تعالى زلفى .
ثم هي على فنين أيضاً : منها ما يتلخص لأحد الوصفين . و منها ما يتمازج و يتداخل .
فأما الضروري المحض فما ليس للمرء فيه اختيار و لا اكتساب ، مثل ما كان في جبلته من كمال خلقته ، وجمال صورته ، وقوة عقله ، وصحة فهمه ، وفصاحة لسانه ، وقوة حواسه و عضائه ، واعتدال حركاته ، وشرف نسبه ، وعزة قومه ، وكرم أرضه ، ويلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه ، من غذائه ونومه ، وملبسه ومسكنه ، ومنكحه ، وما له وجاهه .
وقد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى ومعونة البدن على سلوك طريقها ، و كانت على حدود الضرورة وقوانين الشريعة .
وأما المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية ، والأداب الشرعية : من الدين والعلم ، والحلم ، والصبر ، والشكر ، والمروءة ، والزهد ، والتواضع ، والعفو ، والعفة ، والجود ، والشجاعة ، والحياء ، والمروءة ، والصمت ، والتؤدة ، والوقار ، والرحمة ، وحسن الأدب والمعاشرة ، وأخواتها  وهي التي جَمعها :حسن الخلق .

وقد يكون من هذه الأخلاق ما هو في الغريزة و أصل الجبلة لبعض الناس .
وبعضهم لا تكون فيه ، فيكتسبها ، و لكنه لابد أن يكون فيه من أصولها في أصل الجبلة شعبة كما سنبينه إن شاء الله .
و تكون هذه الأخلاق دنيوة إذا لم يرد بها وجه الله والدار الآخرة ، ولكنها كلها محاسن و فضائل باتفاق أصحاب العقول السليمة ، وإن اختلفوا في موجب حسنها و تفضيلها . 

                              الفصل الأول
                                في اجتماع خصال الكمال والجلال  فيه  
r   

إذا كانت خصال الكمال والجمال ما ذكرناه ، و وجدنا الواحد منا يشرف بواحدة منها أو باثنتين إن اتفقت له ـ في كل عصر ، إما من نسب أو جمال ، أو قوة ، أو علم ، أو حلم ، أو شجاعة ، أو سماحة ، حتى يعظم قدره ، و يضرب باسمه الأمثال ، و يتقرر له بالوصف بذلك قي القلوب إثرة وعظمة ، وهو منذ عصور خوال رمم بوال ، فما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما لا يأخذه عد ، ولا يعبر عنه مقال ، ولا ينال بكسب ولا حيلة إلا بتخصيص الكبير المتعال ، من فضيلة النبوة والرسالة ،     والخلة والمحبة ، والإصطفاء والإسراء والرؤية ، والقرب والدنو ، والوحي ، والشفاعة والوسيلة ،      والفضيلة والدرجة الرفيعة ، والمقام المحمود ، والبراق والمعراج ، والبعث إلى الأحمر والأسود ،        و الصلاة بالأنبياء ، والشهادة بين الأنبياء والأمم ، وسيادة ولد آدم   ، و لواء الحمد ، و البشارة ،       والنذارة والمكانة عند ذي العرش والطاعة ثم ، والأمانة والهداية ورحمة للعالمين ، وإعطاء الرضا       والسول ، والكوثر ، وسماع القول ، واتمام النعمة والعفو عما تقدم و تأخر ، وشرح الصدر ، ووضع الوزر ، و رفع الذكر وعزة النصر ، ونزول السكينة ، والتأييد بالملائكة ، وإيتاء الكتاب والحكمة والسبع المثاني والقرآن العظيم ، وتزكية الأمة والدعاء إلى الله ، وصلاة الله تعالى والملائكة ، والحكم بين الناس بما أراه الله ، ووضع الإصر والأغلال عنهم ، والقسم باسمه ، وإجابة دعوته ، وتكليم الجمادات والعجم ، وإحياء الموتى ، وإسماع الصم ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير القليل ، وانشفاق القمر ، وردّ الشمس ، وقلب الأعيان ، والنصر بالرعب ، والإطلاع على الغيب ، وظل الغمام ، وتسبيح الحصا ،        وإبراء الآلام ، والعصمة من الناس ، إلى ما لا يحويه محتفل ، و لا يحيط بعلمه إلا مانحه ذلك و مفضله به  لا إله غيره ، إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة ، ودرجات القدس ، ومراتب السعادة والحسنى والزيادة التي تقف دونها العقول ويحار دون أدانيها الوهم .

الفصل الثاني
 في تفصيل هذه الخصال المحمودة : صفاته الجسميةr

إن قلت أكرمك الله : لا خفاء على القطع بالجملة أنه r أعلى الناس قدراً ، و أعظمهم محلاً ، و أكملهم محاسن و فضلاً ، و قد ذهب في تفاصيل خصال الكمال مذهباً جميلاً شوقني إلى أن أقف عليها من أوصافه rتفصيلا . . .

 فاعلم نور الله قلبي و قلبك ، و ضاعف في هذا النبي الكريم r حبي و حبك ـ أنك إذا نظرت إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة في جبلة الخلقة و جدته حائزاً لجميعها ، محيطاً بشتات محاسنها دون خلاف بين نقلة الأخبار لذلك ، بل قد بلغ بعضها مبلغ القطع . أما الصورة و جمالها ، و تناسب أعضائه في حسنها ، فقد جاءت الآثار الصحيحة و المشهورة الكثيرة بذلك ، من حديث علي ، و أنس بن مالك ،   و أبي هريرة ، و البراء بن عازب ، و عائشة أم المؤمنين ،و ابن أبي هالة ،و أبي جحيفة ، وجابر بن سمرة ، و أم معبد ، و ابن عباس ، و معرض بن معيقيب ، و أبي الطفيل ، و العداء بن خالد ، و خريم بن فاتك ، و حكيم بن حزام ، و غيرهم ، من أنه r كان أزهر اللون ، أدعج ، أنجل ، أشكل ، أهدب الأشفار ، أبلج ، أزج ، أقنى ، أفلج ، مدور الوجه ، واسع الجبين ، كث اللحية تملأ صدره ، سواء البطن و الصدر ، واسع الصدر ، عظيم المنكبين ، ضخم العظام ، عبل العضضين و الذراعين و الأسافل ، رحب الكفين و القدمين ، سائل الأطراف ، أنور المتجرد ، دقيق المسربة ، ربعة القد ، ليس بالطويل البائن ،   ولا بالقصير المتردد ، مع ذلك فلم يكن يماشيه أحد ينسب الى الطول إلا طاله r ، رجل الشعر ، إذا افتر ضاحكاً افتر عن مثل سنا البرق ، و عن مثل حب الغمام ، إذا تكلم رئى كالنور يخرج من ثناياه ، أحسن الناس عنقاً ، ليس بمُطَهَّم و لا مكلثضم ، متماسك البدن ، ضرب اللحم .

-قال البراء بن عازب : مارأيت من ذي لِمة في حُلة حمراء أحسن من رسول r

-وقال أبو هريرة رضي الله عنه :   مارأيت شيئاً أحسن من رسول اللهr ، كأن الشمس تجري في وجهه ، و إذا ضحك يتلألأ في الجُدُر  .

-وقال جابر بن سمرة ـ و قال له رجل : كان و جهه r مثل السيف ؟ فقال :   لا ، بل مثل الشمس    والقمر . و كان مستديرا  .

-وقالت أم معبد ـ في بعض ما وصفته به  :  أجمل الناس من بعيد ، و أحلاه و أحسنه من قريب   r تسليمًا كلما ذكره الذاكرون ، و غفل عن ذكره الغافلون   .

-و في حديث ابن أبي هالة :   يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر        

 -وقال علي رضي الله عنه في آخر و صفة له :  من رآه بديهة هابه ، و من خالطه معرفة أحبه ، يقول ناعته : لم أر قبله و لا بعده مثله r.      

والأحاديث في بسط صفته مشهورة كثيرة ، فلا نطول بسردها . و قد اختصرنا في و صفه نُكت ما جاء فيها ، و جملة مما فيه الكفاية في القصد إلى المطلوب ، و ختمنا هذه الفصول بحديث جامع لذلك تقف عليه هناك إن شاء الله .

الفصل الثالث

في نظافة جسمهr    ، و طيب رائحته ، و نزاهته عن الأقذار و عورات الجسد

وأما نظافة جسمه ، وطيب ريحه وعرقه ، ونزاهته عن الأقذار وعورات الجسد ـ فكان قد خصه الله في ذلك بخصائص لم توجد في غيره ، ثم تممها بنظافة الشرع وخصال الفطرة العشر ، و قال : [ بني الدين على النظافة ] .
-حدثنا سفيان بن العاصي وغير واحد ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر . حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، قال : حدثنا قتيبة ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس ، قال :   ما شممت عنبراً قط ، و لا مسكاً ، و لا شيئاً أطيب من ريح رسول الله
r .
-وعن جابر بن سمرة : أنه
r  مسح خده ، قال : فوجدت ليده برداً وريحاً ، كأنما أخرجها من جونة عطار .

-قال غيره : مسها بطيب أو لم يمسها ، يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها ، و يضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها .

-ونام رسول الله r  في دار أنس فعرق ، فجاءت أمه بقارورة تجمع فيها عرقه فسألها رسول الله r  عن ذلك ، فقالت : نجعله في طيبنا ، و هو من أطيب الطيب .

-وذكر البخاري في تاريخه الكبير ، عن جابر :  لم يكن النبي r  يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه   .

-وذكر اسحاق بن راهويه أن تلك كانت رائحته بلا طيب ، r

-وروى المزني : عن جابر قال : أردفني النبي r  خلفه ، فالتقمت خاتم النبوة بفمي ، فكان ينم على مسكا  .

-وقد حكى بعض المعتنين بأخباره وشمائله r  أنه كان إذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض فابتلعت غائطه و بوله ، و فاحت لذلك رائحة طيبة .  

-وأسند محمد بن سعد كاتب الواقدي في هذا خبراً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي r : إنك تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئاً من الأذى ! فقال : يا عائشة ، أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء ، فلا يرى منه شيء .

-وهذا الخبر ، و إن لم يكن مشهوراً فقد قال قوم من أهل العلم بظهارة الحدثين منه r . و هو قول بعض أصحاب الشافعية ،  حكاه الإمام أبو نصر ابن الصباغ في شامله  .

-وقد حكى القولين عن العلماء في ذلك أبو بكر بن سابق المالكي في كتابه البديع في فروع المالكية ،    و تخريج ما لم يقع لهم منها على مذهبهم من تفاريع الشافعية .
وشاهد هذا أنه
r  لم يكن منه شيء يكره ، و لا غير طيب . ومنه حديث علي رضي الله عنه :   غسلت النبي r ، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أجد شيئاً ، فقلت : طبت حياً و ميتاً ، قال :       وسطعت منه ريح طيبة لم نجد مثلها قط ] .

-ومثله قال أبوبكر رضي الله عنه حين قبل النبي r بعد موته .

-ومنه شُرب مالك بن سنان دمه يوم أحد ، و مَصُّه إياه  ، و تسويغه r  ذلك له ، وقوله : لن تصيبه النار .

-ومثله شُرب عبد الله بن الزبير دم حجامته ، فقال له r : ويل لك من الناس ، و ويل لك منك ولم ينكره عليه .

-وقد روي نحو من هذا عنه في امرأة شربت بوله ، فقال لها : لن تشتكي وجع بطنك أبداً . و لم يأمر واحداً منهم بغسل فم ، و لا نهاه عن عودة .  وحديث هذه المرأة التي شربت بوله صحيح ألزم الدارقطني مسلماً والبخاري إخراجه في الصحيح ، و اسم هذه المرأة بركة . و اختلف في نسبها .
وقيل : هي أم أيمن : و كانت تخدم النبي
r ، قالت : و كان لرسول الله r  قدح من عيدان يوضع تحت سريره يبول فيه من الليل ، فبال فيه ليلة ، ثم افتقده ، فلم يجد فيه شيئاً . فسأل بركة عنه ، فقالت : قمت و أنا عطشانة فشربته و أنا لا أعلم . -روى حديثها ابن جريج و غيره .

-وكان r  قد ولد مختوناً مقطوع السرة .

  -وروي عن أمه آمنة أنها قالت : قد ولدته نظيفاً ما به قذر  .

-وعن عائشة رضي الله عنها :  ما رأيت فرج رسول الله r  قط  .
-وعن علي رضي الله عنه : أوصاني النبي
r لا يغسله غيري ، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه .

-وفي حديث عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما :   أنه نام حتى سمع له غطيط ، فقام فصلى و لم يتوضأ   ، قال عكرمة : لأنه r  كان محفوظاً .

الفصل الرابع

 رجاحة عقله وفصاحة لسانه r

وأما وفور عقله ، وذكاء لبه ، وقوة حواسه ، وفصاحة لسانه ، واعتدال حركاته ، وحسن شمائله ـ فلا مرية أنه كان أعقل الناس و أذكاهم .
ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق و ظواهرهم ، و سياسة العامة و الخاصة ، مع عجيب شمائله ،       و بديع سيره ، فضلاً عما أفاضه من العلم ، وقرره من الشرع دون تعلم سبق ، ولا ممارسة تقدمت ، ولا مطالعة للكتب منه ، لم يمتر في رجحان عقله ، و ثقوب فهمه لأول بديهة ، وهذا ما لا يحتاج إلى تقريره لتحقيقه .

-وقد قال وهب بن منبه : قرأت في أحد و سبعين كتاباً ، فوجدت في جميعها أن النبي r  أرجح الناس عقلاً ، و أفضلهم رأياً .

-وفي رواية أخرى : فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله r إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا .

-وقال مجاهد :   كان رسول الله r إذا قام في الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه  . و به فسر قوله تعالى : ((وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ـالشعراء : 219 ـ .

-وفي الموطأ عنه r: إني لأراكم من وراء ظهري .

-ونحوه ـ عن أنس في الصحيحين ، و عن عائشة مثله ، قالت : زيادة زاده الله إياها في حجته .

-وفي بعض الروايات : إني لأنظر من ورائي كما أنظر من بين يدي .

-وفي أخرى : إني لأبصر من قفاي كما أبصر من بين يدي .

-وحكى بقي بن مخلد ، عن عائشة ، قالت : كان النبي r يرى في الظلمة كما يرى في الضوء .

-والأخبار كثيرة صحيحة في رؤيته r للملائكة و الشياطين .

-ورفع النجاشي له حتى صلى عليه ، و بيت المقدس حين وصفه لقريش، والكعبة حين بنى مسجده .

-وقد حكي عنه r أنه كان يرى في الثريا أحد عشر نجماً .

-وهذه كلها محمولة على رؤية العين ، و هو قول أحمد بن حنبل و غيره .

-وذهب بعضهم إلى ردها إلى العلم ، و الظواهر تخالفه ، و لا إحالة في ذلك ، و هي من خواص الأنبياء و خصالهم ، كما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد العدل من كتابه ، حدثنا أبو الحسن المقري الفرغاني ، حدثتنا أم القاسم بنت أبي بكر عن أبيها ، حدثنا الشريف أبو الحسن علي بن محمد الحسني ، حدثنا محمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمدبن أحمد بن سليمان ، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا همام ، قال : حدثنا الحسن ، عن قتادة ، عن يحيى بن وثاب ، عن أبي هريرة ، عن النبي r قال : لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ : و لا يبعد على هذا أن يختص نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء و الحظوة بما رأى من أيات ربه الكبرى .


-وقد جاءت الأخبار بأنه صرع أبا ركانة أشد أهل وقته ، وكان دعاه إلى الإسلام و صارع أبا ركانة في الجاهلية ، و كان شديداً ، و عاوده ثلاث مرات ، كل ذلك يصرعه رسول الله
r .

-وقال أبو هريرة : ما رأيت أحداً أسرع من رسول الله r في مشيه ، كأنما الأرض تطوى له ، إنا لنجهد أنفسنا و هو غير مكترث .

و في صفته أن  ضحكه كان تبسماً ، إذا التفت التفت معاً ، و إذا مشى مشى تقلعاً كأنما ينحط من صبب .

الفصل الخامس

فصاحة لسانه ، و بلاغة قولهr

وأما فصاحة اللسان ، وبلاغة القول ، فقد كان r  من ذلك بالمحل الأفضل والموضع الذي لايجهل ، سلاسة طبع ، وبراعة منزع ، وإجاز مقطع ، ونـصاعة لـفظ . وجزالة قول ، وصحة معان ، وقلة تكلف   أوتي جوامع الكلم ، وخص ببدائع الحكم ، وعلم ألسنة العرب ، يخاطب كل أمة منها بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ،حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه  و تفسير قوله .ومن تأمل حديثه و سيره علم ذلك وتحققه ، وليس كلامه مع قريش والأنصار ، وأهل الحجاز ونجْد ككلامه مع   ذي المشعار الهمداني ، وطِهفة الهندي  ، وقطن بن حارثة العليمي ، والأ شعث بن قيس ، ووائل بن حجر الكندي ، وغيرهم من أقيال حضرموت وملوك اليمن . وانظر كتابه إلى همدان : =إن لكم فراعها ووِهاطها وعزازها ، تأكلون علافها وترعون عفاءها ، لنا من دفئهم وصرامهم ماسلموا بالميثاق والأمانة ، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل ، والفارض والداجن ، والكبش الحوري ، و عليهم فيها الصالغ و القرح .

-وقوله لنهد :اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها ، وابعث راعيها في الدثر ، وافجر له الثمد ، وبارك له في  لمال والولد  من أقام الصلاة  كان  مسلماً ، ومن آتى الزكاة كان محسناً ، ومن  شهد أن  لا إله إلا الله كان مخلصاً ، لكم يابني نهد و دائع الشرك ، و وضائع الملك ، لا تُلْطِط في الزكاة ، ولا تُلحِد في الحياة ، و لا تـتـثاقلْ عن الصلاة . وكتب لهم : في الوظيفة الفريضة : و لكم الفارض و الفريش ، وذو العنان الركوب ، والفلو الضبيس ، لايمنع سرحكم ، ولا يعضد طلحكم ، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الرماق ، وتأكلوا الرباق ، من أقر فله الوفاء بالعهد والذمة ، ومن أبي فعليه الربوة .

-ومن كتابه لوائل بن حجر . إلى الأقيال العباهلة ، و الأوراع المشابيب . و فيه : في التيعة شاة ، لا مُقوَّرة الألياط ولا ضِناك ، وأنطوا الثَّيجة ، وفي السيوب الخمس . ومن زنى مِمْ بكر فاصعَقوه مائة ،      واستَوفِضوه عاماً ، و من زنى مِمْ ثيِّب فضرِّجوه باللأضاميم ، ولا تَوْصيم في الدين ولا عمَّة في فرائض الله ، و كل مسكر حرام . ووائل بن حجر يترفل على الأقيال .أين هذا من كتابة لأنس في الصدقة المشهور   لما كان كلام هؤلاء على هذا الحد ، و بلاغتهم على هذا النمط ، وأكثر استعمالهم هذه الألفاظ استعملها معهم ، ليبين للناس ما نزل إليهم ، و ليحدث الناس بما يعلمون .  

-وكقوله في حديث عطية السعدي :  = فإن اليد العليا هي المنطية و اليد السفلى هي المنطاة  قال : فكلمنا رسول الله r  بلغتنا .      

-و قوله في حديث العامري حين سأله ، فقال له النبي r: =هل عنك =أي سل عمَّا شئت ، و هي لغة بني عامر .      

-وأما كلامه المعتاد ، و فصاحته المعلومة ، وجوامع كلمه ، وحكمة المأثورة ـ فقد ألف الناس فيها الدواوين و جمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب ، وفيها ما لا يُوازَى فصاحة ، و لا يُبارى بلاغة ، كقوله : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، و يسعى بذِمَّتهم أدناهم ، و هم يدٌ على من سواهم

-وقوله : الناس كأسنان المشط .

-وقوله :المرء مع من أحب .

-وقوله :لا خير في صحبة من لايرى لك ما ترى له .

-وقوله: الناس معادن .

-وقوله : ما هلك امروء عرف قدره .

-وقوله :المستشار مؤتمن ، وهو بالخير ما لم يتكلم .

-وقوله: رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم .     

-وقوله : أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين .      

-وقوله: إن أحبَّكم إلي وأقربكم مني مجالسا يوم القيامة ، أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون و يؤلفون .      

-وقوله : لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ، و يبخل بما لا يغنيه .      

-وقوله : ذو الوجهين لا يكون عند الله و جيهاً .      

ونهيه عن قيل و قال ، و كثرة السؤال ، و إضاعة المال ، و منع وهات ، وعقوق الأمهات ، ووأد البنات  

وقوله : اتق الله حيثما كنت ، و أتبع السيئة الحسنة تمحُها ، و خالق الناس بخلق حسن .

-وقوله : و خير الأمور أوسطها .

-وقوله : أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما .

-وقوله : الظلم ظلمات يوم القيامة .

-وقوله في بعض دعائه : اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي ، و تجمع بها أمري ، و تلم بها شعثي ، وتصلح بها غائبي وترفع بها شاهدي ، وتزكي بها علمي ، وتلهمني بها رشدي ، وترد بها ألفتي ، وتعصمني بها من كل سوء .
اللهم إني أسألك الفوز في القضاء ، ونزل الشهداء ، وعيش السعداء ، والنصر على الأعداء ...

إلى ما روته الكافة عن الكافة عن  مقاماته ، ومحاضراته ، وخطبه ، وأدعيته ، ومخاطباته ، وعهوده ، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره ، وحاز فيها سبقاً لا يقدر . وقد جمعت من كلماته التي لم يسبق إليها ، ولا قدر أحد أن يفرغ في قالبه  عليها ،

-كقوله : حمي الوطيس .

-وقوله: مات حتف أنفه

وقوله :لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .

وقوله :السعيد من و عظ بغيره . . .

في أخواته مما يدرك الناظر العجب في مضمنها ، و يذهب به الفكر في أداني حكمها .      
-وقد قال له أصحابه : ما رأينا الذي هو أفصح منك . فقال : و ما يمنعني  وإنما أنزل القرآن بلساني ، لسان عربي مبين .

-وقال مرة أخرى :   أنا أفصح العرب بيد أني من قريش و نشأت في بني سعد .

فجُمع له بذلك r قوة عارضة البادية و جزالتها ، و نصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها ، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري .

-وقالت أم معبد في وصفها له :
حلو المنطق ، فضل لا نزر و لا هذر ، كأن منطقه خرزات نظمن . و كان جَهير الصوت ، حسن النغمة
r.

الفصل السادس
شرف نسبه ، و كرم بلده و منشئه
r

وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشئه فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه ، ولا بيان مشكل ولا خفي منه ، فإنه نخبة من بني هاشم ، وسلالة قريش وصميمها ، وأشرف العرب ، وأعزهم نفراً من قبل أبيه و أمه ، و من أهل مكة من أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده .

-حدثنا قاضي القضاة حسين بن محمد الصدفي رحمه الله ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف ، حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد ، حدثنا أبو محمد السرخسي ، وابن إسحاق ، وأبو الهيثم : قالوا : -حدثنا محمد بن يوسف ، قال حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ـ أن رسول الله r قال : بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا ، حتى كنت من القرن الذي كنت منه .

-وعن العباس ، قال : قال النبي r : إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم ، من خير قرنهم ، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً ، و خيرهم بيتاً  

-وعن واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله r : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ،          واصطفى من بني كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم .
قال الترمذي : و هذا حديث صحيح .

-وفي حديث عن ابن عمر ، رواه الطبري أنه r قال : إن الله اختار خلقه ، فاختار منهم بني آدم ، ثم اختار بني آدم فاختار منهم العرب ، ثم اختار العرب فاختار منهم قريشاً ، ثم اختار قريشاً فاختار منهم بني هاشم ، ثم اختار بني هاشم فاختارني منهم ، فلم أزل خياراً من خيار ، ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم ، و من أبغض العرب فببغضي أبغضهم .

-وعن ابن عباس : إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، يسبح ذلك النور ، وتسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه ، فقال رسول الله  r       فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم ، وجعلني في صلب نوح ، وقذف بي في صلب ابراهيم ، ثم لم يزل الله تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة ، حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط . ويشهد لصحة هذا الخبر شعر العباس في مدح النبي r المشهور .

                                             الفصل السابع

                                     حـالتـه  r في الضـروريـات 

    وأما ما تدعو ضرورة الحياة إليه مما فصلناه فعلى ثلاثة ضروب : ضرب الفضل في قلته ، و ضرب الفضل في كثرته ، و ضرب تختلف الأحوال فيه .

- * الضرب اللأول: ما يتفق على المدح في قلته

فأما ما التمدح و الكمال بقلته اتفاقاً ، و على كل حال ، عادة وشريعة ، كالغذاء والنوم ، ولم تزل العرب والحكماء تتمادح بقلتهما ، وتذم بكثرتهما ، لأن كثرة الأكل و الشرب دليل على النهم و الحرص والشره ، وغلبة الشهوة مسبب لمضارالدنيا والآخرة ، جالب لأدواء الجسد وخثار النفس ، وامتلاء الدماغ ، وقلته دليل على القناعة ، وملك النفس ، وقمع الشهوة مسبب للصحة ، وصفاء الخاطر ، وحدة الذهن ، كما أن كثرة النوم دليل على الفسولة والضعف ، وعدم الذكاء والفطنة ، مسبب للكسل ، وعادة العجز ، وتضييع العمر في غير نفع ، و قساوة القلب و غفلته وموته .
والشاهد على هذا ما يعلم ضرورة ، ويوجد مشاهدة ، وينقل متوتراً من كلام الأمم المتقدمة ، والحكماء السابقين ، وأشعار العرب وأخبارها ، وصحيح الحديث ، وآثار من سلف وخلف ، مما لا يحتاج إلى الإستشهاد عليه اختصا راً واقتصاراً على اشتهار العلم به .
و كان النبي
r قد أخذ من هذين الفنين بالأقل .
هذا ما لا يدفع من سيرته ، وهو الذي أمر به ، وحضَّ عليه ، لاسيما بارتباط أحدهما بالآخر .
-حدثنا أبو علي الصدفي الحافظ بقراءتي عليه ، حدثنا أبو الفضل الأصبهاني ، حدثنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أبو بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح أن يحيى بن جابر حدثه عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله
r قال : ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه ، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، و ثلث لنفسه.

ولأن كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب .
-قال سفيان الثوري : بقلة الطعام يملك سهر الليل .

-وقال بعض السلف : لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً ، فترقدوا كثيراً ، فتخسروا كثيراً .    

-قد روي عنه r أنه كان أحب الطعام إليه ما كان على ضَغَف أي كثرة الأيدي  وعن عائشة رضي الله عنها  : لم يمتلىء جوف النبي r  شبعا  قط ، وأنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً و لا يتشهاه ، إن أطعموه أكل ، و ما أطعموه قبل ، و ما سقوه شرب .
ولا يعترض على هذا بحديث بريرة ، و قوله : ألم أر البرمة فيها لحم إذ لعل سبب سؤاله ظنه
r اعتقاده أنه لا يحل له ، فأراد بيان سنته ، إذ رآهم لم يقدموه إليه ، مع علمه أنهم لا يستأثرون عليه به ، فصدق عليهم ظنه ، و بين لهم ما جهلوه من أمره بقوله : هو لها صدقة و لنا هدية
و في حكمه لقمان : يابني ، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، وخرست الحكمة ، و قعدت العضاء عن العبادة .

-قال سحنون : لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع .

-وفي صحيح الحديث قوله r  أما أنا فلا آكل متكئاً .
والإتكاء : هو التمكن للأكل ، و التقعدد في الجلوس له كالمتربع ، و شبهه من تمكن الجلسات التي يعتمد عليها الجالس على ماتحته  ، و الجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل و يستكثر منه .
و النبي
r  إنما كان  جلوسه للأكل جلوس المستوفر مقعياً ، و يقول : إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، و أجلس كما يجلس العبد .

و ليس معنى الحديث في الإتكاء الميل على شق عند المحققين .
و كذلك نومه
  r   كان قليلاً ، شهدت بذلك الآثارالصحيحة ، و مع ذلك فقد قال : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي .

وكان نومه على جانبه الأيمن استظهاراً على قلة النوم ، لأنه على جانب الأيسر أهنأ ، لهدو القلب وما يتعلق به من الأعضاء الباطنية حينئذ ، لميلها إلى الجانب الأيسر ، فيستدعي ذلك الإستثقال فيه والطول .
و إذا نام النائم على الأيمن تعلق القلب وقلق ، فأسرع الإفاقة ولم يغمره الإستغراق .

 * الضرب الثاني : ما يتفق على المدح بكثرته

والضرب الثاني ما يتفق المدح بكثرته ، والفخر بوفوره ، كالنكاح والجاه : أما النكاح فمتفق فيه شرعاً   وعادة ، فإنه دليل الكمال ، وصحة الذكورية ، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة ، والتمادح به سيرة ماضية .
وأما في الشرع فسنة مأثورة ، وقد قال ابن عباس : أفضل هذه الأمة أكثرها نساء يشير إليه
r

-وقد قال r : تناكحوا تناسلوا ، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة .
ونهى عن التبتل مع ما فيه من قمع الشهوة ، وغض البصر اللذين نبه عليهما
r بقوله : من كان ذا طول فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج حتى لم يره العلماء مما يقدح في الز هد .
-قال سهل بن عبد الله : قد حببن إلى سيد المرسلين ، فكيف يزهد فيهن ؟ و نحوه لابن عيينه .
-وقد كان زهاد الصحابة كثيري الزوجات والسراري ، كثيري النكاح .
-وحكي في ذلك على علي ، و الحسن ، و ابن عمر ، و غيرهم غير شيء . وقد كره غير واحد أن يلقى الله عزباً . فإن قلت : كيف يكون النكاح وكثرته من الفضائل ، وهذا يحيى بن زكريا عليه السلام قد أثنى الله تعالى عليه أنه كان حصوراً ، فكيف يثني الله بالعجز عما تعده فضيلة ؟  وهذا عيسى عليه السلام تبتل من النساء ، و لو كان كما قررته لنكح ؟

فاعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قال بعضهم :
إنه كان هيوباً ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين و نقاد العلماء ،
و قالوا : هذه نقيصة و عيب ، و لا تليق بالأنبياء .
و إنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها ، كأنه حصر عنها . و قيل :
مانعاً نفسه من الشهوات .
و قيل : ليست له شهرة في النساء .
فقد بان ذلك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، و إنما الفضل في كونها موجودة ، ثم قمعها ، إما بمجاهدة ، كعيسى عليه السلام ، أو بكفاية من الله تعالى ، كيحيى عليه السلام ـ فضيلة زائدة لكونها شاغلة في كثير من الأوقات حاطة إلى الدنيا . ثم هي في حق من أُقدر عليها و ملكها و قام بالواجب فيها   ولم تشغله عن ربه ـ درجة عالياً ، وهي درجة نبينا
r الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن ، و قيامه بحقوقهن ، و اكتسابه لهن ، و هدايته إياهن ، بل صرح أنها ليست من حظوظ  دنياه هو ، و إن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : حبب إلي من دنياكم . فدل على أن حبه لما ذكر من النساء و الطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره ، و استعماله لذلك ليس لدنياه ، بل لآخرته ، للفوائد التي ذكرناها في التزويج ، و للقاء الملائكة في الطيب ، ولأنه أيضاً مما يحض على الجماع ،     و يعين عليه ، و يحرك أسبابه .

-وكان حبه لهاتين الخصلتين لأجل غيره ، وقمع شهوته ، وكان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدته جبروت مولاه ومناجاته ، ولذلك ميز بين الحبين ، وفصل بين الحالين ، فقال : وجعلت قرة عيني في الصلاة ، فقد ساوى يحيى و عيسى في كفاية فتنتهن ، و زاد فضيلة بالقيام بهن .

-وكان r ممن أُقدر على القوة في هذا ، وأعطي الكثير منه ، ولهذا أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره .

-وقد روينا عن أنس أنه r كان يدور على نسائه في الساعة من الليل و النهار ، وهن إحدى عشرة .

-وعن طاوس : أعطي r قوة أربعين رجلاً في الجماع .
ومثله عن صفوان بن سليم .

-وقالت سلمى مولاته :طاف النبي r ليلة على نسائه التسع ،وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى   و قال : هذا أطيب و أطهر .

-قال أنس : و كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلاً . خرجه النسائي ، -و روي نحوه عن أبي رافع .
-وقد قال سليمان ـ عليه السلام : [ لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع و تسعين ] و أنه فعل ذلك .
قال ابن عباس : كان في ظهر سليمان ماء مائة رجل أو تسع و تسعين ، و كانت له ثلاثمائة امرأة        و ثلاثمائة سرية .-وحكى النقاش و غيره سبعمائة امرأة و ثلاثمائة سرية .

 -وقد كان لداود عليه السلام على زهده وأكله من عمل يده تسع و تسعون امرأة ، و تمت بزوج أوريا مائة .

-وقد نبه على ذلك في الكتاب العزيز بقوله تعالى (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (صـ : 23 )

-وفي حديث أنس عنه ، r قال: فُضِّلْتُ على الناس بأربع : بالسخاء ، و الشجاعة ، و كثرة الجماع ،   وقوة البطش .

وأما الجاه فمحمود عند العقلاء عادة و بقدر جاهه عظمه في القلوب .
وقد قال الله تعالى في صفة عيسى عليه السلام :( َجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران : 45 )) ، لكن آفاته كثيرة ، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الآخرة ، فلذلك ذمه من ذمه ، و مدح ضده .
وورد في الشرع مدح الخمول ، و ذم العلُوّ في الأرض .
و كان
r قد رزق من الحشمة ، والمكانة في القلوب ، والعظمة قبل النبوة عند الجاهلية و بعدها ، و هم يكذبونه ويؤذون أصحابه ، ويقصدون أذاه في نفسه خفية حتى إذا واجههم أعظموا أمره ، و قضوا حاجته  
وأخباره في ذلك معروفة سيأتي بعضها .

-وقد كان يبهت ويَفرق لرؤيته من لم يره ، كما روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من الفرَق ، فقال : يا مسكينة ، عليك السكينة .

-وفي حديث أبي مسعود أن رجلاً قام بين يديه فأرعد ، فقال : ((هَوِّنْ عَلَيْكَ. فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ. إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ)).

-فأما عظم قدره بالنبوة ، وشريف منزلته بالرسالة إنافة رتبته بالإصطفاء والكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية ، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم .
وعلى معنى هذا الفصل نظمنا هذا القسم بأسره .

الضرب الثالث : ما تختلف الحالات في التمدح به

وأما الضرب الثالث ، فهو ما تختلف الحالات في التمدح به والتفاخر بسببه ، والتفضيل  لأجله ، ككثرة المال ـ فصاحبه على الجملة معظم عند العامة ، لإعتقادها توصله به إلى حاجاته ، و تمكن أغراضه بسببه ، وإلا فليس فضيلة في نفسه ، فمتى كان المال بهذه الصورة ، و صاحبه منفقاً له في مهمات من اعتراه وأمله ، وتصريفه في مواضعه مشترياً به المعالي والثناء الحسن ، والمنزلة في القلوب ـ كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا ، وإذا صرفه في وجوه البر ، وأنفقه في سبيل الخير ، و قصد بذلك الله والدار الآخرة ، كان فضيلة عند الكل بكل حال ، ومتى كان صاحبه ممسكاً له غير موجهه وجوهه ، حريصاً على جمعه ، عاد كثرة كالعدم ، و كان منقصة في صاحبه ، و لم يقف به على جدد السلامة ، بل أوقعه في هوة رذيلة البخل ، و مذمة النذالة ، فإذاً التمدح بالمال و فضيلته عند مفضله ليست لنفسه ،    وإنما هو للتوصل به إلى غيره ، و تصريفه في متصرفاته ، فجامعه إذا لم يضعه مواضعه ، و لا وجهه وجوهه غير مليء بالحقيقة و لا غنى بالمعنى ، و لا ممتدح عند أحد من العقلاء ، بل هو فقير أبداً غير واصل إلى غرض من أغراضه ، إذ ما بيده من المال الموصل لها لم يسلط عليه ، فأشبه خازن مال غيره   ولا مال له ، فكان ليس في يده منه شيء .
والمنفق مليء وغني بتحصيله فوائد المال ، و إن لم يبق في يده من المال شيء .
فانظر سيرة نبينا
r و خلقه في المال تجده قد أوتي خزائن الأرض ، و مفاتيح البلاد ، وأحلت له الغنائم   ولم تحل لنبي قبله ، وفتح عليه في حياته r بلاد الحجاز و اليمن ، و جميع جزيرة العرب ، و ما دانى ذلك من الشام والعراق ، و جلبت إليه من أخماسها و جزيتها و صدقاتها ما لا يجني للملوك إلا بعضه ،   وهادته جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه ، و لا أمسك منه درهما ، بل صرفه مصارفه ،    وأغنى به غيره ، و قوى به المسلمين ، و قال : ما يسرني أن لي أحُداً ذهباً يبيت عندي منه دينار ، إلا ديناراً أرصده لدين .
وأتته دنانير مرة فقسمها ، و بقيت منها ستة ، فدفعها لبعض نسائه ، فلم يـأخذه نوم حتى قام و قسمها   وقال : الآن استرحت .

-ومات و درعه مرهونة في نفقة عياله .
-واقتصر من نفقته و ملبسه و مسكنه على ما تدعو ضرورته إليه .
-وزهد فيما سواه ، فكان يلبس ما وجده ، فيلبس في الغالب الشملة ، والكساة الخشن ، والبرد الغليظ ،  ويقسم على من حضره أ قْبِيّة الديباج المخوصة بالذهب ، ويرفع لمن لم يحضره ، إذ المباهاة في الملابس والتزين بها ليست من خصال الشرف والجلالة ، وهي من سمات النساء .
والمحمود منها نقاوة الثوب ، والتوسط في جنسه ، وكونه لبس مثله ، غير مسقط لمروءة جنسه مما لا يؤدي إلى الشهرة في الطرفين .
وقد ذم الشرع ذلك ، وغاية الفخر فيه في العادة عند الناس إنما يعود إلى الفخر بكثرة الموجود ، ووفور الحال .

-وكذلك التباهي بجودة المسكن ، و سعة المنزل ، و تكثير آلاته و خدمه و مركوباته .
ومن ملك الأرض ، وجبي إليه ما فيها ، فترك ذلك زهداً وتنزهاً ، فهو حائز لفضيلة المال ، ومالك للفخر بهذه الخصلة إن كانت فضيلة زائد عليها في الفخر ، ومُعـَرق في المدح بإضرابه عنها ، و زهده في فانيها ، وبذلها في مظانها .

الفصل الثامن

في الخصال المكتسية من الأخلاق الحميدة

وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة   والآداب الشريفة التي اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها ، و تعظيم المتصف بالخلق الواحد منها ، فضلاً عما فوقه و أثنى  الشرع على جميعها ، و أمر بها ، ووَعَد السعادة الدائمة للمتخلق بها ، ووَصَف بعضها بأنه من أجزاء النبوة ، و هي المسماة بحسن الخلق ، و هو الإعتدال في قوى النفس وأوصافها ، والتوسط فيها دون الميل إلى منحرف أطرافها ، فجميعها قد كانت خلق نبينا محمد rعلى الإنتهاء في كمالها ، والإعتدال إلى غايتها ، حتى أثنى الله بذلك عليه ، فقال تعالى : ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم : 4 )

-قالت عائشة ـ رضي ا لله عنها : كان خلقه القرآن ، يرضى برضاه ، و يسخط بسخطه .
-وقال
r : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
-قال انس : كان رسول الله
r أحسن الناس خلقاً .
-وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثله .
-وكان فيما ذكره المحقوق مجبولاً عليها في أصل خلقته وأول فطرته ، لم تحصل له باكتساب ولا رياضة إلا بجود إلهي ، و خصوصية ربانيّة .
وهكذا لسائر الأنبياء ، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك ، كما عرف من حال عيسى     وموسى ، ويحيى ، وسليمان ، وغيرهم عليهم السلام .
بل غرزت فيهم هذه الأخلاق في الجبلة ، و أودعوا العلم و الحكمة في الفطرة ، قال الله تعالى عن يحيى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) (مريم : 12 )   

-قال المفسرون : أعطي يحيى العلم بكتاب الله تعالى في حال صباه .
-وقال معمر : كان يحيى ابن سنتين أو ثلاث ، فقال له الصبيان : لم لا تلعب ؟
فقال : أللعب خلقت ! ؟.
و قيل في قوله تعالى : (ُمصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ  ) (آل عمران : 39 ))   : صدق يحيى بعيسى ، و هو ابن ثلاث سنين ، فشهد له أنه كلمة الله و روحه .

-وقيل : صدقه وهو في بطن أمه ، فكانت أم يحيى تقول لمريم : إنى أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك   تحية له . و قد نص الله تعالى على كلام عيسى لأمه عند ولادتها إياه بقوله لها : (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً) (مريم : 24 )) على قراءة من قرأ من تحتها و على قول من قال : إن المنادي عيسى .

-ونص على كلامه في مهده ' فقال : (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) (مريم : 30 ).

-وقال : (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً  ) (الأنبياء : 79 )
-وقد ذكر من حكم سليمان و هو صبي يلعب في قصة المجرومة ، و في قصة الصبي ما اقتدى به داود أبوه عليهما السلام.

-وحكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاماً .
-وكذلك قصة موسى مع فرعون و أخذه بلحيته و هو طفل .
 -وقال المفسرون ـ في قوله تعالى :( (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ) (الأنبياء : 51 )) ، أي هديناه صغيرا ، قاله مجاهد و غيره .

-وقال ابن عطاء : اصطفاه قبل إبداء خلقه .
-وقال بعضهم : لما ولد إبراهيم عليه السلام بعث الله تعالى إليه ملكاً يأمره عن الله أن يعرفه بقلبه ،     ويذكره بلسانه ، فقال : قد فعلت ، و لم يقل أفعل ، فذلك رشده .
وقيل : إن إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار و محنته كانت و هو ابن ست عشرة سنة ، و إن ابتلاء إسماعيل بالذبح كان وهو ابن سبع سنين ، و إن استدلال إبراهيم بالكوكب و القمر و الشمس كان وهو ابن خمسة عشر شهراً .

-وقيل : أوحي إلى يوسف و هو صبي عندما هم إخوته بإلقائه في الجب ، يقول الله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (يوسف : 15 ).

  إلى غير ذلك مما ذكرنا من أخبارهم .

-وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمداً r ولد حين ولد باسطاً يديه إلى الأرض   رافعاً رأسه إلى السماء .

وقال في حديثه r : لما نشأت بغضت إلي الأوثان . و بغض إلى الشعر .
و لم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين ، فعصمني الله منهما ، ثم لم أعد .

ثم يتمكن الأمر لهم ، وتترادف نفحات الله عليهم ، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم ، حتى يصلوا الغاية   ويبلغوا ـ باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل هذه الخصال الشريفة ـ النهاية دون ممارسة ولا رياضة ، قال الله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف : 22 )

-وقد نجد غيرهم يطبع على بعض هذه الأخلاق دون جميعها ، و يولد عليها ، فيسهل عليه اكتساب تمامها عناية من الله تعالى ، كما نشاهد من خلقه بعض الصبيان على حسن السمت ، أو الشهامة ، أو صدق اللسان ، أو السماحة ، و كما نجد بعضهم على ضدها ، فبالإكتساب يكمل ناقصها ، وبالرياضة والمجاهدة يستجلب معدومها ، ويعتدل منحرفها ، و باختلاف هذين الحالين يتفاوت الناس فيها . وكل ميسر لما خلق له . و لهذا ما قد اختلف السلف فيها : هل هذا الخلق جبلة أو مكتسبة ؟ .
فحكى الطبري عن بعض السلف أن الخلق الحسن جبلة و غريزة في العبد ، و حكاه عن عبد الله بن مسعود ، و الحسن ، و به قال هو .
و الصواب ما أصلناه . وقد روى سعد عن النبي
r ، قال : كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة و الكذب .

-وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديثه : و الجرأة ، و الجبن غرائز يضعها الله حيث يشاء .  

 -وهذه الأخلاق المحمودة و الخصال الجميلة كثيرة ، و لكنا نذكر أصولها ، و نشير إلى جميعها ،        ونحقق وصفه r بها إن شاء الله تعالى .

الفصل التاسع

في بيان أصول هذه الأخلاق و تحقق وصف النبي r  بها

أما أصل فروعها ، و عنصر ينابيعها ، و نقطة دائرتها فالعقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفة ، ويتفرع عن هذا ثقوب الرأي ، وجودة الفطنة ، والإصابة ، وصدق الظن ، والنظر للعواقب و مصالح النفس ،     ومجاهدة الشهوة ، وحسن السياسة والتدبير ، واقتناء الفضائل ، وتجنب الرذائل .
وقد أشرنا إلى مكانه
r ، وبلوغه منه ومن العلم الغاية التي لم يبلغها بشر سواه ، و إذ جلالة محله من ذلك ، و مما تفرع منه متحققة عند من تتبع مجاري أحواله ، واطراد سيره ، وطالع جوامع كلامه .      وحسن شمائله ، وبدائع سيره ، وحكم حديثه ، وعلمه بما في التوراة و الإنجيل والكتب المنزلة ، وحكم الحكماء ، و سير الأمم الخالية ، و أيامها وضرب الأمثال ، و سياسات الأنام ، و تقرير الشرائع ،         وتأصيل الأداب النفسية ، والشيم الحميدة إلى فنون العلوم التي اتخذ أهلها كلامه r فيها قدوه ،         وإشاراته حجة ، كالعبارة ، و الطب ، و الحساب ، و الفرائض ، و النسب ، وغير ذلك مما سنبينه في معجزاته إن شاء الله ، دون تعليم ولا مدارس ، ولا مطالعة كتب من تقدم ، ولا الجلوس إلى علمائهم ، بل نبي أمي لم يُعرف بشيء  من ذلك ، حتى شرح الله صدره ، وأبان أمره ، وعلمه ، وأقرأه ، يعلم ذلك بالمطالعة و البحث عن حاله ضرورة ، وبالبرهان القاطع على نبوته نظراً ، فلا نطول بسرد الأقاصيص ، وآحاد القضايا ، إذ مجموعها ما لا يأخذه حصر ، ولا يحيط به حفظ جمع ، و بحسب عقله كانت معارفه r إلى سائر ما علمه الله تعالى ، وأطلعه عليه من علم ما يكون و ما كان ، وعجائب قدرته ، وعظيم ملكوته ، قال تعالى(َوعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء  113 )    
حارث العقول في تقدير فضله عليه ، و خرست الألسن دون و صف يحيط بذلك أو ينهى إليه .      

الفصل العاشر

في الفرق بين الحلم و الإحتمال ، و العفو مع القدرة ، و الصبر على ما يكره

وأما الحلم والاحتمال ، والعفو مع القدرة ، والصبر على ما يكره ، وبين هذه الألقاب فرق ، فإن الحلم حالة توقر و ثبات عند الأسباب المحركات . والاحتمال : حبس النفس عند الآلام والمؤذيات . ومثلها الصبر ،  ومعانيها متقاربة ...وأما العفو فهو ترك المؤاخذة .
و هذا كله مما أدب الله تعالىبه نبيه
r ، فقال : ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف : 199 )

-روي أن النبي r لما نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عليه السلام عن تأويلها ، فقال له : أسأل العالم  
ثم ذهب فأتاه ، فقال : يامحمد . إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، و تعطي من حرمك ، و تعفو عمن ظلمك .
قال له : واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور .
و قال تعالى : ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ  ) (الأحقاف : 35 )
وقال : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور : 22 )).
-وقال : ((وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى : 43 )

ولا خفاء بما يؤثر من حلمه واحتماله ، و أن كل حليم قد عرفت منه زله ، و حفظت عنه هفوه ، وهو rلا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبراً ، وعلى اسراف الجاهل إلا حلماً .
-حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن علي التغلبي وغيره ، قالو ا : حدثنا محمد بن عتاب ، حدثنا أبو بكر بن و افد القاضي و غيره ، حدثنا أبو عيس ، حدثنا عبيد الله ، قال حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما خير رسول الله
r  في أمرين قط إلا اختار أيسرهم ما لم يكن اثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ، و ما انتقم رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمه الله تعالى، فينتقم لله بها .
-وروي أن النبي
r لما كسرت رباعيته و شج و جهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقاً شديداً ،     و قالوا : لو دعوت عليهم ! فقال : إني لم أبعث لعاناً ، و لكني بعثت داعياً و رحمة . اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون .
-وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في بعض كلامه : بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد دعا نوح على قومه ، فقال : (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) (نوح : 26 )) . و لو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا ، فلقد وطيء ظهرك ، وأدمي وجهك ، وكسرت رباعيتك ، فأبيت أن تقول إلا خيراً ، فقلت : اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون .

-قال القاضي ابو الفضل وفقه الله : انظر في هذا القول من جماع الفضل ، ودرجات الإحسان ، وحسن الخلق ، وكرم النفس ، وغاية الصبر والحلم ، إذ لم يقتصر r على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق عليهم ورحمهم ، ودعا وشفع لهم ، فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب الشفقة و الرحمة بقوله : لقومي ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم ، فقال : فإنهم لا يعلمون .

-ولما قال له الرجل : اعدِل ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ـ لم يزده في جوابه أن يبين له ما جهله .
ووعظ نفسه ، و ذكرها بما قال له ، فقال : و يحك ! فمن يعدل إن لم أعدل ! خبت و خسرت إن لم أعدل ! و نهى من أراد من أصحابه قتله .

ولما تصدى له غورث بن الحارث ليفتك به ، ورسول الله r منتبذ تحت شجرة وحده قائلاً ، والناس قائلون ،في غزاة ، فلم ينتبه رسول الله r إلا وهو قائم والسيف صلتاً في يده ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقال الله فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي r ، وقال : من يمنعك مني ؟ قال : كن خير آخذ ، فتركه و عفا عنه . فجاء إلى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس .

-ومن عظيم خبره في العفو عفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة بعد اعترافها ـ على الصحيح من الرواية .

-وأنه لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره ، و قد أعلم به وأوحي إليه بشرح أمره ، ولا عتب عليه فضلاً عن معاقبته .

-وكذلك لم يؤاخذ عبد الله بن أبي وأشباهه من المنافقين بعظيم ما نقل عنهم في جهته قولاً و فعلاً ، بل قال لمن أشار بقتل بعضهم : لا  .   لئلا يُتَحدَّث أن محمداً يقْتل أصحابَه .

-وعن أنس رضي الله عنه : كنت مع النبي r ، وعليه برد غليظ الحاشية ، فجبذه الأعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ، ثم قال : يا محمد ، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فإنك لا تحمل لي من مالك و مال أبيك .
فسكت النبي
r ، ثم قال : المال مال الله ، و أنا عبده .
ثم قال : و يقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي .
قال : لا .
قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة .
فضحك النبي
r ، ثم أمر أن يحمل له على بعيره شعير ، و على الآخر تمر .

-قالت عائشة رضي الله عنهما : ما رأيت رسول الله r منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله . وما ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله . وما ضرب خادماً قط ولا إمرأة .

-وجيء إليه برجل ، فقيل : هذا أراد أن يقتلك . فقال له النبي r : لن تُرَاعَ ، لن تراع ، و لو أردت ذلك لم تُسَلَّط علي .

-وجاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه ديناً عليه ، فجبذ ثوبه عن منكبه ، و أخذ بمجامع ثيابه ،      وأغلظ له ، ثم قال : إنكم ، يا بـني عبد المطلب  مَطْل ، فانتهره عمر وشدد له في القول ، و النبي r يبتسم . فقال رسول الله r : أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر ، تأمرني بحسن القضاء      و تأمره بحسن التقاضي . ثم قال : لقد بقي من أجله ثلاث ، و أمر عمر يقضيه ماله و يزيده عشرين صاعاً لما روعه ، فكان سبب إسلامه ، ذلك انه كان يقول : ما بقي من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في محمدr  إلا اثنتين لم أخبرهما : يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلماً . فأختبرته بهذا ، فوجدته كما وصف .
والحديث عن حلمه
r وصبره وعفوه عند القدرة أكثر من أن تأتي عليه ، و حسبك ما ذكرناه مما في الصحيح والمصنفات الثابتة إلى ما بلغ متواتراً مبلغ اليقين : من صبره على مقاساة قريش ، وأذى الجاهلية ، و مصابرته الشدائد الصعبة معهم إلى أن أظفره الله عليهم ، وحكمه فيهم ، وهم لا يشكون في استئصال شأفتهم ، و إبادة خضرائهم ، فما زاد على أن عفا وصفح ، وقال : ما تقولون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، و ابن أخ كريم ، فقال : أقول كما قال أخي يوسف : (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف : 92 )) ، اذهبوا فأنتم الطلقاء .

-وقال أنس : هبط ثمانون رجلاً من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله r ، فأخذوا ، فأعقتهم رسول الله r ، فأنزل الله تعالى : ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الفتح : 24 )) .

وقال لأبي سفيان ـ و قد سيق إليه بعد أن جلب إليه الأحزاب ، و قتل عمَّه و أصحابه ومثل بهم ، فعفا عنه ، ولاطفه في القول : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت و أمي ! ما أحلمك و أوصلك و أكرمك ؟

وكان رسول الله r أبعد الناس غضباً ، وأسرعهم رضاً ، r .

الفصل الحادي عشر

في معاني الجود و الكرم ، و السخاء و السماحة

وأما الجود والكرم ، والسخاء والسماحة ـ فمعانيها متقاربة . وقد فرق بعضهم بينها بفروق ، فجعلوا الكرم الإنفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه ، وسموه أيضا حرية ، وهو ضد النذالة .
والسماحة : التجافي عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس ، وهو ضد الشكاسة .
والسخاء : سهولة الإنفاق ، وتجنب اكتساب ما لا يحمد ، وهو الجود ، وهو ضد التقتير .

 -وكان r لا يُوازى في هذه الأخلاق الكريمة ، ولا يُبارى ، بهذا وصفه كل من عرفه .

-حدثنا القاضي الشهيد أبو على الصدفي رحمه الله ، حدثنا القاضي أبو الوليد الباجي ، حدثنا أبو ذر الهروي ، حدثنا أبو الهيثم الكشميهني،وأبو محمد السرخسي ، و أبو إسحاق البلخي ، قالوا : حدثنا أبو عبد الله الفربري ، قال : حدثنا البخاري ، قال حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سفيان ، عن ابن المنكدر ، سمعت جابر بن عبد الله يقول : ما سئل النبي r عن شيء فقال : لا .

وعن أنس ، و سهل بن سعد مثله .

-وقال ابن عباس : كان النبي r أجود الناس بالخير ، وأجود ما كان في شهر رمضان ، و كان إذا لقيه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة .

-وعن أنس أن رجلاً سأله فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى بلده ، و قال : أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى فاقة . وأعطى غير واحد مائة من الإبل ، وأعطى صفوان مائة ثم مائة ثم مائة ، و هذه كانت حاله r قبل أن يبعث .

وقد قال له ورقة بن نوفل : إنك تحمل الكل و تكسب العدوم .

ورد على هوازن سباياها ، و كانوا ستة آلاف .

وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله .

وحمل إليه تسعون ألف درهم ، فوضعت على حصير ، ثم قام إليها يقسمها ، فما رد سائلاً حتى فرغ منها

-وجاءه رجل ، فسأله فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي ، فإذا جاءنا شيء قضيناه .. .فقال له عمر : ما كلفك الله ما لا تقدر عليه .فكره النبي r ذلك . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، أنفق و لا تخف من ذي العرش إقلالاً .
فتبسم النبي
r ، و عرف البشر في وجهه ، و قال : بهذا أمرت  ـ ذكره الترمذي .

-وذكر عن معوذ ابن عفراء ، قال : أتيت النبي r بقِناع من رُطَب ـ يريد طبقاً ، وأُجْرٍ زُغْبٍ ـ يريد قِثَّاء ، فأعطاني مِلْء كفه حُلِياً و ذهباً .

وقال أنس : كان النبي r لا يدخر شيئاً لغد .

والخبر بجوده r و كرمه  كثير .
-وعن أبي هريرة : أتى رجل النبي صلى الله عليه و سلم يسأله ، فاستسلف له رسول
r  نصف وسق   فجاء الرجل يتقاضاه ، فأعطاه وسقاً ، و قال : نصفه قضاء و نصفه نائل .

                                         الفصل الثاني عشر

في الشجاعة و النجدة

وأما الشجاعة والنجدة  فالشجاعة =فضيلة قوة الغضب و انقيادها للعقل ، و النجدة =ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يُحمد فعلها دون خوف .
و كان
r منهما بالمكان الذي لا يُجهل ، قد حضر المواقف الصعبة ، و فر الكٌماة و الأبطال عنه غير مرة ، وهو ثابت لا يبرح ، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة ، و حفظت عنه جولة ، سواه .

-حدثنا أبو علي الجياني فيما كتب لي ، قال : حدثنا القاضي سراج ، حدثنا أبو محمد الأصيلي ، قال : حدثنا أبو زيد الفقيه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن اسماعيل ، حدثنا ابن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن أبي اسحاق : سمع البراء و سأله رجل : أفررتم يوم حنين عن رسول الله r  ؟ قال : لكن رسول الله r لم يفر . ثم قال : لقد رأيته على بغلته البيضاء و أبو سفيان آخذ بلجامها ، و النبي r يقول : أنا النبي لا كذب ، و زاده غيره : أنا ابن عبد المطلب .
قيل : فما رئي يومئذ أحد كان أشد منه .

-وقال غيره : نزل النبي r عن بغلته .  

-وذكر مسلم ـ عن العباس ، قال : فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله r يركض بغلته نحو الكفار ، وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع ، وأبو سفيان آخذ بركابه ، ثم نادى : يا للمسلمين ... الحديث .
و قيل : و كان رسول الله
r إذا غضب ـ و لا يغضب إلا لله ـ  لم يقم لغضبه شيء . وقال : ابن عمر : ما رأيت أشجع ، ولا أنجد ، ولا أجود ، ولا أرضى ، ولا أفضل من رسول الله r

-وقال علي رضي الله عنه : إنا كنا إذا حمي اليأس ـ و يروى : اشتد البأس ـ و احمرت الحدق اتقينا برسول الله r ، فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه و لقد رأيتني يوم بدر و نحن نلوذ بالنبي r  ،     وهو أقربنا إلى العدوّ و كان من أشد الناس يومئذ بأساً .
وقيل : كان الشجاع هو الذي يقترب منه
r إذا دنا العدو ، لقربه منه .

-عن أنس : كان النبي rأحسن الناس ، و أجود الناس ، و أشجع الناس ، لقد فزع أهل المدينة ليلة ، فانطلق ناس قِبَل الصوت ، فتلقاهم رسول الله r راجعاً ، قد سبقهم إلى الصوت ، و استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ ، و السيف   في عنقه ، وهو يقول : لن تَراعوا .
وقال عمران بن حصين : ما لقي رسول الله
r كتيبة إلا كان أول من يضرب .
و لما رآه أبي بن خلف يوم أحد و هو يقول : أين محمد ، لا نجوت إن نجا .
و قد كان يقول للنبي
r ـ حين افتدى يوم بدر : عندي فرس أعلفها كل يوم فرقاً من ذرة أ قتلك عليها  
فقال : له النبي
rأنا أقتلك إن شاء الله .
فلما رآه يوم أحد شد أبي على فرسه على رسول الله
r ، فاعترضه رجال من المسلمين ، فقال النبي r : هكذا ، أي خلوا طريقه و تناول الحربة من الحارس بن الصمة ، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشَّعْراء عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله النبي r ، فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً .وقيل : بل كسر ضلعاً من أضلاعه ، فرجع إلى قريش يقول : قتلني محمد ، و هم يقولون لا بأس بك . فقال : لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم ، أليس قد قال : أنا أقتلك ، و الله لو بصق علي لقتلني . فمات بسَرِف في قفولهم إلى مكة .

الفصل الثالث عشر

في حسن عشرته r  و أدبه و بسط خلقه

وأما حسن عشرته وأدبه و بسط خلقه r مع أصناف الخلق فبحيث انتشرت به الأخبار الصحيحة .
قال علي رضي الله عنه في و صفه
r :   كان أوسع الناس صدراً ، وأصدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة .

-حدثنا أبو الحسن علي بن مشرق الأنماطي فيما أجازنيه ، وقرأتة على غيره ، قال : حدثنا أبو إسحاق الحبال ، حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا هشام أبو مروان ،     ومحمد بن المثني : قالا : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن قيس بن سعد ، قال زارنا رسول الله r  و ذكر قصة في آخرها : فلما أراد الإنصراف قرب له سعد حماراً ، وطأ عليه بقطيفة ، فركب رسول الله r  ، ثم قال سعد : يا قيس ، اصحب رسول الله r.
قال قيس : فقال رسول الله
r :اركب ، فأبيت . فقال : إما أن تركب و إما أن تنصرف . فانصرفت .

  -وفي رواية أخرى : اركب أمامي ، فصاحب الدابة أولى بمقدمها   .
و كان رسول الله
r يؤلفهم ، ولا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم و يوليه عليهم ، ويحذر الناس ، و يحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه ، يتفقد أصحابه ، ويعطي كل جلسائه نصيبه  لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه . من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، و من سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول ، قد وسع الناس بسطه وخلُقه ، فصار لهم أباً ، و صاروا عنده في الحق سواء .

بهذا وصفه ابن أبي هالة ، قال : وكان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب ، ولا فحاش ولا عياب ، ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤنس منه .

وقال الله تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران :159 )

وقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون : 96 )

وكان يجيب من دعاه ، ويقبل الهدية ولو كانت كراعاً ويكافيء عليها .
قال أنس : خدمت رسول الله  
r  عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء صنعته : لم صنعته  ولا لشيء تركته : لم تركته ؟ .

-وعن عائشة رضي الله عنها : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله  r ، ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلا قال : لبيك .

 -وقال جرير بن عبد الله : ما حجبني رسول الله  r  منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم .
و كان يمازح أصحابه ، ويخالطهم ويحادثهم ، ويداعب صبيانهم ، ويجلسهم في حجره ، ويجيب دعوة الحر والعبد ، والأمة والمسكين ، ويعود المرضى في أقضى المدينة ، ويقبل عذر المعتذر .
قال أنس : ما التقم أحدٌ أذُنَ رسول الله  
r  فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر ، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له .
و كان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبدأ أصحابه ، بالمصافحة ، ولم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد . يكرم من يدخل عليه ، و ربما بسط له ثوبه ، ويؤثره بالوسادة التي تحته ، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ، ويكني أصحابه ، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز فيقطعه بنهي أو قيام ـ ويروي : بانتهاء أو قيام .
و يروى أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته ، وسأله عن حاجته ، فإذا فرغ عاد إلى صلاته .

وكان أكثر الناس تبسماً ، وأطيبهم نفساً ، ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب .
قال عبد الله بن الحارث : ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله  
r . وعن أنس : خدم المدينة يأتون رسول الله  r  إذا صلى الغداة بآنيتهم فيها الماء ، فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها ، وربما كان ذلك في الغداة الباردة ـ يريدون به التبرك .

                                         الفصل الخامس عشر

في شفقته  r ورأفته ورحمته لجميع الخلق

وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق فقد قال الله تعالى فيه :(  لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 128 )

-وقال تعالى : ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء  107 ) قال بعضهم : من فضله عليه السلام أن الله تعالى أعطاه اسمين من أسمائه ، فقال : بالمؤمنين رؤوف رحيم .
-وحكى نحوه الإمام أبو بكر بن فورك .

-حدثنا الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الخشبي بقراءتي عليه ، حدثنا إمام الحرمين أبو علي الطبري ، -حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج  -حدثنا أبو الطاهر ، أنبأنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : غزا رسول الله r غزوة ، وذكر حنيناً ، قال : فأعطى رسول الله r صفوان بن أمية مائة من النعم ، ثم مائة ، ثم مائة .
-قال ابن شهاب ، حدثنا سعيد بن المسيب أن صفوان قال : و الله لقد أعطاني ما أعطاني و إنه لأبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي .
-وروي أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً ، فأعطاه ، ثم قال : أحسنت إليك ؟ . قال الأعرابي : لا ، ولا أجملت . فغضب المسلمون وقاموا إليه ، فأشار إليهم أن كفوا ، ثم قام و دخل منزله ، وأرسل إليه ،      وزاده شيئاً ، ثم قال :  أحسنت إليك ؟  قال : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً .
فقال له النبي
r : إنك قلت ما قلت و في أنفس أصحابي من ذلك شيء ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك .
قال : نعم . فلما كان الغد أو العشي جاء ، فقال
r : إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه أنه رضي ، أكذلك ؟ قال : نعم ، فجزاك الله من أهل و عشيرة خيراً .
فقال
r : مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه ، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فناداهم صاحبها : خلوا بيني و بين ناقتي ، فإني أرفق بها منكم وأعلم ، فتوجه لها بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها حتى جاءت و استناخت ، و شد عليها رحلها ، واستوى ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار .

-وروي عنه أنه r قال : لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً ، فإني أحب أن أخرج إليكم     وأنا سليم الصدر .

ومن شفقته على أمته r تخفيفه وتسهيله عليهم ، وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم ، كقوله : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء .

وخبر صلاة الليل . ونهيهم عن الوصال . وكراهته دخول الكعبة لئلا يعنت أمته . ورغبته لربه أن يجعل سبه ولعنه لهم رحمة بهم .وأنه كان يسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته .

ومن شفقته r  أن دعا ربه وعاهده ، فقال : أيما رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاةً ورحمةً ،    وصلاةً وطهوراً ، وقربةً تقربه بها إليك يوم القيامة .

ولما كذبه قومه أتاه جبريل عليه السلام ، فقال له : إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك ، و ما ردوا عليك   وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداه ملك الجبال و سلم عليه ، و قال : مرني بما شئت ،     وإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . قال النبي r : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده و لا يشرك به شيئاً .

وروى أبن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال الن بي r : إن الله تعالى أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك . فقال : أؤخر عن أمتي لعل الله أن يتوب عليهم .

قالت عائشة : ما خير رسول الله r بين أمرين إلا اختار أيسرهما .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : كان رسول الله r يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا .

وعن عائشة أنها ركبت بعيراً و فيه صعوبة ، فجعلت تردده ، فقال رسول الله r : عليك بالرفق .

 الفصل الخامس عشر

خلقهr   في الوفاء وحسن العهد ، وصلة الرحم

و أما خلقه r  في الوفاء وحسن العهد ، وصلة الرحم ـ فحدثنا القاضي أبو عامر محمد بن اسماعيل بقراءتي عليه ، قال حدثنا أبو بكر محمد بن محمد ، حدثنا أبو اسحاق الحبال ، حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا ابن الأعرابي ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن سنان ؟ ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن بديل ، عن عبد الكريم بن عبد الله بن شفيق ، عن ابنه ، عن عبد الله بن أبي الحمساء ، قال : بايعت النبي r  ببيع قبل أن يبعث ، وبقيت له بقية ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ، فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاث ، فجئت فإذا هو في مكانه ، فقال :  يا فتى ، لقد شققت علي ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك   .

-وعن أنس : كان النبي r  إذا أتي بهدية قال : اذهبوا بها إلى بيت فلانة ، فإنها كانت صديقة لخديجة ، إنها كانت تحب خديجة .

-وعن عائشة قالت : ما غِرتُ على امرأة ما غرت على خديجة ، لما كنت أسمعه يذكرها ، و إن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها .

-واستأذنت عليه أختها فارتاح إليها .

-ودخلت عليه امرأة ، فهش لها ، وأحسن السؤال عنها ، فلما خرجت قال : إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان .

-ووصفه بعضهم ، فقال : كان يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم .
وقال
r : إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء غير أن لهم رحماً سأبلها ببلالها .

-وقد صلى r  بأُمامَة ابنة ابنته زينب  يحملها على عاتقه ، فإذا سجد وضعها ، و إذا قام حملها .

-وعن أبي قتادة : وفد وفد للنجاشي ، فقام النبي r  يخدمهم ، فقال له أصحابه : نكفيك . فقال : إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين ، و إني أحب أن أكافئهم .

ولما جيء بأخته من الرضاعة الشيماء في سبايا هوزان ، وتعرفت له بسط لها رداءه ، وقال لها : إن أحببت أقمت عندي مكرمة محبة ، أو متعتك ورجعت إلى قومك فاختارت قومها فمتعها .

وقال أبو الطفيل   : رأيت النبي r  وأنا غلام إذا أقبلت امرأة حتى دنت منه ، فبسط لها رداءه ، فجلست عليه ، فقلت : من هذه ؟ قالوا : أمه التي أرضـعتـه .

-عن عمر بن السائب ـ أن رسول الله r  كان جالساً يوما ً ، فأقبل أبوه من الرضاعة ، فوضع له بعض ثوبه ، فقعد عليه ، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ، ثم أقبل أخوه من الرضاعة ، فقام رسول الله r  فأجلسه بين يديه .

  -وكان يبعث إلى ثويبة مولاة أبي لهب مرضعته بصلة وكسوة ، فلما ماتت سأل : من بقي من قرابتها فقيل لا أحد   .

-وفي حديث خديجة رضي الله عنها أنها قالت له r: أبشر ، فوالله لا يحزنك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم   وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .

الفصل السادس عشر

في تواضعه r

وأما تواضعه r ، على علُو منصبه ورفعة وثيته ـ فكان أشد الناس تواضعاً ، و أقلهم كبرا .
وحسبك أنه خُيِّر بين أن يكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً ، فاختيار أن يكون نبياً عبداً ، فقال له إسرافيل عند ذلك : فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من تنشق الأرض عنه ،    وأول شافع .
-حدثنا أبو الوليد بن العواد الفقيه ـ رحمه الله ـ بقراءتي عليه في منزله بقرطبة سنة سبع وخمسمائة ، حدثنا أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسه ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن مسعد ، أبي العنبس ، عن أبي العدبس ، عن أبي مرزوق ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قال : خرج علينا رسول الله
r  متكئاً على عصا ، فقُمنا له . قال: لا تقومو ا كما تقوم الأعاجم ، يعظم بعضهم بعضاً .
-وقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، و أجلس كما يجلس العبد .
و كان يركب الحمار ، ويردف خلفه ، ويعود المساكين ، ويجالس الفقراء ، ويجيب دعوة العبد ، ويجلس بين أصحابه مختلطا ً بهم حيثما انتهى به المجلس جلس .

-وفي حديث عمر عنه : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد او رسوله .

-وعن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء جائته ، فقالت : إن لي إليك حاجة قال : اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك . قال : فجلست ، فجلس النبي r  إليها حتى فرغت من حاجتها .

-قال أنس : كان رسول الله r  يركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد ، و كان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف . قال : وكان يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب .

-قال : وحج r  على رحل رث ، و عليه قطيفة ماتساوي أربعة دراهم ، فقال : اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه و لا سمعة .

هذا ، وقد فتحت عليه الأرض ، وأهدى في حجه ذلك ما أتى بدنة ولما فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى كاد يمس قادمته تواضعاً لله تعالى .

-ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم قوله : لا تفضلوني على يونس بن متى ، و لا تفضلوا بين الأنبياء ، و لا تخيروني على موسى ، و نحن أحق بالشك من إبراهيم و لو لبث ما لبث يوسف  في السجن لأجبت الداعي .
و قال للذي قال له : يا خير البرية : ذاك إبراهيم .
و سيأتي الكلام على هذه الأحاديث بعد هذا إن شاء الله .

-وعن عائشة ، والحسن ، وأبي سعيد وغيرهم في صفته ، وبعضهم يزيد على بعض : و كان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ويرقع ثوبه ، ويخصف نعله ، ويخدم نفسه ، ويقم البيت ، ويعقل البعير ، ويعلف ناضحه ، ويأكل مع الخادم ، ويعجن معها ، ويحمل بضاعته من السوق .

-وعن أنس : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول r  فتنطلق به حيث شاءت حتى تقضي حاجتها .

-ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له : هون عليك فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد .

-وعن أبي هريرة : دخلت السوق مع النبي r ، فاشترى سراويل وقال للوزان : زن و أرجح ـ و ذكر القصة قال : فوثب إلى يد النبي r  يقبلها ، فجذب يده ، وقال : هذا تفعله الأعاجم بملوكها ، و لست بملك ، إنما أنا رجل منكم . ثم أخذ السراويل ، فذهبت لأحمله ، فقال : صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله .

الفصل السابع عشر

عدله ، و أمانته ، و عفته ، وصدق لهجته r

وأما عدله r وأمانته وعفته وصدق لهجته ـ فكان r آمن الناس ، وأعدل الناس ، وأعف الناس ،   وأصدقهم لهجة منذ كان ، اعترف له بذلك محادوه و عداه .
و كان يسمى قبل نبوته الأمين .
-قال ابن اسحاق : كان يسمى الأمين بما جمع الله فيه من الأخلاق الصالحة .
وقال تعالى : ((مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير : 21 )): أكثر المفسرين على أنه محمد
r .
ولما اختلفت قريش وتحازبت عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر حكموا أول داخل عليهم ، فإذا النبي
r    داخل ـ و ذلك قبل نبوته ، فقالوا : هذا محمد الأمين قد رضينا به .
وعن الربيع بن خثيم : كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل الإسلام .
وقال
r : و الله إني لأمين في السماء أمين في الأرض .
-حدثنا أبو علي الصدفي الحافظ بقرائتي عليه ، حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، حدثنا أبو يعلى ابن زوج الحرة ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن محبوب المروزي ، حدثنا أبو عيسى الحافظ ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن أبي اسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي ـ أن أبا جهل قال للنبي
r : إنا لا نكذبك ، و لكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله تعالى : ( فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام : 33 ) وروى غيره : لا نكذبك و لا أنت فينا بمكذب .

-وقيل : إن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر ، فقال له : يا أبا الحكم ليس هنا غيري و غيرك يسمع كلامنا ، تخبرني عن محمد ، صادق هو أو كاذب ؟ فقال أبو جهل : والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط .

-وسأل هرقل عن أبا سفيان ، فقال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا .

-وقال النضر بن الحارس لقريش : قد كان محمد فيكم غلاماً حدثا ،أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثأً ،      وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر . لا ، و الله ، ما هو بساحر .

-وفي الحديث عنه : ما لمست يده امرأة قط لا يملك رقها .

-وفي حديث علي ـ في وصفه r : أصدق الناس لهجة .
وقال في الصحيح :ويْحك ! فمن يعدل إن لم أعدل ، خبت و خسرت إن لم أعدل .

-قالت عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه .

-قال أبو العباس المبرد : قسم كسرى أيامه ، فقال : يصلح يوم الريح للنوم ، و يوم الغيمه للصيد ، و يوم المطر للشرب واللهو ، و يوم الشمس للحوائج .
قال ابن خالوية : ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم ، ((يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم : 7 )، و لكن نبينا  
 rجزء نهاره ثلاث أجزاء ، جزءاً لله ،                            وجزءاً لأهله ، وجزءاً لنفسه، ثم جزء جزأه بينه و بين الناس ، فكان يستعين بالخاصة على العامة ،       ويقول : أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي ، فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله يوم الفزع الأكبر .

-وعن الحسن كان رسول الله r لا يأخذ أحداً بقرف أحد ، و لا يصدق أحداً على أحد .
و ذكر أبو جعفر الطبري عن علي عنه
r : ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين ، كل ذلك يحول الله بيني و بين ما أريد من ذلك ، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته ، قلت ليلة لغلام كان يرعى معي : لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب .
فخرجت كذلك حتى جئت أول دار من مكة سمعت عزفاً بالدفوف و المزامير لعرس بعضهم . فجلست أنظر فضرب على أذني فنمت ، فما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت و لم أقض شيئاً . ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك ، ثم لم أهم بعد ذلك بسوء .

الفصل الثامن عشر

وقاره r ، وصمته ، وتؤدته وحسن هديه

وأما وقاره r وصمته وتؤدته ومروءته وحسن هديه فحدثنا أبو علي الجياني الحافظ إجازة ، وعارضت بكتابه ، قال : حدثنا أبو العابس الدلائي ، أنبئنا أبو ذر الهروي ، أخبرنا أبو عبد الله الوراق ، حدثنا اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عبد الرحمن بن سلام ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن عمر بن عبد العزيز بن وهيب : سمعت خارجة بن زيد يقول : كان النبي  r   أوقر الناس في مجلسه ، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه .
-وروى أبو سعيد الخدري قال : كان رسول الله  
r  إذا جلس في مجلس احتبى بيديه ، و كذلك كان أكثر جلوسه محتبياً .

-وعن جابر بن سمرة أنه تربع ، وربما جلس القرفصاء ، وهو في حديث قيلة ، وكان كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجة ، يعرض عمن تكلم بغير جميل ، وكان ضحكه تبسماً ، وكلامه فصلاً لا فضول ولا تقصير ، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم ، توقيراً له ، واقتداء به . مجلسه مجلس حلم وحياء ، و خير وأمانة لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن فيه الحرم ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير .

-وفي صفته : يخطو تكفؤاً ، و يمشي هوناً كأنما ينحط من صبب .

-وفي الحديث الآخر : إذا مشى مشى مجتمعاً ، يعرف في مشيته أنه غير غَرَضٍ ولا وَكِل ، أي غير ضجر وكسلان .

-وقال عبد الله بن مسعود : إن أحسن الهدى هدي محمد  r .

-وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : كان في كلام رسول الله  r  ترتيل أو ترسيل.

-قال ابن أبي هالة : كان سكوته على أربع : على الحلم ، والحذر ، والتقدير والتفكر .

-قالت عائشة : كان رسول الله  r يحدث حديثاً لو عده العاد أحصاه .
و كان  
r  يحب الطيب والرائحة الحسنة ، و يستعملها كثيراً ، ويحض عليهما ، ويقول : حبب إلي من دنياكم النساء ، و جعلت قرة  عيني في الصلاة .

ومن مروءته  r  نهيه عن النفخ في الطعام والشراب ، والأمر بالأكل مما يلي ، والأمر بالسواك ،      وإنقاء البراجم و الرواجب ، واستعمال خصال الفطرة .

الفصل التاسع عشر
زهده
r  في الدنيا 

وأما زهده في الدنيا فقد تقدم من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي . و حسبك من تقلله منها ، واعراضه عن زهرتها ، وقد سيقت إليه بحذافيرها ، وترادفت عليه فتوحها إلي أن توفي r و درعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله ، وهو يدعو ويقول : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً .
حدثنا سفيان بن العاصي ، والحسين بن محمد الحافظ ، والقاضي أبو عبد الله التيمي ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، قال حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا أبو حسين مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : ما شبع رسول الله
r ثلاثة أيام تباعاً من خبز حتى مضى لسبيله .

-وفي رواية أخرى : من خبز شعير يومين متواليين ، و لو شاء الله لأعطاه ما لا يخطر ببال .

-وفي رواية أخرى : ما شبع آل رسول الله r من خبز بر حتى لقي الله تعالى .

-قالت عائشة : ما ترك رسول اللهr ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً .
وفي حديث عمرو بن الحارث : ما ترك إلا سلاحه و بغلته وأرضاً جعلها صدقة .

-قالت عائشة : ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي .

-وقال لي : إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مكة ذهباً . فقلت : لا ، يا رب ، أجوع يوماً وأشبع يوماً   فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك ، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك و أثني عليك .

وفي حديث آخر أن جبريل نزل عليه ، فقال له : إن الله تعالى يقرئك السلام ، و يقول لك : أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهباً ، و تكون معك حيثما كنت ، فأطرق ساعة ، ثم قال : يا جبريل ، إن الدنيا دار من لا دار له ، و مال من لا مال له ، قد يجمعها من لا عقل له .
فقال له جبريل : ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت .

-وعن عائشة قالت : إن كنا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً ، إن هو إلا التمر والماء .

-وعن عبد الرحمن بن عوف : هلك رسول الله r ، و لم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير .

-وعن عائشة و أبي أمامة ، و ابن عباس نحوه .

-قال ابن عباس : كان r يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون عشاء .

-وعن أنس : ما أكل رسول الله r على خوان و لا في سُكُرُّجَة ، و لا خبز له مرقَّق ، و لا رأى شاة سميطاً قط .

-وعن عائشة : إنما كان فراشه الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف .

-وعن حفصة قالت : كان فراش رسول الله r في بيته مسحاً نثنيه ثنيتين ، فينام عليه ، فثنيناه له ليلة بأربع ، فلما أصبح قال : ما فرشتم لي الليلة ؟ فذكرنا ذلك له ، فقال : ردوه بحاله فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي .

-وكان r ينام أحياناً على سرير مرمول بشريط حتى يؤثر في جنبه .

-وعن عائشة قالت : لم يمتلىء جوف النبي r  شبعاً قط و لم يبث شكوى إلى أحد و كانت الفاقة أحب إليه من الغنى ، و إن كان ليظل جائعاً يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه ، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها ، ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به ، وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع ، وأقول : نفسي لك الفداء ، ولو تبلغت من الدنيا بما يقوتك ! فيقول : يا عائشة ، ما لي و للدنيا ، إخواني من أولى العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا ، فمضوا على حالهم ، فقدموا على ربهم ، فأكرم مآبهم ، و أجزل ثوابهم : فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم ، و ما من شيء هو أحب إلي من اللحوق بإخواني و أخلائي .
قالت : فما أقام بعد إلا شهراً حتى توفى
r.  

الفصل العشرون
خوفه ربه ، و طاعته له ، و شدة عبادته
r.   

وأما خوفه ربه ، وطاعته له ، و شدة عبادته ، فعلى قدر علمه بربه ، ولذلك قال فيما حدثناه أبو محمد بن عتاب قراءة مني عليه . قال : حدثنا أبو القاسم الطرابلسي ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله الفربري ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ـ أن أبا هريرة كان يقول : قال رسول الله r  : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً .
زاد في روايتنا ، عن أبي عيسى الترمذي ـ رفعه إلى أبي ذر : إني أرى ما لا ترون ، و أسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا و ملك واضع جبهته ساجداً لله ،  و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً ، و ما تلذذتم بالنساء على الفرش ، و لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ، لوددت أني شجرة تعضد .
روي هذا الكلام : وددت أني شجرة تعضد ـ من قول أبي ذر نفسه ، و هو أصح .

-وفي حديث المغيرة : صلى رسول الله r حتى انتفخت قدماه .

-وفي رواية : كان يصلى حتى ترم قدماه ، فقيل له : أتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر . قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ .

-ونحوه عن أبي سلمى و أبي هريرة .

-وقالت عائشة : كان عمل رسول الله r ديمة ، و أيكم يطيق ما كان يطيق ! .

-وقالت : كان يصوم حتى نقول : لا يفطر . و يفطر حتى نقول : لا يصوم .

-ونحوه عن ابن العباس ، و أم سلمى ، و أنس .

-وقالت : كنت لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته مصليا ، و لا نائماً إلا رأيته نائماً .

-وقال عوف بن مالك : كنت مع رسول الله r ليلة فاستاك ثم توضأ ، ثم قام يصلي ، فقمت معه ، فبدأ فاستفتح البقرة ، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ ، ثم ركع ، فمكث بقدر قيامه ، يقول : سبحان ذي الجبروت والملكوت والعظمة ،ثم سجد و قال مثل ذلك ،ثم قرأ آل عمران ، ثم سورة سورة ، يفعل مثل ذلك .

-وعن حذيفة مثله ، وقال سجد نحواً من قيامه ، و جلس بين السجدتين نحواً منه ، وقال : حتى قرأ البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة .

-وعن عائشة : قام رسول الله r بآية من القرأن ليلة .

-وعن عبد الله بن الشخير : أتيت رسول الله r وهو يصلي ، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل .

-وقال أبن أبي هالة : كان رسول الله r متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة .
فقال
r : إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة - وروي سبعين مرة .

-وعن علي رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله r عن سُنته ، فقال : المعرفة رأس مالي ، والعقل أصل ديني ، والحب أساسي ، والشوق مركبي ، وذكر الله أنيسي ، والثقة كنزي ، والحزن رفيقي ، والعلم سلاحي ، والصبر ردائي ، والرضا غنيمتي ، والعجز فخري ، والزهد حرفتي ، واليقين قوتي ، والصدق شفيعي ، والطاعة حسبي ، والجهاد خلقي ، وقرة عيني في الصلاة .
و في حديث آخر : وثمرة فؤادي في ذكره ، وغمي لأجل أمتي ، وشوقي إلى ربي .

                      الفصل الحادي والعشرون
                     تـفـضـيـل الله بـعـض الأنـبـيـاء عـلى بـعـض

اعلم ـ وفقنا الله وإياك ـ أن صفات جميع الأنبياء صلوات الله عليهم ، من كمال الخلْق ، وحسن الصورة   وشرف النسب ، وحسن الخلُق ،وجميع المحاسن ،هي هذه الصفة ، لأنها صفات الكمال .والكمال والتمام البشري والفضل الجميع لهم صلوات الله عليهم ، إذ رُتبتهم أشرف الرتَب ، و درجاتهم أرفع الدرجات ،    ولكن فضََّل الله بعضهم على بعض،قال الله تعالى :( (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (البقرة : 253 )  وقال : (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (الدخان : 32 )

-وقد قال r : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر .
ثم قال آخر الحديث : على خلق رجل واحد ، على صورة ، أبيهم آدم ، طوله ستون ذراعاً في السماء .

وفي حديث أبي هريرة : رأيت موسى فإذا هو رجل ضرب ، رجل ، أقنى كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى فإذا هو رجل ربعة ، كثير خيلان الوجه ، أحمر كأنما خرج من ديماس .
وفي حديث آخر : مبطن مثل السيف ، قال : وأنا أشبه ولد إبراهيم به .

-وقال في حديث آخر في صفة موسىعليه السلام : كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال .

-وفي حديث أبي هريرة ، عنه r : ما بعث الله تعالى من بعد لوط نبياً إلا في ذروة من قومه .
ويروى   : في ثروة ، أي كثرة و منعة .

وحكى الترمذي ، عن قتادة ، و رواه الدارقطني من حديث قتادة عن أنس : ما بعث الله تعالىنبياً  إلا حسن الوجه ، حسن الصوت ، و كان نبيكم أحسنهم وجهاً ، و أحسنهم صوتاً .

-وفي حديث هرقل : وسألتك عن نسبه ، فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، و كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها.

-وقال تعالى في أيوب عليه السلام : (إِِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صـ : 44 ).

-وقال تعالى : ((يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * َوحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً * (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً) (مريم :  12 - 15 ] .

-وقال : (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران : 39 )
-وقال : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران : 33-34 )

-وقال في نوح عليه السلام : (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء : 3 ) .
-وقال : ((إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران : 45 )

-وقال : ((قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً *  وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) (مريم : 30-31 )
-وقال تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً) (الأحزاب : 69 )

-قال النبي r : كان موسى رجلاً حيياً ستيراً ما يرى من جسده شيء استحياء .  

-وقال تعالى ـ عنه : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء : 21 ).)
-وقال في وصف جماعة منهم : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء : 107 +125+143+162 +178)(الدخان 18)

 -وقال : (إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص : 26 )
-وقال : فاصبر كم ا صبر أولو العزم من الرسل [ سورة الأحقاف / 46 ، الآية : 35 ] .

-وقال :( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 84 ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( 85 ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( 86 ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 87 ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( 88 ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( 89 ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( 90 ) ( سورة الأنعام)   
فوصفهم بأوصاف جمة من الصلاح و الهدى والاجتباء والحكم والنبوة .

وقال : (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (الصافات : 101 )( وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) (الذاريات : 28 )( وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) (الذاريات : 28 )).

-وقال (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( 17 ) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 18 ) ( سورة الدخان)  

-وقال : (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات : 102 )

وقال ـ في إسماعيل عليه السلام ـ : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً  ( 54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ( 55 ) (سورة مريم)  

-وفي موسى عليه السلام : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً) (مريم : 51 )

وفي سليمان عليه السلام : (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صـ : 30 )

-وقال : (َاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ( 45 ) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ( 47 ) ( سورة ص)

-وفي داود عليه السلام : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صـ : 17 )   .

ثم قال : ((وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (صـ : 20

-وقال ـ عن يوسف عليه السلام : (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف : 55 )

-وفي موسى عليه السلام  : (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (الكهف : 69 )

-وقال تعالى ـ عن شعيب عليه السلام ـ :( سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص : 27 )]

-وقال : (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود : 88 )

وقال في لوط عليه السلام : ((وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) (الأنبياء : 74 ) .

-وقال :( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء : 90 )

قال سفيان : هو الحزن الدائم .

وفي آي كثيرة ، ذكر فيها من خصالهم و محاسن أخلاقهم الدالة على كمالهم .
وجاء من ذلك في الأحاديث كثير ، كقوله
r  :   إنما الكريم ابن ا لكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ،نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي   .

-وفي حديث أنس :   وكذلك الأنبياء تنام أعينهم و لا تنام قلوبهم  .

-وروي أن سليمان عليه السلام  كان مع ما أعطي من الملك لايرفع بصره إلى السماء تخشعاً وتواضعاً  لله تعالى . وكان يطعم الناس لذائد الأطعمة و يأكل خبز الشعير . وأوحى الله إليه : يا رأس العابدين ، و ابن محجة الزاهدين . وكانت العجوز تعترضه ـ و هو على الريح في جنوده ، فيأمر الريح فتقف فينظر في حاجتها و يمضي .

-وقيل ليوسف عليه السلام : مالك تجوع و أنت على خزائن الأرض ؟ قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع  

-وروى أبو هريرة عنه r قال: خفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدوابه ، فتسرج ، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج ، ولا يأكل إلا من عمل يده .

قال الله تعالى :( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (سبأ : 11 ).

وكان سأل ربه أن يرزقه عملاً بيده يغنيه عن بيت المال .

وقال  r : أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود : كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، ويصوم يوماً ويفطر يوماً وكان يلبس الصوف ، ويفترش الشعر ، ويأكل خبز الشعير بالملح والرماد ، و يمزج شرابه بالدموع ، ولم يُر ضاحكاً بعد الخطيئة ، ولا شاخصاً ببصره إلى السماء ، حياء من ربه ، و لم يزل باكياً حياته كلها . وقيل : بكى حتى نبت العشب من دموعه ، وحتى اتخذت الدموع في خذه أخدوداً .وقيل : كان يخرج متنكراً يتعرف سيرته ، فيستمع الثناء عليه ، فيزداد تواضعاً .

-وقيل لعيسى عليه السلام : لو اتخذت حماراً . قال : أنا أكرم على الله من أن يشغلني بحمار .
وكان يلبس الشعر ، و يأكل الشجر ، ولم يكن له بيت أينما أدركه النوم نام .
وكان أحب الأسامي إليه أن يقال له مسكين .

-وقيل : إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين كانت ترى خضرة البقل في بطنه من الهزال .

-وقال  r : لقد كان الأنبياء قبلي يبتلي أحدهم بالفقر والقمل ، وكان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم .

-وقال عيسى عليه السلام ـ لخنزير لقِيَه : اذهب بسلام . فقيل له في ذلك ، فقال : أكره أن أعود لساني المنطق بسوء .

-وقال مجاهد : كان طعام يحيى العشب .

-وكان يبكي من خشية الله حتى اتخذ الدمع مجرى في خده ، وكان يأكل من الوحش لئلا يخالط الناس .

-وحكى الطبري ، عن وهب ، أن موسى عليه السلام  كان يستظل بعريش ، ويأكل في نقرة من حجر ،    ويكرع فيها إذا أراد أن يشرب كما تكرع الدابة ، تواضعاً لله بما أكرمه الله به من كلامه .

-وأخبارهم في هذا كله مسطورة ، وصفاتهم في الكمال وجميل الأخلاق ، وحسن الصور
والشمائل معروفة مشهورة ، فلا نطول بها ، ولا تلتفت إلى ما تجده في كتب بعض جهلة المؤرخين       والمفسرين مما يخالف هذا .

الفصل الثاني والعشرون
حــديــث جــامــع لــوصــفــه
r

قد أتيناك ـ أكرمك الله ـ من ذكر الأخلاق الحميدة ، والفضائل المجيدة ، وخصال الكمال العديدة ،        وأريناك صحتها له  r ، وجلينا من الآثار ما فيه مقنع ، والأمر أوسع ، فمجال هذا الباب في حقه  r ممتد ، تنقطع دون نفاده الأدلاء ، وبحر علم خصائصه زاخر لا تكدره الدلاء ، لكنا أتينا فيه بالمعروف مما أكثر في الصحيح و المشهور من المصنفات ، واقتصرنا في ذلك بقُل من كُل ، و غيْض من فيءض ، ورأينا أن نختم هذه الفصول بذكر حديث الحسن ، عن أبي هالة ، لجمعه من شمائله وأوصافه كثيراً ،     وإدماجه جملة كافيةً من سيره وفضائله ، ونصِلُه بتنبيه لطيف على غريبه ومشكله .
-حدثنا القاضي أبو الحسن بن محمد الحافظ ـ رحمه الله ـ بقراءتي عليه سنة ثمان و خمسمائة   ، قال : حدثنا الإمام أبو القاسم عبد الله بن طاهر التميمي قراءةً عليه ، أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن عبد الله بن الحسن النيسابوري ، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدي ،         والقاضي أبو علي الحسن بن علي بن جعفر الوحشي ، قالوا : حدثنا أبو ا لقاسم علي بن أحمد بن محمد بن الحسن الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى بن سورة الحافظ ،قال:  حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي إملاءً من كتابه ، قال : حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ، يكنى أبا عبد الله ، عن ابن لأبي هالة ، عن الحسن بن علي أبي طالب رحمه الله ، قال : سألت خالي هند بن أبي هالة .
قال القاضي أبو علي رحمه الله : وقرأت على الشيخ أبي طاهر أحمد بن الحسن ابن أحمد بن خذاداذ الكرجي الباقلاني ، قال : وأجاز لنا الشيخ الأجل أبو الفضل أحمد ابن الحسين بن خيرون ، قالا : حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن ابن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسي قراءةً عليه فأقر به ، قال : أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي ابن [ الحسين بن علي ] بن أبي طالب المعروف بابن أخي طاهر العلوي قال : حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، قا ل : حدثني علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أخيه موسى بن جعفر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن علي بن الحسين ، قال : قال الحسن بن علي ـ و اللفظ لهذا السند : سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله
 r ـ و كان وصافاً ـ و أنا أرجو أن يصفع لي منها شيئاً أتعلق به ، قال  
كان رسول الله
 r فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلإلأ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، و أقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إن انفرقت عقيقته فرق ، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه ، إذا هو وفره ، أزهر اللون ، واسع الجبين، أزج الحواجب ، سوابغ ،من غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب،   أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، و يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، أدعج ، سهل الخدين ، ضليع الفم أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخق ، بادناً ، متماسكاً ، سواء البطن والصدر ، مشيح الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط ، عاري الثديين ، ما سوى ذلك ، أشعر الذراعين        والمنكبين وأعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شئن الكفين والقدمين ، سائل الأطراف ـ   أو قال : سائن الأطراف  ، سبط العصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ، ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال تقلعا ، ويخطو تكفأً ، ويمشي هوناً ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ،  و يبدأ من لقيه بالسلام .

قلت : صف لي منطقه .

-قال : كان رسول الله  r متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه ، و يتكلم بجوامع الكلم فصلاً ، لا فضول فيه ولا تقصير ، دمثاً ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، لا يذم شيئاً ، لم يكن يذم ذواقاً ، ولا يمدحه ، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، و إذا تعجب قلبها وإذا تحدث اتصل بها ، فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام .
قال الحسن :  فكتمتها الحسين بن علي زماناً ،ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه ، فسأل أباه عن مدخل رسول الله
 r ومخرجه ومجلسه وشكله ، فلم يدع منه شيئاً .

-قال الحسين : سألت أبي عن دخول رسول الله  r  فقال : كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءاً لأهله ، و جزءاً لنفسه ، ثم جزأ جزأه بينه و بين الناس ، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ، ولا يدخر عنهم شيئاً ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه و قسمته على قدر فضلهم في الدين ، منهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، ويشغلهم فيما أصلحهم ، والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، و أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلا ذلك ، ولا يقبل من أحد غيره .
وقال في حديث سفيان بن وكيع : يدخلن رواداً ، و لا يتفرقون إلا عن ذواق ، و يخرجون أدلة ـ يعني فقهاء .

قلت : فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟

-قال : كان رسول الله  r يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ولا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ،       ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس ، ويحسن الحسن ويصوبه ، ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقتصر عن الحق ، ولا يجاوزه إلى غيره ، الذي يلونه من الناس خيارهم ، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة         و موازرة .

فسألته عن مجلسه : عما كان يصنع فيه .

-فقال : كان رسول الله  r لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن ، وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب   جليسه أن أحداً أكرم عليه فيه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى  يكون هو المنصرف عنه  
من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول . قد وسع ا لناس ، بسطه و خلقه ، فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحق سواء ، متقاربين متفاضلين فيه التقوى .
وفي الرواية الآخرى : صاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء ، وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤْبن فيه الحرم ، ولا تثنى فلتاته ـ وهذه الكلمة ، من غير الروايتين ـ
يتعاطون فيه بالتقوى متواصفين ، يوقرون فيه الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويرفدون ذا الحاجة ،        ويرحمون الغريب .

فسألته عن سيرته  r في جلسائه .

-فقال : كان رسول الله  r دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب ، و ا فحاش ، ولا عياب ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ولا يُؤْيَس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء   والإكثار وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ، ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطير ، إذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث . من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ،  و يتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق ، ويقول : إذا رأيتم صاحب الحجة يطلبها فأرفدوه ، ولا يطلب الثناء إلا من مكافىء ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام .

هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع .

-وزاد الآخر : كيف كان سكوته  r؟

-قال : كان سكوته على أربع : الحلم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكير . فأما تقديره ففي تسوية النظر      و الإستماع بين الناس ، و أما تفكره ففيما يبقى و يفنى .
و جمع له الحلم
 rفي الصبر ، فكان لا يغضبه شيء يستفزه ، وجمع له في الحذر أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، و تركه القبيح لينتهى عنه ، و اجتهاد الرأي بما أصلح أمته ، و القيام لهم بما جمع أمر الدنيا و الآخرة .

انتهى الوصف بحمد الله و عونه .

الفصل الثالث والعشرون
فـي تـفـسـيـر غـريـب هـذا الـحديـث و مـشـكـلـه

-قوله : المشذب ، أي البائن الطول في نحافة ، وهو مثل قوله في الحديث الأخر : ليس بالطويل الممغط .
والشعر الرجِل : الذي كأنه مشط فتكسر قليلاً ، ليس ببسط ولا جعد .
والعقيقة : شعر الرأس ، أراد إن انفرقت من ذات نفسها فرقها ، وإلا تركها معقوصة . ويروى : قيصته .
وأزهر اللون : نيره . وقيل : أزهر : حسن . ومنه زهرة الحياة الدنيا ، أي زينتها .
وهذا كما قال في الحديث الآخر : ليس بالأبيض الأمهق ، ولا بالآدم .
والأمهق : هو الناصع البياض . والآدم : الأسمر اللون .
ومثله في الحديث الآخر : أبيض مشرب ، أي فيه حمرة .
والحاجب الأزج : المقوس الطويل الوافر الشعر .
و الأقنى : السائل الأنف ، المرتفع وسطه .
والأشم : الطويل قصبة الأنف .
والقرن : اتصال شعر الحاجبين . وضده البلج .
ووقع في حديث أم معبد وصفه بالقرن .
والأدعج : الشديد سواد الحدقة .      
وفي الحديث الآخر :   أشكل العين ، وأسجر العين ، وهو الذي في بياضها حمرة .
والضليع : الواسع .
والشنب : رونق الأسنان ، و ماؤها .
وقيل : رقتها و تحزيز فيها ، كما يوجد في أسنان الشباب .
والفلج : فرق بين الثنايا .
ودقيق المسربة : خيط الشعر الذي بين الصدر والسرة .
وبادن : ذو لحم متماسك ، معتدل الخلق ، يمسك بعضه بعضاً ، مثل قوله  في الحديث الأخر : لم يكن بالمطهم ، و لا بالمكلثم ، أي ليس بمسترخي اللحم .
والمكلثم : القصير الذقن .
وسواء البطن و الصدر ، أي مستويهما .
ومشيح الصدر ، إن صحت هذه اللفظة فتكون من الإقبال ، وهو أحد معاني = أشاح =، أي أنه كان بادي الصدر ، ولم يكن في صدره قعس ، وهو تطامن فيه ، وبه يتضح قوله قبل : سواء البطن و الصدر ، أي ليس بمتقاعس الصدر ، ولا مفاض البطن . ولعل اللفظة : مسيح ـ بالسين ، و فتح الميم ، بمعنى عريض  كما وقع في الرواية الأخرى . وحكاه ابن دريد .
والكراديس : رؤوس العظام ، وهو مثل قوله في الحديث الأخر : جليل المشاش والكتد .
والمشاش : رؤوس المناكب .

والكتد : مجتمع الكتفين .
وشثن الكفين والقدمين : لحيمهما .  

والزندان : عظما الذراعين .
وسائل الأطراف : أي طويل الأصابع .
وذكر ابن الأنباري أنه روي سائل الأطراف ، وقال : سائن ـ بالنون ، قال : وهما بمعنى ، تبدل اللام من النون ، إن صحت الرواية بها .
وأما في الرواية الأخرى : وسائر الأطراف ـ فإشارة إلى فخامة جوارحه ، كما وقعت مفصلة في الحديث .
ورحب الراحة ، أي واسعها . وقيل : كنى به عن سعة العطاء والجود .

وخُمَصان الأخمصين : أي متجافي أخمص القدم ، وهو الموضع الذي لا تناله الأرض من وسط القدم .
ومسيح ا لقدمين : أي أمسهما ، و لهذا ، قال : ينبو عنهما الماء .
وفي حديث أبي هريرة خلاف هذا ، قال فيه : إذا وطىء بقدمه وطىء بكلها ، ليس له أخمص .
وهذا يوافق معنى قوله : مسيح القدمين ، و به قالوا : سمي المسيح  عيسى ابن مريم أي إنه لم يكن له أخمص .
وقيل مسيح : لا لحم عليهما .
وهذا أيضاً يخالف قوله : شئن القدمين .
والتقلع : هو رفع الرجل بقوة .
والتكفؤ : الميل الى سنن المشي ، و قصده .
والهون :الرفق و الوقار .
والذريع : الواسع الخطو ، أي إن مشية كان يرفع فيه رجليه بسرعة ، ويمد خطوه ، خلاف مشية المختال   ويقصد سمته ، وكل ذلك برفق و تثبت دون عجلة ، كما قال : كأنما ينحط من صبب .
وقوله : يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه : أي لسعه فمه . والعرب تتمادح بهذا وتذم بصغر الفم .
وأشاح : مال و أنقبض .
وحب الغمام : البرَد .
وقوله : فيرد ذلك بالخاصة على العامة ، أي جعل من جزءنفسه ما يوصل الخاصة إليه فتوصل عنه للعامة .
وقيل : يجعل منه للخاصة ، ثم يبدلها في جزء آخر بالعامة .
ويدخلون رواداً ، أي محتاجين إليه وطالبين لما عنده .
ولا يتفرقون إلا عن ذواق : قيل : عن علم يتعلمونه ، و يشبه أن يكون على ظاهره أي في الغالب        والأكثر .
والعتاد : العدة ، و الشيء الحاضر المعد .
والموازنة : المعاونة .
وقوله : لا يوطن الأماكن ، أي لا يتخذ لمصلاه موضعاً معلوماً .
وقد ورد نهيه عن هذا مفسراً في غير هذا الحديث .
وصابره : أي حبس نفسه على ما يريد صاحبه .
ولا تؤبن فيه الحُرَم : أي لا يُذْكرن فيه بسوء .
ولا تثني فلتاته : أي لا يتحدث بها ، أي ام تكن فيه فلتة ،و إن كانت من أحد سترت .
ويرفدون : يعينون .
والسخاب : الكثير الصياح .
وقوله : ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء . قيل مقتصد في ثنائه ومدحه .
وقيل : إلا من مسلم .
وقيل : إلا مكافىء . على يد سبقت من النبي
r  له .
ويستفزه : يستخفه .
وفي حديث أخر في وصفه : منهوس العقب ، أي قليل لحمها .
وأهدب الأشفار :أي طويل شعرها .

الباب الثالث

فيما ورد من صحيح الأخبار ومشهورها ـ بعظيم قدره عند ربه و منزلته ، وما خصه به في الدارين من كرامته  r

لا خلاف أنه أكرم البشر ، وسيد ولد آدم ، وأفضل الناس منزلة عند الله وأعلاهم درجة ، واقربهم زلفى. .
واعلم أن الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً ، و قد اقتصرنا منها على صحيحها و منتشرها و حصرنا معاني ما ورد منها في أربعة عشر فصلاً :

1- فيما ورد من ذكر مكانتهr  عند ربه عز وجل ، والاصطفاء ، ورفعة الذكر ، والتفضيل وسيادة ولد آدم  وما خصه به في الدنيا من مزايا الرتب وبركة اسمه الطيب .

2- في تفضيلهr    بما تضمنته كرامة الإسراء من المناجاة والرؤية.

3- هل كان الإسراء بالروح أو بالجسد ؟.

4- إبطال حجج من قال إنها نوم .

5- رؤيته rلربه عز و جل و اختلاف السلف فيها .

6- فيما ورد في قصة الإسراء من مناجاتهr   ربه .

7- فيما ورد في الحديث الإسراء من الدنو والقرب.

8- في ذكر تفضيله يوم القيامة بخصوص الكرامة .

9- في تفضيله r   بالمحبة والخلة .

10- في تفضيله  r  بالشفاعة والمقام المحمود .

11- في تفضيله  r   في الجنة بالوسيلة والدرجة الرفعية والكوثر والفضيلة .

12- في بيان شبهة ترد على ما تقدم.

13- في أسمائه : r وما تضمنته من فضيلته.

14- في تشريف الله تعالى له r بما سماه من أسمائه الحسنى ووصفه به من صفاتة العلا .

15- في بيان أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته .

الفصل الأول
فيما ورد من ذكر مكانتهr  عند ربه عز وجل ، والاصطفاء  ورفعة الذكر  والتفضيل وسيادة ولد آدم   وما خصه به في الدنيا من مزايا الرتب وبركة اسمه الطيب

  -أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد العدل إذناً بلقظه ، قال : حدثنا أبو الحسن الفرغاني ، حدثتنا أم القاسم بنت أبي بكر بن يعقوب ، عن أبيها ، قال : حدثنا حاتم ـ هو ابن عقيل ، عن يحيى ـ هو ابن إسماعيل ، عن يحيى الحماني ، قال : حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن عباية بن ربعي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما   قال : قال رسول الله r : إن الله قسم الخلق قسمين ، فجعلني من خيرهم قسماً ، فذلك قوله تعالى: (أصحاب اليمين) ،( وأصحاب الشمال )، فأنا من أصحاب اليمين ، وأ نا خير أصحاب اليمين . ثم جعل القسمين أثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، وذلك قوله تعالى :( فأصحاب الميمنة ).        (وأصحاب المشأمة )، (والسابقون السابقونفأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين ، ثم جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني من خيرها قبيلة ، وذلك قوله تعالى : (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . )فأنا أتقى ولد آدم و أكرمهم على الله و لا فخر .ثم جعل القبائل بيوتاً ، فجعلني من خيرها بيتاً ، فذلك قوله تعالى : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)  (الأحزاب  33 ) .

-وعن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قالوا : يا رسول الله ، متى و جبت لك النبوة ؟
قال : وآدم بين الروح و الجسد .

-وعن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله r : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم  إسماعيل . واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ،           واصطفاني من بني هاشم .

 -ومن حديث أنس : أنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر

-وفي حديث ابن عباس : أنا أكرم الأولين و ال أخرين و لا فخر .

-وعن عائشة ، عنه r : أتاني جبريل ، فقال :قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلاً أفضل من محمد ، و لم أر بني أب أفضل من بني هاشم .
وعن أنس : أن النبي
r  أُتِيَ بالبراق ليلة أُسْرِي به ، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : بمحمد تفعل   هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فارفض عرقاً .

-وعن ابن عباس ، عنه r : لما خلق الله آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض ، وجعلني في صلب نوح في السفينة ، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم ، ثم لم يزل ينقلني في الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة حتى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا علىسفاح قط .

وإلى هذا أشار العباس بن المطلب رضي الله عنه بقوله :

               من قبلها طبت في الظلال وفي            مستودع حيث  يخصف الورق

               ثـم هبـطت البـلاد لا بشـر           أنت و لا مـضغة و لا  عـلق

               بل نطفة تركب السفين و قـد           ألجـم نســراً وأهله الغـرق

               تنقل مـــن صالب إلى رحم           إذا مضى عـــالم بدا طبـق

               ثم احتوى بيتك المهين مــن          خندف عليـاء تحـتها النطـق

               وأنت لما و لـدت أشرقت الأر         ض و ضاءت بنـورك الأفــق


               فنحن في ذلك الضياء و في النو          ر وسبل الرشــاد نختــرق

               يا برد نار الخليل يـــا سبباً            لعصمة النـــار وهي تحترق


 النطُق : أوسط الجبال العالية  .

وروى عنه r ، أبو ذر ، و ابن عمر ، و ابن عباس ، و أبو هريرة ، و جابر ابن عبد الله ـ أنه قال : أعطيت خمساً ـ و في بعضها ـ ستاً لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، و جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً ، و أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، و أحلت لي الغنائم ، و لم تحل لنبي قبلي ، و بعث إلى الناس كافة ، و أعطيت الشفاعة .

-وفي رواية ـ بدل هذه الكلمة : وقيل لي : سل تعطه .

-وفي رواية أخرى : وعرض علي أمتي فلم يخف علي التابع من المتبوع .

 -وفي رواية : بُعثت إلى الأحمر و الأسود .

-وقيل : السود : العرب ، لأن الغالب على ألوانهم الأدمة ، فهم من السود . و الحمر : العجم .
-وقيل : البيض والسود من الأمم .
-وقيل : الحمر : الأنس . و السود : الجن .

-وفي الحديث الآخر ـ عن أبي هريرة : نصرت بالرعب ، و أتيت جوامع الكلم ، و بينا أنا نائم إذا جيء بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي .

-وفي رواية ـ عنه r : وختم بي النبيون .

-وعن عقبة بن عامر أنه قال : قال r : إني فرط لكم ، و أنا شهيد عليكم .
وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن ، و إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض . و إني ـ و الله ـ ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها
.

 و عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله r قال : أنا محمد النبي الأمي ، لا نبي بعدي ، أوتيت جوامع الكلم و خواتمه ، و علمت خزنة النار و حملة العرش .

-وعن ابن عمر : بُعثت بين يدي الساعة .

-ومن رواية ابن وهب ـ أنه r قال : قال الله تعالى : سل يا محمد . فقلت : ما أسأل يا رب ؟ اتخذت إبراهيم خليلاً ، و كلمت موسى تكليماً ، و اصطفيت نوحاً ، وأعطيت سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.   فقال الله تعالى : ما أعطيتك خير من ذلك ، أعطيتك الكوثر ، وجعلت اسمك مع اسمي ، ينادى به في جوف السماء ، وجعلت الأرض طهوراً لك  ولأمتك ، وغفرت لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فأنت تمشي في الناس مغفوراً لك ، ولم أصنع ذلك لأحد قبلك ، وجعلت قلوب أمتك مصاحفها ، وخبَّأت لك شفاعتك ، ولم أخْبَأْها لنبي غيرك .

-و في حديث آخر : رواه حذيفة : بشرني ـ يعني ربهعز وجل : أول من يدخل الجنة معي من أمتي   سبعون ألفاً ، مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب ، وأعطاني ألا تجوع أمتي و ا تغلب ، وأعطاني النصر والعزة والرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً ، وطيب لي ولأمتي المغانم ، وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج .

  -وعن أبي هريرة ، عنه r : ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة .
معنى هذا عند المحققين بقاء معجزته ما بقيت الدنيا ، وسائر معجزات الأنبياء ذهبت للحين ، و لم يشاهدها إلا الحاضر لها ، ومعجزة القرآن يقف عليها قرن بعد قرن عياناً لا خبراً إلى القيامة .
وفيه كلام يطول هذا نخبته . وقد بسطنا القول فيه ، وفيما ذكر فيه سوى هذا آخر باب المعجزات .

-وعن علي رضي الله عنه : كل نبي أعطي سبعة نجباء ، وأعطي نبيكم r أربعة عشر نجيباً ، منهم أبو بكر ، و عمر ، و ابن مسعود ، و عمار .

-وقال r : إن الله قد حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار .

وعن العرباض بن سارية : سمعت رسول الله r يقول : إني عبد الله و خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، و عدة أبي إبراهيم ، و بشارة عيسى بن مريم .

 -وعن ابن عباس ، قال : إن الله فضل محمداً r على أهل السماء ، وعلى الأنبياء صلوات الله عليهم ، قالوا : فما فضله على أهل السماء ؟ قال : إن الله تعالى قال لأهل السماء : (وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : 29 ).
و قال لمحمد
r: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ( 1 ) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ( 2 ) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ( 3 )(الفتح ) .

قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : إن الله تعالى قال : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم : 4 )
و قال لمحمد
r : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ : 28 )

-وعن خالد بن معدان أن نفراً من أصحاب رسول الله r قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك .
ـوقد روى نحوُه عن أبي ذر ، و شداد بن أوس ، و أنس بن مالك ـ فقال : نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم ـ يعني قوله : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة : 129 )، و بشرى عيسى . ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام ، واسترضعت في بني سعد بن بكر ، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا إذا جاءني رجلان عليهما ثياب بيض .
و في حديث آخر : ثلاثة رجال بطست من ذهب مملوءة ثلجاً ، و أخذاني فشقا بطني .
قال في غير هذا الحديث : من نحري إلى مراق بطني ، ثم استخرجا منه قلبي ، فشقاه ، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنفياه .
قال في حديث آخر : ثم تناول أحدهما شيئاً فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه ، فختم به قلبي ، فامتلأ إيماناً و حكمة ، ثم أعاده مكانه ، و أمرَّ الآخر يده على مفرق صدري فالتأم .
وفي رواية : إن جبريل قال : قلب وكيع ، أي سديد ، فيه عينان تبصران ، و أذنان سميعتان ، ثم قال أحدهما  لصاحبه : زنه بعشرة من أمته ، فوزنني فرجحتهم ، ثم قال : زنه بمائة من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : زنه بألف من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : دعه عنك ، فلو وزنته بأمته لوزنها .

قال في الحديث الآخر : ثم ضموني إلى صدورهم ، و قبلوا رأسي ، و ما بين عيني ، ثم قالوا : يا حبيب ، لم ترع ، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك .

-وفي بقية هذا الحديث من قولهم : ما أكرمك على الله ! إن الله معك و ملائكته .

-قال في حديث أبي ذر :  فما هو إلا أن و لياً عني ، فكأنما أرى الأمر معاينة   .

و حكى أبو محمد مكي ، وأبو الليث السمرقندي وغيرهما ـ أن آدم عند معصيته قال :   اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي  .


-و يروى : تقبل توبتي . فقال له الله :   من أين عرفت محمداً ؟ فقال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله   .

-ويروى : محمد عبدي ورسولي ، فعلمت أنه اكرم خلقك عليك ، فتاب الله عليه ، وغفر له .
وهذا عند قائله تأويل قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة : 37 ) .
-وفي رواية أخرى قال : فقال آدم ، لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب :
لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه : و عزتي و جلالي ، إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك .
قال : و كان آدم يكنى بأبي محمد ، وقيل بأبي البشر .

وروي عن سريج بن يونس أنه قال : إن لله ملائكة سياحين عبادتها كل دار فيها أحمد ، أو محمد ، إكراماً منهم لمحمد r .

وروى ابن قانع القاضي ، عن أبي الحمراء قال : قال رسول الله r : لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أيدته بعلي .
-وفي التفسير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما كَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) (الكهف : 82 ) ـ في قوله تعالى : (
وكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا  ) (الكهف : 82 )) ـ . قال : لوح من ذهب فيه مكتوب : عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ! عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك ! عجباً لمن رأى الدنيا و تقبلها بأهلها كيف يطمئن إليها ! أنا الله ، لا إله إلا أنا ، محمد عبدي و رسولي .

-وعن ابن عباس  رضي الله عنهما قال : على باب الجنة مكتوب : إني أنا الله ، لا إله إلا أنا ، محمد رسول الله ، لا أعذب من قالها .

-وذكر أنه وجد على الحجارة القديمة مكتوب : محمد تقي مصلح ، و سيد أمين .

-وذكر السمنطاري أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولوداً ولد على أحد جنبيه مكتوب : لا إله إلا الله ، و على الآخر : محمد رسول الله .

-وذكر الإخباريون أن ببلاد الهند ورداً أحمر مكتوباً عليه بالأبيض : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .

 -وروي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا ليقم من اسمه محمد ، فليدخل الجنة لكرامة اسمه r.

 -وروى أبن القاسم في سماعه ، وابن وهب في جامعه ، عن مالك : سمعت أهل مكة يقولون : ما من بيت فيه اسم محمد إلا قد وقوا .

-وعنه r : ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد و محمدان و ثلاثة .
-وعن عبد الله بن مسعود : إن الله نظر إلى قلوب العباد ، و اختار منها قلب محمد
r ، فاصطفاه لنفسه ، فبعثه برسالته .

-وحكى النقاش أن النبي r لما نزلت (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً) (الأحزاب : 53 ) ـ قام خطيباً ، فقال: يا معشر أهل الإيمان ، إن الله تعالى فضلني عليكم تفضيلا ، وفضل نسائي على نسائكم تفضيلا ... الحديث .

الفصل الثاني
في تفضيله
r    بما تضمنته كرامة الإسراء من المناجاة والرؤية

ومن خصائصه ـ r  قصة الإسراء وما انطوت عليه من درجات الرفعة مما نبَّه عليه الكتاب العزيز     وشرحته صحاح الأخبار ، قال الله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء : 1 )

-وقال تعالى:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) ( سورة النجم  1-18)
فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به
r ، إذ هو نص القرآن ، وجاءت بتفصيله ، وشرح عجائبه ،وخواص نبينا محمد r فيه أحاديث كثيرة منتشرة ـ رأينا أن نقدم أكملها ،ونشير إلى زيادة    من غيره يجب ذكرها :

-حدثنا القاضي الشهيد أبو علي ، والفقيه أبو بحربسماعي عليهما ، والقاضي أبو عبد الله التميمي ،      وغير واحد من شيوخنا ، قالوا : حدثنا أبو العباس العذري ، حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال : أتيت بالبُراق ، وهو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ، ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ـ قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة .

-ثم عرج بنا إلى السماء ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال جبريل . قيل : و من معك ؟ قال :       محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بآدم صلى الله عليه و سلم  ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .

-ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ،فاستفتح جبريل ، فقيل :من أنت : قال :جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة : عيسى ابن مريم ، و يحيى بن زكريا صلى الله عليهما ، فرحبا بي ، ودعوا لي بخير .

-ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فذكر مثل الأول ، ففتح لنا ،فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه و سلم وإذا هو قد أعطى شطر الحسن ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .

-ثم عرج إلى السماء الرابعة ، و ذكر مثله ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ودعا لي بخير ، قال الله تعالى : (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً) (مريم : 57 )

-ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله ، فإذا أنا بهارون ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .

-ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فذكر مثله ، فإذا أنا بموسى ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .

-ثم عرج بنا إلىالسماء السابعة ،فذكر مثله ،فإذا أنا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه .

-ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، و إذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله غشي تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم و ليلة ، فنزلت إلىموسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فإني قد بلوت بني إسائيل و خبرتهم .
قال : فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي . فحط عني خمساً ، فرجعت إلى موسى ، فقلت : حط عني خمساً ، قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي تعال و بين موسى حتى قال : يا محمد ، إنهن خمس صلوات كل يوم و ليلة لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، و من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً و من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة .
قال : فنزلت حتى إنتهيت إلى موسى ، فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف .
قال رسول الله
r : فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه .

قال القاضي وفَّقه الله : جود ثابت رضي الله عنه هذا الحديث عن أنس ما شاء ، و لم يأت أحد عنه بأصوب من هذا .

-وقد خلط فيه غيره عن أنس تخليطاً كثيراً ، لا سيما من رواية شريك بن أبي نمر ، فقد ذكر في أوله مجيء الملك له ، و شق بطنه ، و غسله بماء زمزم ، و هذا إنما كان وهو صبي ، وقبل الوحي .
-وقد قال شريك في حديثه : وذلك قبل أن يوحي إليه ، وذكر قصة الإسراء . ولا خلاف أنها كانت بعد الوحي .

-وقد قال غير واحد : إنها كانت قبل الهجرة بسنة ، وقيل : قبل هذا .
-وقد روى ثابت عن أنس ، من رواية حماد بن سلمة أيضاً مجيءَ جبريل إلى النبي
r  وهو يلعب مع الغلمان عند ظِئره ، وشقَّه قلبَه ـ تلك القصة مفردة من حديث الإسراء كما رواه الناس ، فجود في القصتين ، وفي أن الإسراء إلى بيت المقدس وإلى سدرة المنتهى كان قصة واحدة ، وأنه وصل إلى بيت المقدس ، ثم عرج به من هناك ، فأزاح كل أشكال أوهمه غيره .

-وقد روى يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله r قال : فُرج سقْف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ، ففَرَج صدري ، ثم غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً ، فأفرغها في صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بنا إلى السماء . . . فذكر القصة .

-وروى قتادة الحديث ، بمثله ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، و فيه  تقديم
وتأخير ونقص ، وخلاف في ترتيب الأنبياء في السموات .

-وحديث ثابت ، عن أنس أتقن و أجود .

-وقد وقعت في حديث الإسراء ، زيادات نذكر منها نكتاً مفيدة في عرضنا :
منها حديث ابن شهاب ، وفيه : قول كل نبي له : مرحبا بالنبي الصالح ، و الأخ الصالح ،
إلا آدم و إبراهيم فقالا له : والابن الصالح .
وفيه ـ من طريق ابن عباس : ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام .

-وعن أنس : ثم انطلق بي حتى أتيت سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي . قال : ثم أدخلت الجنة .

-وفي حديث مالك بن صعصعة : فلما جاوزته ـ يعني موسى ـ بكى ، فنودي : ما يبكيك ؟ قال : رب ، هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي .

-وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه : وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فحانت الصلاة ، فأممتهم ، فقال قائل : يا محمد ، هذا مالك خازن النار ، فسلم عليه . فالتفت فبدأني بالسلام .

-وفي حديث أبي هريرة : ثم سار حتى أتى إلى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى صخرة ، فصلى مع الملائكة ، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل ، من هذا معك ؟ قال : هذا محمد رسول الله خاتم النبين : قالوا : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ و خليفة ، فنعم الأخ و نعم الخليفة ! ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم ، و ذكر كلام كل واحد منهم ، وهم إبراهيم ، وموسى وعيسى ، وداود ،    وسليمان .

-ثم ذكر كلام النبي r ، فقال : و إن محمداً r أثنى على ربه عز وجل فقال : كلكم أثنى على ربه ،  و أنا أثنى على ربي . الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيراً ونذيراً ، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء . وجعل أمتي خير أمة ، وجعل أمتي أمة وسطاً ، وجعل أمتي هم الأولون ،    وهم الآخرون ، وشرح لي صدري ، ووضع عني وزري ، ورفع لي ذكري ، وجعلني فاتحاً و خاتماً .
فقال إبراهيم : بهذا فضلكم محمد .

-ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا ، ومن سماء إلى سماء ، نحو ما تقدم .

-وفي حديث ابن مسعود : وانتهي بي إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها ، قال :( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) (النجم : 16 ))، قال : فراش من ذهب .

وفي رواية أبي هريرة ، من طريق الربيع بن أنس . فقيل لي : هذه السدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد من أمتك خلا على سبيلك ، وهي السدرة المنتهى ، يخرج من أصلها  (َأنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى  ) (محمد : 15 ))، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً ، و إن ورقة منها مظلة الخلق ، فغشيها نور ، و غشيتها الملائكة .
قال : فهو قوله تعالى : :( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) (النجم : 16 ))
فقال الله تبارك و تعالى له : سل . فقال : إنك اتخذت إبراهيم خليلاً وأعطيته ملكاً عظيماً . وكلمت موسى تكليماً ، وأعطيت داود ملكاً عظيماً ، و ألنت له الحديد وسخرت له الجبال وأعطيت سليمان ملكاً عظيماً ،   وسخرت له الجن و الإنس والشياطين والرياح ، وأعطيته ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل ، وجعلته يبريء الأكمه والأبرص ، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن له عليهما سبيل .
فقال له ربه تعالى : قد اتخذتك خليلاً وحبيبا . فهو مكتوب في التوراة : محمد حبيب الرحمن ، وأرسلتك إلى الناس كافة ، و جعلت أمتك هم الأولون ، وهم الآخرون ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ، وجعلتك أول النبيين خلقاً ، وآخرهم بعثاً ، وأعطيتك سبعاً من المثاني ، و لم أعطيها نبياً قبلك ، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم أعطيها نبياً قبلك  ، و جعلتك فاتحاً و خاتماً .

-وفي الرواية الأخرى قال : فأعطي رسول الله r ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المُقْحِمات .

-وقال تعالى  :( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) ( النجم 11-12 )- رأى جبريل في صورته، له ستمائة جناح .

-وفي حديث شريك أنه رأى موسى في السابعة ـ قال : بتفضيل كلام الله .
قال : ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله ، فقال موسى : لم أظن أن يرفع علي أحد .

-وقد روي عن أنس أنه r صلى بالأنبياء ببيت المقدس .

 -وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله r  : بينما أنا قاعد ذات يوم إذ دخل جبريل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها مثل وَكْري الطائر ، فقعد في واحدة وقعدت في الأخرى ، فنمت حتى سدت  الخافقين . ولو شئت لمست السماء ، وأنا أقلب طرفي ، ونظرت جبريل كأنه حلس لاطيء فعرفت فضل علمه بالله علي ، وفتح لي باب السماء ، ورأيت النور الأعظم ، ولطَّ دوني الحجاب ، وفرجه الدر         و لياقوت .ثم أوحى الله إلي ما شاء أن يوحي  .

-وذكر البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه :   لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الآذان جاء جبريل بدابة يقال لها البراق ، فذهب يركبها ، فاستصعبت عليه ، فقال لها جبريل : اسكني ، فوالله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد r ، فركبها حتى أتى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تعالى ، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب ، فقال رسول الله r : يا جبريل ، من هذا ؟
قال : و الذي بعثك بالحق ، إني لأقرب الخلق مكاناً ، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه . فقال الملك : الله أكبر . الله أكبر . فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر . أنا أكبر .
ثم قال الملك : أشهد أن لا إله إلا الله . فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا الله لا إله إلا أنا .
وذكر مثل هذا في بقية الأذان ، إلا أنه لم يذكر جواباً عن قوله : حي على الصلاة ، حي على الفلاح .
وقال : ثم أخذ الملك بيد محمد
r ، فقدمه ، فأم أهل السماء ، فيهم آدم و نوح   .
قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، راويه : أكمل الله تعالى لمحمد
r الشرف على أهل السموات والأرض.  
قال القاضي وفقه الله : ما في هذا الحديث من ذكر الحجاب فهو في حق المخلوق لا في حق الخالق ، فهم المحجوبون ، والباري جل اسمه منزه عما يحجبه ، إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس . ولكن حجبه على أبصار خلقه وبصائرهم وإدراكاتهم بما شاء وكيف شاء ، ومتى شاء ، كقوله تعالى :( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) (المطففين : 15 )   .
فقوله في هذا الحديث : الحجاب ، وإذ خرج ملك من الحجاب ـ يجب أن يقال : إنه حجاب حجب به من وراءه من ملائكته عن الإطلاع على ما دونه من سلطانه وعظمته ، وعجائب ملكوته وجبروته .
ويدل عليه من الحديث قول جبريل ـ عن الملك الذي خرج من ورائه : إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه .فدل على أن هذا الحجاب لم يختص بالذات . و دل عليه قول كعب في تفسير : سدرة المنتهى قال : إليها ينتهي علم الملائكة ، وعندها يجدون أمر الله ، لا يجاوزها علمهم .

-وأما قوله : الذي يلي الرحمن فيُحمل على حذف المضاف ، أي يلي عرش الرحمن ، أو أمراً ما من عظيم آياته ، أو مبادىء حقائق معارفه ، مما هو أعلم به ، كما قال تعالى : ((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ  ) (يوسف : 82 ))، أي أهلها .

-وقوله : فقيل من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر فظاهره أنه سمع في هذا الموطن كلام الله ،    ولكن من وراء الحجاب ، كما قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ  ) (الشورى : 51 )، أي وهو لا يراه ، حجب بصره عن رؤيته .
فإن صح القول بأن محمداً
 r رأى ربه عز وجل ـ فيحتمل أنه في غير هذا الموطن بعد هذا أو قبله ، رفع الحجاب عن بصره حتى رآه . و الله أعلم .

الفصل الثالث
هل كان الإسراء بالروح أو بالجسد ؟

ثم اختلف السلف والعلماء : هل كان إسراؤه r  بروحه أو جسده ؟ على ثلاث مقالات : فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح ، و أنه رؤيا منام ، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحْي ، وإلى هذا ذهب معاوية .
وحكى عن الحسن ، والمشهور عنه خلافه ، وإليه أشار محمد بن اسحاق ، وحجتهم قوله تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ  ) (الإسراء : 60 ). )
وما حكوا عن عائشة رضي الله عنها : ما فقدت جسد رسول الله  
r   .
وقوله : بينا أنا نائم .
وقول أنس : وهو نائم في المسجد الحرام ... وذكر القصة ، ثم قال في آخرها : فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام .
-وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة ، وهذا هو الحق ، وهو قول ابن عباس   وجابر ، وأنس ، وحذيفة ، وعمر ، وأبي هريرة ، ومالك بن صعصعة ، وأبي حبة البدري ، وابن مسعود ، والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن المسيب ، وابن شهاب ، وابن زيد ، والحسن ، وإبراهيم ، ومسروق ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن جريج ، وهو دليل قول عائشة ، وهو قول الطبري ، وابن حنبل ، وجماعة عظيمة من المسلمين . وقول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين .

-وقالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس ،وإلى السماء بالروح ،واحتجوا بقوله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) (الإسراء : 1 )   فجعل  إلى المسجد الأقصى غايةَ الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة ، والتمدح بتشريف النبي محمد r  به   وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه . قال هؤلاء : ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره ، فيكون أبلغ في المدح .

ثم اختلفت هذه الفرقتان : هل صلى ببيت المقدس أم لا ؟

-ففي حديث أنس وغيره ما تقدم من صلاته فيه . وأنكر ذلك حذيفة بن اليمان ، وقال : والله ما زال عن ظهر البراق حتى رجع .

قال القاضي والحق من هذا والصحيح إن شاء الله ـ إنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها ، وعليه تدل الآية ، وصحيح الأخبار ، والإعتبار ، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الإستحالة ،   وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة ، إذ لو كان مناماً لقال : بروح عبده ، ولم يقل : بعبده    وقوله تعالى : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم : 17 ) ، ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة ،    ولما استبعده الكفار ، ولا كذبوه فيه ، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم ، وافتتنوا به ، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر ، بل لم يكن منهم ذلك إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته ، إلى ما ذكر في الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس ـ أو في السماء على ما روي غيره وذكر مجيء جبريل له بالبراق وخبر المعراج ، واستفتاح السماء ، فيقال : من معك ؟ فيقول : محمد ، ولقائه الأنبياء فيها ، وخبرهم معه ، وترحيبهم به ، وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع موسى في ذلك   
وفي بعض هذه الأخبار : فأخذ ـ يعني جبريل ـ بيدي فعرج بي إلى السماء ... إلى قوله : ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام وأنه وصل إلى سدرة المنتهى ، وأنه دخل الجنة ، ورأى فيها ما ذكره .

-قال ابن عباس : هي رؤيا عين رآها النبي r لا رؤيا منام .
وعن الحسن فيه : بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه، فقمت فجلست فلم أر شيئاً ، فعدت لمضجعي ـ ذكر ذلك ثلاثاً ، فقال في الثالثة : فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد فإذا بدابة .
وذكر خبر البراق .

-وعن أم هانىء : ما أسري برسول الله r إلا وهو في بيتي ، تلك الليلة صلى العشاء الآخرة ، ونام بيننا ، فلما كان قُبَيْل الفجر أهبَّنا رسول الله r ، فلما صلى الصبح وصلينا قال : يا أم هانىء ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون . وهذا بين في أنه بجسمه .

-وعن أبي بكر من رواية شداد بن أوس عنه ـ قال للنبي r ليلة أسرى به :
طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك . فأجابه : إن جبريل عليه السلام حملني إلى المسجد الأقصى .

-وعن عمر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله r : صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ، ثم دخلت الصخرة فإذا بملك قائم معه آنية ثلاث .. و ذكر الحديث .
وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة ، فتحمل على ظاهرها .   

-وعن أبي ذر ، عنه r  : فُرِج سقْف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ، فشرح صدري ، ثم غسله بماء زمزم ... إلى آخر القصة ، ثم أخذ بيدي ، فعرج بي .

-وعن أنس : أتيت فانطلق بي إلى زمزم ، فشرح عن صدري .

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه عنه r  : لقد رأيتني في الحجر ، و قريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه .

و نحوه عن جابر .

-وقد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه  r  أنه قال : ثم رجعت إلىخديجة  و ما تحولت عن جانبها .

الفصل الرابع
إبطال حجج من قال إنها نوم

احتجوا بقوله تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ  ) (الإسراء : 60 ) ، فسماها رؤيا ؟
-قلنا : قوله سبحانه و تعالى : (  الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ  ) (الإسراء : 1 ))ـ يرده ، لأنه لا يقال في النوم : أسرى .

-وقوله :( فِتْنَةً لِّلنَّاسِ   ). يؤيد أنها رؤيا عين ، وإسراء بشخص ، إذ ليس في الحلم فتنة . ولا يكذب به أحد ، لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة   .
على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية ، فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قضية الحديبية ، وما وقع في نفوس الناس من ذلك . وقيل غير هذا .

-وأما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناماً .

-وقوله في حديث آخر : بين النائم واليقظان .

-وقوله أيضاً : وهو نائم . وقوله : ثم استيقظت ـ فلا حجة فيه ، إذ قد يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان و هو نائم ، أو أول حمله والإسراء به وهو نائم ، وليس في الحديث أنه كان نائماً في القصة كلها إلا ما يدل عليه : ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام ، فلعل قوله : استيقظت بمعنى أصبحت ، أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته . ويدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليله ، وإنما كان في بعضه .
وقد يكون قوله : استيقظت وأنا في المسجد الحرام لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السموات والأرض ، وخامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى ، وما رأى من آيات ربه الكبرى ، فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام .

 
-ووجه ثالث أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، ولكنه أسرى بجسده وقلبه حاضر ،   ورؤيا الأنبياء حق ، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم .

-وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميص عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله تعالى . ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات .

-ووجه رابع ، وهو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الإضطجاع ، ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد ، عن همام   بينا أنا نائم ـ و ربما قال : مضطجع .

-وفي رواية هدبة ، عنه : بينا أنا نائم في الحطيم ـ و ربما قال : في الحجر ـ مضطجع

 -قوله في الرواية الأخرى : بين النائم و اليقظان . فيكون سمى هيئة النائم غالباً .

-وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات : من النوم ، و ذكر شق البطن ، ودنو الرب عز و جل الواقعة في هذا الحديث إنما هي من رواية شريك عن أنس ، فهي منكرة من روايته ، إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره  rوقبل النبوة ، ولأنه قال في الحديث : قبل أن يبعث ، والإسراء بإجماع كان بعد المبعث ، فهذا كله يوهن ما وقع في رواية أنس ، مع أن أنساً قد بين من غير طريق أنه إنما رواه عن غيره ، وأنه لم يسمعه من النبي r ، فقال ـ مرة : عن مالك بن صعصعة ، وفي كتاب مسلم : لعله عن مالك بن صعصعه ـ على الشك .وقال مرة : كان أبو ذر يحدث .

-وأما قول عائشة : ما فقدت جسده ، فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة ، لأنها لم تكن حينئذ زوجه ، ولا في سن من يضبط ، ولعلها لم تكن ولدت بعد ، على الخلاف في الإسراء متى كان ، فإن الإسراء كان في أول الإسلام على قول الزهري ومن وافقه بعد المبعث بعام و نصف ، وكانت عائشة في الهجرة بنت نحو ثمانية أعوام .

-وقد قيل : كان الإسراء لخمس قبل الهجرة . وقيل : قبل الهجرة بعام . والأشبه إنه لخمس .
والحجة لذلك تقول ،   وليست من غرضنا ، فإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل أنها حدثت بذلك عن غيرها ، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها ، وغيرها يقول خلافه مما وقع نصاً في حديث أم هانىء وغيره .
وأيضاً فليس حديث عائشة رضي الله عنها بالثابت ، والأحاديث الأخر أثبت ، ولسنا نعني حديث أم هانىء   وما ذكرت فيه خديجة .

وأيضاً فقد رويى في حديث عائشة :  مافقدت  ، و لم يدخل بها النبي r إلا بالمدينة .
وكل هذا يُوَهِّنه ، بل الذي يدل عليه صحيح قولها : إنه بجسده ، لإنكارها أن تكون رؤياه لربه رؤيا عين ، و لو كانت عندها مناماً لم تنكره .

-فإن قيل : فقد قال تعالى : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (النجم : 11 )ـ فقد جعل ما رآه للقلب ، وهنا يدل على أنه رؤيا نوم ووحي ، لا مشاهدة عين وحس .

قلنا : يقابله قوله تعالى :(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم : 17 )ـ فقد أضاف الأمر للبصر .

 -وقد قال أهل التفسير في قوله تعالى . (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (النجم : 11 )، أي لم يوهم القلب العين غير الحقيقة ، بل صدق رؤيتها .وقيل : ما أنكر قلبه ما رأته عينه .

الفصل الخامس
رؤيته  
 rلربه عز و جل و اختلاف السلف فيها

و أما رؤيته  r  لربه جل وعز   فاختلف السلف فيها ، فأنكرته عائشة .
-حدثنا أبو الحسن سراج بن عبد الملك الحافظ بقراءتي عليه ، قال حدثني أبي وأبو عبد الله بن عتاب الفقيه ، قالا : حدثنا القاضي يونس بن مغيث ، حدثنا أبو الفضل الصلقي ، حدثنا ثابت بن قاسم بن ثابت ، عن أبيه وجده ، قالا : حدثنا عبد الله بن علي ، قال : حدثنا محمود بن آدم ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر عن مسروق ـ أنه قال لعائشة رضي الله عنها ـ يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد
r  ربه ؟ فقالت : لقد قَفَّ شعري مما قلت . ثلاث من حدثك بهن فقد كذب : من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام : 103 )، و ذكر الحديث .

-وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها ، وهو المشهور عن ابن مسعود .
ومثله عن أبي هريرة أنه  : إنما رأى جبريل . واختلف عنه .

-وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة منالمحدثين ، والفقهاء والمتكلمين .

-وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بعينه . وروى عطاء عنه ـ أنه رآه بقلبه .

-وعن أبي العالية ، عنه : رآه بفؤاده مرتين .  

-وذكر ابن إسحاق أن عمر أرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله : هل رأى محمد r  ربه ؟ فقال : نعم .
والأشهر عنه انه رأى ربه بعينه ، روي ذلك عنه من طرق ، و قال : إن الله تعالى اختص موس بالكلام ، وإبراهيم بالخلة ،ومحمداً بالرؤية وحجته قوله تعالى : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *)( سورة النجم   11 - 13 ) .
-قال الماوردي : قيل : إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ، و محمد
r، فرآه محمدr  مرتين ، وكلمه موسى مرتين .
-وحكى أبو الفتح الرازي ، وأبو الليث السمرقدي الحكاية عن كعب .
وروى عبد الله بن الحارث ، قال : اجتمع ابن عباس وكعب ، فقال ابن عباس : أما نحن بنو هاشم فنقول : إن محمداً قد رأى ربه مرتين ، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال ، وقال : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد و موسى ، فكلمه موسى ، ورآه محمد
r   بقلبه .

-وروى شريك  عن أبي ذر رضي الله عنه في تفسير الآية ، قال : رأى النبي r ربه .

-وحكى السمرقندي ، عن محمد بن كعب القرظي ، وربيع بن أنس ـ أن النبي r سئل : هل رأيت ربك ؟ قال : رأيته بفؤادي ، ولم أره بعيني .

-وروى مالك بن يخامر ، عن معاذ ، عن النبي r، قال : رأيت ربي ... و ذكر كلمة ، فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث .

-وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف با الله لقد رأى محمد r  ربه .

-وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة .

-وحكى بعض المتكليمين هذا المذهب عن ابن مسعود .

-وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة . هل رأى محمد r  ربه ؟ فقال : نعم .
-وحكى النقاش ، عن أحمد بن حنبل : أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه ـ حتى انقطع نفسه ـ يعني نفس أحمد .
-وقال أبو عمر : قال أحمد بن حنبل : رآه بقلبه ، و جبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار .

-وقال سعيدبن جبير : لا أقول رآه ، و لا لم يره .

-وقد اختلف في تأويل الآية عن ابن عباس ، وعكرمه ، والحسن ، وابن مسعود ، فحكى عن ابن عباس  وعكرمة : رآه بقلبه . وعن الحسن وابن مسعود : رأى جبريل . وحكى عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، أنه قال : رآه .

-وعن ابن عطاء في قوله تعالى:( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح : 1 ) ـ قال : شرح صدره للرؤية      وشرح صدر موسى للكلام .

-وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه وجماعة من أصحاب أنه رأى الله تعالى ببصره وعيني رأسه ، ، وقال : كل آية أوتيها نبي من الأنبياء عليهم السلام فقد أتي مثلها نبينا ، وخص من بينهم بتفضيل الرؤية .

ووقف بعض مشايخنا في هذا ، وقال : ليس عليه دليل واضح ، ولكنه جائز أن يكون .

-قال القاضي أبو الفضل : والحق الذي لا إمتراء فيه ـ أن رؤيته تعالى في الدنيا جائزة  عقلاً ، و ليس في العقل ما يحيلها .

-والدليل على جوازها في الدنيا سؤال موسى عليه السلام لها . ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله   وما لا يجوز عليه ، بل لم يسأل إلا جائزاً غير مستحيل ، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذي لا يعلمه إلا من علمه الله ، فقال له الله تعالى :( لَن تَرَانِي) (الأعراف : 143 )، أي لن تطيق ، و لا تحتمل رؤيتي ، ثم ضرب له مثلاً مما هو أقوى من بنية موسى وأثبت ، و هو الجبل ، قال: (وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف : 143 )

وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته في الدنيا ، بل فيه جوازها على الجملة ، وليس في الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها ، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة .
ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى : (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ  ) (الأنعام : 103 ) ، لاختلاف التأويلات في الآية ، وإذ ليس يقتضي قول من قال في الدنيا الإستحالة .
وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية وعدم استحالتها على الجملة .
وقد قيل : لا تدركه أبصار الكفار . و قيل : لا تدركه الأبصار : لا تحيط به ، و هو قول ابن عباس . وقد قيل : لا تدركه الأبصار ، وإنما يدركه المبصرون .
وكل هذه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية ولا استحالتها . وكذلك لا حجة لهم بقوله تعالى :( لَن تَرَانِي)
(الأعراف : 143 ). وقوله :( تُبْتُ إِلَيْكَ) ـ لما قدمناه ولأنها ليست على العموم ، ولأن من قال : معناها : لن تراني في الدنيا ـ إنما هو تأويل .

وأيضاً فليس فيه نص الإمتناع ، وإنما جاءت في حق موس ، وحيث تتطرق التأويلات وتتسلط الإحتمالات   فليس للقطع إليه سبيل .

-وقوله :( تُبْتُ إِلَيْكَ) ، أي من سؤالي ما لم تُقَدِّره لي .

 وقد قال أبو بكر الهذلي ـ في قوله :( تُبْتُ إِلَيْكَ) أي ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا ، وأنه من نظر إلي مات .

-وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين ما معناه : إن رؤيته تعالى في الدنيا ممتعة ، لضعف تركيب أهل الدنيا ، وقواهم ، وكونها متغيرة غرضاً للأفات والفناء ، فلم تكن لهم قوة على الرؤية ، فإذا كان في الأخرة ورُكِّبوا تركيباً آخر ، ورزقوا قوى ثابتة باقية ، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم قووا بها على الرؤية  
وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس رحمه الله ، قال : لم ير في الدنيا ، لأنه باق ، ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الأخرة ورزقوا أبصاراً باقية رئى الباقي بالباقي .
وهذا كلام حسن مليح ، وليس فيه دليل على الإستحالة إلا من حيث ضعف القدرة ، فإذا قوَّى اللهُ تعالى من شاء من عباده ، وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع في حقه .
وقد تقدم ما ذكر في قوة بصر موسى و محمد عليهما الصلاة و السلام ، ونفوذ إدراكها بقوة إلهية مُنِحاها لإدراك ما أدركاه ، ورؤية ما رأياه . و الله أعلم .

-وقد ذكر القاضي أبو بكر ـ في أثناء أجوبته عن الآيتين ـ ما معناه : إن موسى عليه السلام رأى الله ، فلذلك خر صعقاً ، و إن الجبل رأى ربه فصار دكاً بإدراك خلقه الله له واستنبط ذلك ، و الله أعلم ، من قوله : (وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي  ) (الأعراف : 143 ) ثم قال :( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً  ) (الأعراف : 143 ) وتجليه للجبل هو ظهوره له حتى رآه ـ على هذا القول .

-وقال جعفر بن محمد : شغله بالجبل حتى تجلى ، ولولا ذلك لمات صعقاً بلا إفاقة .

-وقوله هذا يدل على أن موسى رآه . وقد و قع لبعض المفسرين ـ في الجبل ـ أنه رآه ، وبرؤية الجبل له استدل من قال برؤية محمد نبينا r  له ، إذ جعله دليلاً على الجواز .
ولا مرية في الجواز ، إذ ليس في الآيات نص بالمنع .

وأما وجوبه لنبينا r، والقول بأنه رآه بعينه ـ فليس فيه قاطع أيضاً ولا نص ، إذ المعول فيه على آيتي [ النجم ] ، و التنازع فيهما مأثور ، والإحتمال لهما ممكن ، ولا أثر قاطع متواتر عن النبي r بذلك .

-وحديث ابن عباس خبر عن اعتقاده لم يسنده إلى النبي r ، فيجب العمل باعتفاد مضمنه .

-ومثله حديث أبي ذر في تفسير الآية .

-وحديث معاذ محتمل للتأويل ، و هو مضطرب الإسناد و المتن .

-وحديث أبي ذر مختلف محتمل مشكل . فروي :  نور أنَّي أراه  .

وكى بعض شيوخنا أنه روي: نَوْرانِي أراه   .

-وفي حديثه الآخر : سألته ، فقال :   رأيت نوراً  ، و ليس يمكن الاحتجاج بواحد منها على صحة الرؤية   فإن كان الصحيح رأيت نوراً فهو قد أخبر أنه لم ير الله ، وإنما رأى نوراً منعه وحجبه عن رؤية الله .
وإلى هذا يرجع قوله : = نور أنى أراه = أي كيف أراه مع حجاب النور المغشي للبصر ، و هذا مثل   ] ما في الحديث الآخر : حجابه النور .

-وفي الحديث الآخر : لم أره بعيني ، و لكن رأيته بقلبي مرتين ، وتلا :( ثم دنا فتدلى) واللهُ قادر على خلق الإدراك الذي في البصر في القلب ، أو كيف شاء ، لا إله غيره .

فإن ورد حديث نص بين في الباب اعتقد ووجب المصير إليه ، إذ لا استحالة فيه ، ولا مانع قطعي يرده ، واللهُ الموفق .

الفصل السادس
فيما ورد في قصة الإسراء من مناجاته
r   ربه

وأما ما ورد في هذه القصة من مناجاته لله تعالى وكلامه معه بقوله تعالى: ((فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (النجم : 10 )ـ إلى ما تضمنته الأحاديث ـ فأكثر المفسرين على أن المُوحِي الله عز وجل إلى جبريل ،  وجبريل إلى محمد r إلا شذوذاً منهم ، فذكر عن جعفر بن محمد الصادق ، قال : أوحى إليه بلا واسطة -ونحوه عن الواسطي ، وإلى هذا ذهب بعض المتكلمين ـ أن محمداًr   كلم ربه في الإسراء .

-وحكي عن الأشعري ، وحكي عن ابن مسعود و ابن عباس ، وأنكره آخرون .

-وذكر النقاش ، عن ابن عباس ـ في قصة الإسراء ، عنه r في قوله تعالى : (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) (النجم : 8 ) ـ قال : فارقني جبريل ، وانقطعت الأصوات عني ، فسمعت كلام ربي وهو  يقول  : ليهدأ روعك يا محمد ، ادنُ ، ادنُ .
وفي حديث أنس في الإسراء نحو منه .
وقد احتجوا في هذا بقوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى : 51 )، فقالوا : هي ثلاثة أقسام : من وراء حجاب كتكليم موسى ، وبإرسال الملائكة كحال جميع الأنبياء وأكثر أحوال نبينا
r . الثالث : قوله : (وَحْياً )، و لم يبق من تقسيم الكلام إلا المشافهة مع المشاهدة .
وقد قيل : الوحي هنا : هو ما يلقيه في قلب النبي دون واسطة .
وقد ذكر أبو بكر البزار ، عن علي في حديث الإسراء ما هو أوضح في سماع النبي
r لكلام الله من الآية : فذكر فيه : فقال الملك : الله أكبر . الله أكبر ـ فقيل لي من وراء الحجاب : صدق عبدي،أنا أكبر ، أنا أكبر . و قال في سائر كلمات الآذان مثل ذلك .
ويجيء الكلام في مشكل هذين الحديثين في الفصل بعد هذا مع ما يشبهه . وفي أول فصل من الباب منه .
وكلام الله تعالى لمحمد
r ومن اختصه من أنبيائه ، جائز غير ممتنع عقلاً ، ولا ورد في الشرع قاطع يمنعه ، فإن صح في ذلك خبر احتمل عليه ، وكلامه تعالى لموسى كائن حق مقطوع به ، نص ذلك في الكتاب ، وأكده بالمصدر دلالة على الحقيقة ، ورفع مكانه على ما ورد في الحديث : في السماء السابعة بسبب كلامه . ورفع محمداً فوق هذا كله حتى بلغ مستوى ، وسمع صريف الأقلام ، فكيف يستحيل في حق هذا أو يبعد سماع الكلام ، فسبحان من خص من شاء بما شاء ، وجعل بعضهم فوق بعض درجات ! .

الفصل السابع
فيما ورد في الحديث الإسراء من الدنو والقرب

وأما ما ورد في حديث الإسراء وظاهرالآية : من الدنو والقرب من قوله :( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *) (النجم8+9) وأكثر المفسرين أن الدنو والتدلي منقسم ما بين محمدr   وجبريل عليه السلام ، أو مختص بأحدهما من الآخر ، أو من السدرة المنتهى.
-قال الرازي : وقال ابن عباس : هو محمد
r دنا فتدلى من ربه .
-وقيل : معنى ( دَنَا )قرب ، و (تَدَلَّى) زاد في القرب . وقيل : هما بمعنى واحد ، أي قرب .
-وحكى مكي ، والماوردي - عن ابن عباس : هو الرب دنا محمد
r  ، فتدلى إليه ، أي أمره وحكمه .
-وحكى النقاش عن الحسن ، قال : دنا من عبده محمد
r ، فتدلى ، فقرب منه ، فأراه ما شاء أن يريه من قدرته وعظمته .
قال : وقال ابن عباس : هو مقدم ومؤخر : تدلى الرفرف لمحمد
r ليلة المعراج ، فجلس عليه ، ثم رفع فدنا من ربه .
قال : فارقني جبريل ، وانقطعت عني الأصوات ، وسمعت كلام ربي عز وجل .
-وعن أنس في الصحيح : عرج بي جبريل إلى سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة ، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه بما شاء وأوحى إليه خمسين صلاة . . . وذكر حديث الإسراء .
-وعن محمد بن كعب : هو محمد
r  دنا من ربه ، فكان كقاب قوسين .
-قال : و قال جعفر بن محمد : أدناه ربه منه حتى كان منه كقاب قوسين .
-وقال جعفر بن محمد : والدنو من الله لا حد له ، ومن العباد بالحدود .
-وقال أيضاً : انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى كيف حجب جبريل عن دنوه ، ودنا محمد
r  إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان ، فتدلى بسكون قلبه إلى ما أدناه ، وزال عن قلبه الشك والإرتياب .

-قال القاضي أبو الفضل - : اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب هنا من الله ، أو إلى الله - فليس بدنو مكان ، ولا قرب مدى ، بل كما ذكرناه - عن جعفر الصادق : ليس بدنو حد ، وإنما دنو النبي r  من ربه وقربه منه إبانة عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ، وإشراق أنوار معرفته ، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته ، ومن الله تعالى له مبرة وتأنيس ، وبسط ، وإكرام ، و يتأول فيه ما يتأول في قوله : =ينزل ربنا إلى السماء الدنيا = على أحد الوجوه : نزول إفضال وإجمال ، وقبول وإحسان .
قال الواسطي : من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثم مسافة ، بل كلما دنا بنفسه من الحق تدلى بعداً يعني عن درك حقيقته ، إذ لا دنو للحق ولا بعد .

-وقوله : (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) (النجم 9)  فمن جعل الضمير عائداً إلى الله ، لا إلى جبريل على هذا كان عبارة عن نهاية القرب ، ولطف المحل ، وإيضاح المعرفة ، والإشراف على الحقيقة عن محمد r ، وعبارةً عن إجابة الرغبة ، وقضاء المطالب ، وإظهار التحفي ، وإنافة المنزل والمرتبة من الله له  
ويتأول فيه ما يتأول في قوله : من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً ، قرب بالأجابة والقبول ، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول .

 

                                              الفصل الثامن
                               في ذكر تفضيله يوم القيامة بخصوص الكرامة

-حدثنا   القاضي أبو علي ، حدثنا أبو الفضل ، وأبو الحسين ، قالا : حدثنا أبو يعلى السنجي ، حدثنا ابن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا الحسين بن يزيد الكوفي ، حدثنا عبدالسلام بن حرب ، عن ليث ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله r : أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر .
-وفي رواية ابن زخْر ، عن الربيع بن أنس - في لفظ هذا الحديث : أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا قائدهم إذا وفدوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا أبلسوا ، لواء الكرم بيدي ، و أنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر ويطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون .

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله r :   : وأُكسى حلةً من حلل الجنة ، ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري .
وعن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله
r : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما نبي يومئذ ، آدم فمن سواه ، إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر .
وعن أبي هريرة ، عنه   
r قال : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع  وأول مشفع .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله
r   : أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع ، وأنا أول مشفع ،ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة ، فيفتح لي فأدخلها و معي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والأخرين ولا فخر .

  -وعن أنس قال : قال رسول الله r    : أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الناس تبعاً .

-وعن أنس رضي الله عنه قال ، قال النبي r : أنا سيد الناس يوم القيامة ، وتدرون بم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والأخرين ـ و ذكر حديث الشفاعة .

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أنه r قال : أطمع أكون أعظم الأنبياء أجراً يوم القيامة .
-وفي حديث آخر : أما ترضون أن يكون إبراهيم و عيسى فيكم يوم القيامة ثم قال إنهما في أمتي يوم القيامة ، أما إبراهيم فيقول : أنت دعوتي و ذريتي ، فاجعلني من أمتك . وأما عيسى فالأنبياء إخوة بنو علات ، أمهاتهم شتى ، وإن عيسى أخي ليس بيني و بينه نبي ، وأنا أولى الناس به .

-قوله : أنا سيد الناس يوم القيامة : هو سيدهم في الدنيا ، ويوم القيامة . ولكن أشار r  لإنفراده فيه بالسؤدد والشفاعة دون غيره ، إذ لجأ الناس إليه في ذلك ، فلم يجدوا سواه .
والسيد : هو الذي يلجأ الناس إليه في حوائجهم ، فكان حينئذ سيداً منفرداً من بين البشر ، لم يزاحمه أحد في ذلك ، ولا ادعاه ، كما قال تعالى:( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (غافر : 16 ) و الملك له تعالى في الدنيا والآخرة ، لكن في الآخرة انقطعت دعوى المدعي لذلك في الدنيا .

وكذلك لجأ إلى محمد r جميع الناس في الشفاعة ، فكان سيدهم في الأخرى دون دعوى .

-وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللهr    : آتي باب الجنة يوم القيامة ، فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد . فيقول : بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك .

-وعن عبد الله بن عمرو : قال : قال رسول الله r : حوضي مسيرة شهر ، و زواياه سواء   ، وماؤه أبيض من الورق ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من شرب منه لم يظمأ أبداً .

-وعن أبي ذر نحوه ، و قال : = طوله ما بين عمان إلى أيلة ، يشخب فيه ميزابان من الجنة = .

-وعن ثوبان مثله ، و قال : أحدهما من ذهب ، والآخر من ورق .

-وفي رواية حارثة بن وهب : كما بين المدينة و صنعاء .

وقال أنس : أيلة وصنعاء .

-وقال ابن عمر : كما بين الكوفة و الحجر الأسود .


وروى حديث الحوض أيضاً أنس ، وجابر ، وسمرة ، وابن عمر ، وعقبة بن عامر ، وحارثة بن وهب الخزاعي ، والمستورد ، وأبو برزة الأسلمي ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو أمامة ، وزيد بن أرقم ، وابن مسعود ، وعبد الله بن زيد ، وسهل بن سعد ، وسويد بن جبلة ، وأبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وابن بريدة ، وأبو سعيد الخدري ، وعبد الله الصنابجي ، وأبو هريرة ، والبراء ، وجندب ، وعائشة ، وأسماء بنت أبي بكر ، وأبو بكرة ، وخولة بنت قيس ، وغيرهم ....

الفصل التاسع
في تفضيله 
r   بالمحبة و الخلة

جاءت بذلك الأثار الصحيحة ، واختص على ألسنة المسلمين بحبيب الله ، أخبرنا أبو القاسم بن إبراهيم الخطيب و غيره ، عن كريمة بنت أحمد ، حدثنا أبو الهيثم ، وحدثنا حسين بن محمد الحافظ سماعاً عليه ، حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا عبد بن أحمد ، حدثنا أبو الهيثم ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد بن محمد ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا فليح ، حدثنا أبو النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن النبي r ـ أنه قال : لو كنت متخذا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر  -وفي حديث آخر و إن صاحبكم خليل الله .

-ومن طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً .

-وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : جلس ناس من أصحاب النبي r ينتظرونه ، قال : فخرج   حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ، فسمع حديثهم ، فقال بعضهم : عجباً ! إن الله اتخذ من خلقه خليلاً ، اتخذ إبراهيم خليلاً . وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى ، كلمه الله تكليماً . وقال آخر : فعيسى كلمة كلمة وروحه .وقال آخر : وآدم اصطفاه الله ... فخرج عليهم فسلم ، وقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم ، أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً ، وهو كذلك ، وموسى نجي الله وهو كذلك ، وعيسى روح الله ، وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله ، وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيُدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر .

-وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من قول الله تعالى لنبيه r : إني اتخذتك خليلاً ، فهو مكتوب في التوراة : أنت حبيب الرحمن .

-قال القاضي أبو الفضل : اختلف في تفسير الخلة ، وأصل اشتقاقها ، فقيل : الخليل : المنقطع إلى الله الذي ليس في انقطاعه إليه ومحبته له اختلال .و قيل : الخليل المختص ، واختار هذا القول غير واحد . وقال بعضهم : أصل الخلة الاستصفاء : و سمي إبراهيم خليل الله ، لأنه يوالي فيه ويعادي فيه ، وخلة الله له نصره ، و جعله إماماً لمن بعده . وقيل : الخليل : أصله الفقير المحتاج المنقطع ، مأخوذ من الخلة    وهي الحاجة ، فسمي بها إبراهيم ، لأنه قصر حاجته على ربه ، وانقطع إليه بهمه ، ولم يجعله قبل غيره  وإذا جاءه جبريل وهو في المنجنيق ، ليرمى به في النار ، فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا .
وقال أبو بكر بن فورك : الخلة : صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار .
وقال بعضهم : أصل الخلة المحبة ، ومعناها الإسعاف ، والإلطاف ، والترفيع ، والتشفيع ، وقد بين ذلك في كتابه بقوله تعالى :( (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (المائدة : 18 )فأوجب للمحبوب ألا يؤاخذ بذنوبه .

-قال : هذا ، والخلة أقوى من البنوة ، لأن البنوة قد تكون فيها العداوة ، كما قال تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التغابن : 14 ).
ولا يصح أن تكون عداوة مع خلة ، فإذاً تسمية إبراهيم ومحمد عليهما السلام بالخلة إما بانقطاعهما إلى الله ووقف حوائجهما عليه ، والانقطاع عمن دونه ، والإضراب عن الوسائط والأسباب ، أو لزيادة الإختصاص منه تعالى لهما ، وخفي ألطافه عندهما ، وما خالل بواطنهما من أسرار إلهيته ، ومكنون غيوبه ومعرفته ، أو لاستصفائه لهما ، واستصفاء قلوبهما عمن سواه ، حتى لم يخاللهما حب لغيره ،    ولهذا قال بعضهم : الخليل من لا يتسع قلبه لسواه وهو عندهم معنى قوله
r : ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ، لكن أخوة الإسلام .
واختلف العلماء و أرباب القلوب : أيهما أرفع درجة : الخلة أو درجة المحبة ؟
فجعلهما بعضهم سواء فلا يكون الحبيب إلا خليلا ، ولا الخليل إلا حبيباً لكنه خص إبراهيم بالخلة ،        ومحمداً بالمحبة .

وبعضهم قال : درجة الخلة أرفع ، واحتج بقوله r : لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي عز وجل... فلم يتخذه .وقد أطلق المحبة لفاطمة ، و ابنيها ، و أسامة و غيرهم .

-وأكثرهم جعل المحبة أرفع من الخلة ، لأن درجة الحبيب نبينا أرفع من درجة الخليل إبراهيم .
وأصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب ، و لكن هذا في حق من يصح الميل منه والإنتفاع بالوفق ،     وهي درجة المخلوق ، فأما الخالق ـ جل جلاله ـ فمنزه عن الأغراض ، فمحبته لعبده تمكينه من سعادته وعصمته وتوفيقه وتهيئة أسباب القرب ، وإفاضة رحمته عليه ، وقصواها كشف الحجب عن قلبه حتى يراه بقلبه ، وينظر إليه ببصيرته ، فيكون كما قال في الحديث : فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و لسانه الذي ينطق به .
و لا ينبغي أن يفهم من هذا سوى التجرد لله ، والإنقطاع إلى الله ، والإعراض عن غير الله ، وصفاء القلب لله ، وإخلاص الحركات لله ، كما قالت عائشة رضي الله عنه : كان خلقه القرآن ، برضاه يرضى ، و بسخطه يسخط ،

-ومن هذا عبر بعضهم عن الخلة بقوله :

قد تخللت مسلك الروح مني      و بذا سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي       و إذا ما سكت كنت الغيلا

فإذا مزية الخلة وخصوصية المحبة حاصلة لنبينا r بما دلت عليه الآثار الصحيحة المنتشرة ، المتلقاة بالقبول من الأمة ، وكفى بقوله تعالى : ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران : 31 ).

-حكى أهل التفسير أن هذه الآية لما نزلت قال الكفار : إنما يريد محمد أن نتخذه حناناً كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ، فأنزل الله ـ غيظاً لهم ورغماً على مقالتهم هذه الآية : (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ) (آل عمران : 32 )، فزاده شرفاً بأمرهم بطاعته ، وقرنها بطاعته ، ثم توعدهم على التولي عنه بقوله : (فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ. )( آل عمران : 32)

-وقد نقل الإمام أبو بكر بن فورك عن بعض المتكلمين كلاماً في الفرق بين المحبة و الخلة يطول ، جملة اشارته إلى تفضيل مقام المحبة على الخلة ، ونحن نذكر منه طرفاً يهدي إلى ما بعده .
فمن ذلك قولهم : الخليل يصل بالواسطة ، من قوله تعالى : ((وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام : 75 ) والحبيب يصل لحبيبه به ، من قوله : (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم : 9 ) وقيل : الخليل : الذي تكون مغفرته في حد الطمع ، من قوله :( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء : 82 )
والحبيب الذي مغفرته في حد اليقين ، من قوله :( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) (الفتح : 2 ) والخليل قال :( (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (الشعراء : 87 ).
والحبيب قيل له :( يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) (التحريم : 8 )، فابتدىء بالبشارة قبل السؤال .
والخليل قال في المحنة : (حَسْبِيَ اللَّهُ  ) (الزمر : 38 ))   
والحبيب قيل له :( (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ  ) (الأنفال : 64  ) .
والخليل قال : ((وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء : 84 ). و الحبيب قيل له :(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح : 4 ) )، أعطي بلا سؤال .
و الخليل قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم : 35 )
و الحبيب قيل له :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب 33) وفيما ذكرناه تنبيه على مقصد أصحاب هذا المقال من تفضيل المقامات والأحوال ...  ( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) (الإسراء : 84 )

                                                الفصل العاشر

                                       في تفضيله r بالشفاعة والمقام المحمود

-قال الله تعالى : ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء : 79 ))  

-أخبرنا الشيخ أبو علي الغساني الجياني فيما كتب إلي بخطه ، حدثنا سراج بن عبد الله القاضي ، حدثنا أبو محمد الأصيلي ، حدثنا أبو زيد ، و أبو أحمد ، قالا : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان ، اشفع لنا ، يا فلان اشفع لنا ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي r فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود .

-وعن أبي هريرة : سئل عنها رسول الله r ـ يعني قوله : (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ) ، فقال : هي الشفاعة .

-وروى كعب بن مالك ، عنه r : يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود .

-وعن ابن عمر رضي الله عنه ـ و ذكر حديث الشفاعة ـ قال : فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة ، فيومئذ يبعثه الله المقام المحمود الذي وعده .

-وعن ابن مسعود عنه r أنه قيامه عن يمين العرش مقاماً لا يقومه غيره ، يغبطه فيه الأولون        والآخرون .

ونحوه عن كعب والحسن .

-وفي رواية : هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه .
-عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله
r : إني لقائم المقام المحمود . قيل : وما هو ؟ قال : ذلك يوم ينزل الله تبارك و تعالىعلى كرسيه. . الحديث .

-وعن أبي موسى رضي الله عنه ، عنه r : خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ، لأنها أعم ، أترونها للمتقين ؟ لا ، و لكنها للمذنبين الخطائين .

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، ماذا ورد عليك في الشفاعة ؟ فقال : شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً ، يصدق لسانه قلبه .

-وعن أم حبيبة ، قالت : قال رسول الله r : أُرِيتُ ما تلقى أمّتي من بعدي ، وسفك بعضهم دماء بعض   وسبق لهم من الله ما سبق للأمم قبلهم ، فسألت الله أن يؤتيني شفاعة يوم القيامة فيهم   ففعل .

-وقال حذيفة : يجمع الله الناس ، في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، سكوتاً لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فينادى محمد فيقول : لبيك و سعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهتدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، ولك وإليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت و تعاليت ، سبحانك رب البيت ـ قال : فذلك المقام المحمود الذي ذكر الله .

-وقال ابن عباس رضي الله عنه : إذا دخل أهل النار النار ، و أهل الجنة الجنة ، فتبقى آخر زمرة من الجنة وآخر زمرة من النار ، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة : ما نفعكم إيمانكم ، فيدعون ربهم ويضجون ، فيسمعهم أهل الجنة فيسلون آدم وغيره بعده في الشفاعة لهم ، فكل يعتذر حتى يأتوا محمداً  r ، فيشفع لهم ، فذلك المقام المحمود .

-ونحوه عن ابن مسعود أيضاً ، و مجاهد .

وذكره علي بن الحسن عن النبي  r.

-وقال جابر بن عبد الله ليزيد الفقير : سمعت بمقام محمد r   ـ يعني الذي بعثه الله فيه ؟
قلت : نعم . قال : فإنه مقام محمد
r   المحمود الذي يخر ج الله به من يخرج ـ يعني من النار ـ     وذكر حديث الشفاعة في إخراج الجهنميين .

-وعن أنس نحوه ، و قال : فهذا المقام المحمود الذي وعده .

  -وعن سلمان : المقام المحمود هو الشفاعة في أمته يوم القيامة .

-ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه .

-وقال قتادة : كان أهل العلم يرون المقام المحمود هو شفاعته يوم القيامة ، وعلى أن المقامَ المحمود مقامُه  r  للشفاعة مذاهب السلف من الصحابة و التابعين وعامة أئمة المسلمين .
وبذلك جاءت الشفاعة مفسرةً في صحيح الأخبار عنه  
r : وجاءت مقالة في تفسيرها شاذةً عن بعض السلف ، يجب ألا تثبت ، إذا لم يعضدها صحيح أثر ، ولا سند نظر .
ولو صحت لكان لها تأويل غير مستنكر ، لكن ما فسره النبي  
r  في صحيح الآثار يرده ، فلا يجب أن يلتفت إليه ، مع أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ، ولا اتفق على المقال أمة ، وفي إطلاق ظاهره منكر من القول وشنعة.

وفي رواية أنس و أبو هريرة وغيرهما ، دخل حديث بعضهم في حديث بعض : قال  r : يجمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة فيهتمون ـ أو قال : فيلهمون فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا .

ومن طريق آخر ، عنه :   ماج الناس بعضهم في بعض   .

وعن أبي هريرة : وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقولون : ألا تنظرون من يشفع لكم ، فيأتون آدم فيقولون ، زاد بعضهم : أنت آدم أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، و اسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا ، ألا ترى  ما نحن فيه ؟ .
فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله ،ولا يغضب بعده مثله ،ونهاني عن الشجرة فعصيت،   نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .
فيأتون نوحاً فيقولون : أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبداً شكوراً ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما بلغنا ‍‍‍‍‍‍‍! ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، نفسي ! نفسي !
قال ـ في رواية أنس : ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم .
وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه : وقد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، اذهبوا إلى غيري . اذهبوا إلى إبراهيم ، فإنه خليل الله .
فيأتون إبراهيم ، فيقولون : أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه  
فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً . . . فذكر مثله ، ويذكر ثلاث كلمات كذبهن . نفسي ، نفسي ، لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله .
وفي رواية : فإنه عبد آتاه الله التوراة ، وكلمه وقربه نجياً .
قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته التي أصاب ، وقتله النفس ، نفسي ، نفسي ، ولكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته .
فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد
r   ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فأُؤْتَى ، فأقول : أنا لها .
فأنطلق فأستاذن على ربي ، فيؤذن لي ، فإذا رأيته وقعت ساجداً .
وفي رواية : فآتي تحت العرش ، فأخر ساجداً .
وفي رواية : فأقوم بين يديه ، فأحمد بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها الله .
وفي رواية : فيفتح الله علي من محامده ، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي .
قال ـ في رواية أبي هريرة : فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل ، تعطه ، و اشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأقول : يا رب ، أمتي ، يا رب ، أمتي . فيقول : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، و هم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب .
ولم يذكر في رواية أنس هذا الفصل ، وقال ـ مكانه : ثم أخر ساجداً ، فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، و قل يسمع لك ، و اشفع تشفع ، و سل تعطه . فأقول : يا رب ، أمتي ، أمتي . فيقال : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه ، فأنطلق فأفعل .
ثم أرجع إلى ربي ، فأحمده بتلك المحامد و ذكر مثل الأول ، و قال فيه : مثقال حبة من خردل . قال : فأفعل ، ثم أرجع ... و ذكر مثل ما تقدم ، و قال فيه : من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل ، فأفعل .
و ذكر في المرة الرابعة : فيقال لي : ارفع رأسك ، و قل يسمع ، و اشفع تشفع ، و سل تعطه .
فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال :
لا إله إلا الله . قال : ليس ذلك إليك .
و لكن و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبريائي لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا الله .
و من رواية قتادة عنه ، قال : فأقول يا رب ، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، أي وجب عليه الخلود .

-وعن أبي بكر ، وعقبة بن عامر ، وأبي سعيد ، وحذيفة مثله ، قال : فيأتون  محمداًr فيؤذن له ، وتأتي الأمانة و الرحم فتقومان جنبتي الصراط .

-وذكر في رواية أبي مالك ، عن حذيفة : فيأتون محمداً  rفيشفع ، فيضرب الصراط فيمرون : أولهم كالبرق ، ثم كالريح ، والطير ، وشد الرجال ، ونبيكم r على الصراط يقول : اللهم سلم سلم ،حتى يجتاز الناس . و ذكر آخرهم جوازاً . . . الحديث .

-وفي رواية أبي هريرة : فأكون أول من يجيز .

-وعن ابن عباس ، عنه r: يوضع للأنبياء منابر يجلسون عليها ، ويبقى منبري لا أجلس عيله قائماً ، بين يدي ربي منتصباً ، فيقول الله تبارك وتعالى : ما تريد بأمتك ؟ فأقول : يا رب ، عجل حسابهم ، فيدعى بهم ، فيحاسبون .
فمنهم من يدخل برحمته ، ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي ، ولا أزال أشفع حتى أعطى صكاكاً برجال قد أمر بهم إلى النار ، حتى إن خازن النار ليقول : يا محمد ، ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة .

-ومن طريق زياد النميري ، عن أنس ـ أن رسول الله  r  قال : أنا أول من تنفلق الأرض عن جمجمته ولا فخر ، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر ، ومعي لواء الحمد يوم القيامة ، وأنا أول من تفتح له الجنة ولا فخر ، فآتي فآخذ بحلقة الجنة ، فيقال : من هذا ؟ فأقول : محمد ، فيفتح لي ، فيستقبلني الجبار تعالى ، فأخر له ساجداً . . . و ذكر نحو ما تقدم .

-ومن رواية أنس : سمعت رسول الله  r:  يقول: لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر .

فقد اجتمع من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أن شفاعته ـ  r: ، ومقامه المحمود من أول الشفاعات إلى آخرها ، من حين يجتمع الناس للحشر ، وتضيق بهم الحناجر ، ويبلغ منهم العرق والشمس والوقوف مبلغه ، وذلك قبل الحساب ، فيشفع حينئذ لإراحة الناس من الموقف ، ثم يوضع الصراط ، ويحاسب الناس   كما جاء في الحديث عن أبي هريرة و حذيفة .

وهذا الحديث أتقن ، فيشفع في تعجيل من لا حساب عليه من أمته إلى الجنة ـ كما تقدم في الحديث ـ ثم يشفع فيمن وجب عليه العذاب ، ودخل النار منهم حسب ما تقضيه الأحاديث الصحيحة ، ثم فيمن قال : لا إله إلا الله . و ليس هذا لسواه  r: .
وفي الحديث المنتشر الصحيح : لكل نبي دعوة يدعو بها ، واختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة .
قال أهل العلم : معناه دعوة أعلم أنها تستجاب لهم ، ويبلغ فيها مرغوبهم ، وإلا فكم لكل نبي منهم من دعوة مستجابة ، ولنبينا  
r  منها ما لا يعد ، لكن حالهم عند الدعاء بها بين الرجاء والخوف ،       وضمنت لهم إجابة دعوة فيما شاءوه يدعون بها على يقين من الإجابة .
-وقد قال محمد بن زياد ، وأبو صالح ، عن أبي هريرة في هذا الحديث : لكل نبي دعوة دعا بها في أمته ، فاستجيب له ، و أنا أريد أن أدخر ، دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة .
وقي رواية أبو صالح : لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته .
ونحوه في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة  .
وعن أنس مثل رواية ابن زياد ، عن أبي هريرة .
فتكون هذه الدعوة المذكورة مخصوصةً بالأمة مضمونة الإجابة ، والإ فقد أخبر  
r  أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين والدنيا وأعطي بعضها ، ومنع بعضها ، وادخر لهم هذه الدعوة ليوم الفاقة ،        وخاتمة المحن ، وعظيم الشؤال والرغبة .
جزاه الله أحسن ما جزى نبياً عن أمته ، و صلى الله عليه و سلم كثيراً .

الفصل الحادي عشر
في تفضيله  
r   في الجنة بالوسيلة والدرجة الرفعية والكوثر والفضيلة

-حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التيمي ، والفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد ، بقراءتي عليهما  قالا : حدثنا أبو علي الغساني ، حدثنا النمري ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر التمار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن سلمة ، حدثنا ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، وحيوة ، وسعيد بن أبي أيوب ، عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ أنه سمع النبي ـ r  ـ يقول : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صل علي مرة صلى الله عليه عشراً ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو . فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة .

-وفي حديث آخر عن أبي هريرة : الوسيلة أعلىدرجة في الجنة .
-وعن أنس : قال رسول الله
r : بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ .
قلت لجبريل : ما هذا ! قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله . قال : ثم ضرب بيده إلى طينته ، فاستخرج مسكاً .
-وعن عائشة وعبد الله بن عمرو مثله ، قال :  ومجراه على الدر و الياقوت ، و ماؤه أحلى من العسل ،  و أبيض من الثلج  .

-وفي رواية ـ عنه :   فإذا هو يجري ، ولم يشق شقاً ، عليه حوض ترد عليه أمتي . . .  وذكر حديث الحوض .

-ونحوه عن ابن عباس .

-وعن ابن عباس أيضاً ، قال : الكوثر الخير الذي أعطاه الله إياه .
-وقال سعيد بن جبير : و النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله .
-وعن حذيفة ـ فيما ذكر
r عن ربه : وأعطاني الكوثر ، وهو نهر في الجنة ، يسيل في حوضي .
-وعن ابن عباس : في قوله تعالى : ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (الضحى : 5 )) ، قال : ألف قصر من لؤلؤ ترابهن المسك   وفيه ما يصلحهن .
-وفي رواية أخرى : وفيه ما ينبغي له من الأزواج و الخدم .

الفصل الثاني عشر
في بيان شبهة ترد على ما تقدم

فإن قلت : إذا تقرر من دليل القرآن ، وصحيح الأثر ، وإجماع الأمة ـ كونه أكرم البشر ، وأفضل الأنبياء ـ فما معنى الأحاديث الواردة بنهيه عن التفضيل ؟ كقوله ـ فيما حدثنا الأسدي، قال : حدثنا السمرقندي ، حدثنا الفارسي ، حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ،حدثنا مسلم ،حدثنا ابن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة : سمعت أبا العالية يقول : حدثني ابن عم نبيكم r ـ يعني ابن عباس ، عن النبي r، قال : ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى .
-وفي غير هذا الطريق عن أبي هريرة  قال ـ يعني رسول الله
r : ما ينبغي لعبد ... الحديث .
-وفي حديث أبي هريرة ـ في اليهودي الذي قال : والذي اصطفى موسى على البشر ، فلطمه رجل من الأنصار ، وقال : تقول ذلك و رسول الله
r بين أظهرنا . فبلغ ذلك النبي r ، فقال : لا تفضلوا بين الأنبياء .

-وفي رواية : لا تخبرني على موسى فذكر الحديث .

وفيه : ولا أقول : إن أحداً أفضل من يونس بن متى .

-رواية عن أبي هريرة :  من قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب  .

-رواية عن ابن مسعود :  لا يقولنَّ أحدكم أنا خير من يونس بن متى   .
-وفي حديثه الآخر : فجاءه
r رجل ، فقال له : يا خير البرية ، فقال : ذاك إبراهيم . . . .

*فاعلم أن للعلماء في هذه الأحاديث تأويلات :
أحدها : أن نهيه عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم ، فنهى عن التفضيل ، إذ يحتاج إلى توقيف ، و أن من فضل بلا علم فقد كذب .

-وكذلك قوله : لا أقول إن أحداً أفضل منه ـ لا يقتضي تفضيله هو ، وإنما هو في الظاهر كف عن التفضيل .

الوجه الثاني : أنه قاله r على طريق التواضع ، ونفى التكبر والعجب ، وهذا لا يسلم من الإعتراض .
الوجه الثالث : ألا يفضل بينهم تفضيلاً يؤدي إلى تنقص بعضهم ، أو الغض منه ، لا سيما في جهة يونس عليه السلام ، إذ أخبر الله عنه بما أخبر لئلا يقع في نفس من لا يعلم منه بذلك غضاضة وانحطاط من رتبته الرفيعة ، إذ قال تعالى عنه :(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (الصافات : 140 ) . ((وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : 87 )) ـ فربما يخيل لمن لا علم عنده حطيطته ، بذلك .
الوجه الرابع : منع التفضيل في حق النبوة والرسالة ، فإن الأنبياء فيها على حد واحد ، إذ هي شيء واحد لا يتفاضل ، وإنما التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص ، والكرامات ،                                   والرتب ، والألطاف ، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها ، ولذلك منهم رسل ، ومنهم أولو عزم من الرسل ، ومنهم من رفع مكاناً علياً ، ومنهم من أوتي الحكم صبياً ،     وأوتي بعضهم الزبر ، وبعضهم البينات ، ومنهم من كلم الله ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، قال الله تعالى : (َلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) (الإسراء : 55 )   
وقال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) _ (سورة البقرة  253 ) .

-قال بعض أهل العلم : والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا ، وذلك بثلاثة أحوال :
أن تكون آياته ومعجزاته أبهر ، وأشهر ، أو تكون أمته أزكى وأكثر ، أو يكون في ذاته أفضل وأطهر ،    وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله به من كرامته ، واختصاصه من كلام أو خلة او رؤية أو ما شاء الله من ألطافه ، وتحف ولايته واختصاصه .

-وقد روي أن النبي r قال : إن للنبوة أثقالاً ، و إن يونس تفسخ منها تفسخ الربع فحَفِظَ رسول الله r موضع الفتنة ، من أوهام من يسبق إليه بسببها حرج في نبوته ، أو قدح في اصطفائه ، وحطّ عن رتبته ، ووَهْن في عصمته ، شفقة منه r على أمته .
وقد يتوجه على هذا الترتيب ، وجه خامس ، و هو أن يكون = أنا = راجعاً إلى القائل نفسه ، أي لا يظن أحد ـ و إن بلغ من الذكاء والعصمة والطهارة ، ما بلغ ـ أنه خير من يونس ، لأجل ما حكى الله عنه ، فإن درجة النبوة أفضل وأعلى ، وإن تلك الأقدار لم تحطه ، عنها حبة خردل ولا أدنى .
و سنزيد في القسم الثالث في هذا بياناً إن شاء الله تعالى .
فقد بان لك الغرض ، وسقط بما حررناه شبهة المعترض ،و بالله التوفيق ، وهو المستعان  لا إله إلا هو    

الفصل الثالث عشر
في أسمائه   
r وما تضمنته من فضيلته

-حدثنا أبو عمران موسى بن أبي تليد الفقيه ، قال : حدثنا أبو عمر الحافظ ، حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله  r : لي خمسة أسماء : أنا محمد ، و أنا أحمد ، و أنا الماحي ، الذي يمحو الله بي الكفر ،
و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، و أنا العاقب
.

-وقد سماه الله تعالى في كتابه محمداً ، وأحمد .
فمن خصائصه تعالى له أن ضمن أسماءه ثناءه ، وطوى أثناء ذكره عظيم شكره .
فأما اسمه أحمد فأفعل مبالغةً من صفة الحمد .
ومحمد : مفعل ، مبالغة من كثرة الحمد ، فهو ـ  
r  ـ أجل من حمد ، و أفضل من حمد ، و أكثر الناس حمداً ، فهو أحمد المحمودين ، وأحمد الحامدين ،ومعه لواء الحمد يوم القيامة ليتم له كمال الحمد ، ويتشهر في تلك العرصات بصفة الحمد ، ويبعثه ربه هناك مقاماً محموداً كما وعده ، يحمده فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم ، ويفتح عليه فيه من المحامد ـ كما قال  r  ـ ما لم يعط غيره ، وسمى أمته في كتب أنبيائه بالحمادين ، فحقيق أن يسمى محمداً وأحمد .
ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه ، وبدائع آياته ـ فن آخر ، و هو أن الله جل اسمه حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه .
أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره ، ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك .
وكذلك محمد أيضاً لم يسم به أحد من العرب ولاغيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده  
r وميلاده أن نبياً يبعث اسمه محمد ، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك ، رجاء أن يكون أحدهم هو . و (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ  ) (الأنعام : 124 )  وهم : محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي ، و محمد بن مسلمة الأنصاري ، و محمد بن براء البكري ، ومحمد بن سفيان بن مجاشع ، ومحمد بن حمران الجعفي ،        ومحمد بن خراعي السلمي ، لا سابع لهم .
-ويقال : أول من تسمى بمحمد محمد بن سفيان . واليمن تقول : بل محمد بن اليحمد من الأزد .
ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له ، أو يظهر عليه سبب يشك أحداً في أمره حتى تحققت السمتان له
r ، ولم ينازع فيهما .
وأما قوله
r : وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ففسر في الحديث : و يكون محو الكفر إما من مكة وبلاد العرب ، وما زوي له من الأرض ، ووعد أنه يبلغه ملك أمته ، أو يكون المحو عاماً ، بمعنى الظهور والغلبة ، كما قال تعالى : ((( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ  ))) (التوبة   33 ) (الفتح 28) ( الصف 9)  

-وقد ورد تفسيره في الحديث أنه الذي محيت به سيئات من اتبعه  .
وقوله : وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي أي على زماني وعهدي ،أي ليس بعدي نبي ، كما قال:  وخاتم النبيين .

 -وسمي عاقباً ، لأنه عقب غيره من الأنبياء .
 وفي الصحيح : انا العاقب الذي ليس بعدي نبي  .
وقيل : معنى على قدمي ، أي يحشر الناس بمشاهدتي ، كما قال تعالى : (َكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (سورة البقرة   143 )  .
 وقيل على قدمي : على سابقتي ، قال الله تعالى :( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) (يونس  2 )  .
و قيل : على قدمي : أي قدامي ، وحولي ، أي يجتمعون إلي يوم القيامة .
و قيل على قدمي : على سنتي  .
ومعنى قوله : لي خمسة أسماء : قيل : إنها موجودة في الكتب المتقدمة ، وعند أولي العلم من الأمم السالفة ،   و الله أعلم  .

-وقد روي عنه r : لي عشرة أسماء و ذكر منها : طه ، و يس ، حكاه مكي .
وقد قيل في بعض تفسير طه : إنه يا طاهر يا هادي . وفي يس : يا سيد ، حكاه السلمي عن الواسطي ، وجعفر بن محمد .

-وذكر غيره : لي عشرة أسماء فذكر الخمسة التي في الحديث الأول ، قال : وأنا رسول الرحمة، ورسول الراحة ، و رسول الملآحم ، وأنا المقتفي ، قفيت النبيين .
وأنا قيم ... والقيم : الجامع الكامل ، كذا و جدته ، و لم أروه .

وأرى أن صوابه قثم ـ بالثاء كما ذكرناه بعد عن الحربي ، و هو أشبه بالتفسير .
وقد وقع أيضاً في كتب الأنبياء : قال داود عليه السلام : اللهم ابعث لنا محمداً مقيم السنة بعد الفترة ، فقد يكون القيم بمعناه .

-وروى النقاش عنه r : لي في القرآن سبعة أسماء : محمد ، وأحمد ويس ، وطه ، والمدثر ،         والمزمل ، وعبد الله .

-وفي حديث ـ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه : هي ست : محمد ، وأحمد ، وخاتم ، وعاقب ،       وحاشر ، وماح   .

-وفي حديث أبي مو سى الأشعري ـ أنه كان r  يسمي لنا نفسه أسماء ،فيقول : أنا محمد وأحمد ،    والمقفي ، ونبي التوبة ، ونبي الملحمة ، ونبي الرحمة .
ويروى : المرحمة ، و الراحة . وكل صحيح إن شاء الله . ومعنى المقفي معنى العاقب . وأما نبي الرحمة والتوبة ، والمرحمة والراحة ـ فقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء : 107 )) ، و كما و صفه بأنه (.. يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 151 ))  ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة : 16 ). و (ِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 128 )  

 وقال في صفة أمته : أنها أمة مرحومة .وقال الله تعالى فيهم : (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد : 17 )، أي يرحم بعضهم بعضاً ، فبعثه ربه تعالى رحمة لأمته ورحمة للعالمين ، ورحيماً بهم ،     ومرتحماً ومستغفراً لهم ، وجعل أمته مرحومة ، ووصفها بالرحمة .
وأمرها
r بالتراحم ، فقال و أثنى عليه فقال : إن الله يحب من عباده الرحماء .
وقال : الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء .
-وأما رواية نبي الملحمة فإشارة إلى ما بعث به من القتال و السيف ـ
r ، و هي صحيحة .
-وروى حذيفة مثل حديث أبي موسى ، و نبي الرحمة ، و نبي الملاحم .
-وروي الحربي في حديثه
r أنه قال : أتاني ملك فقال لي : أنت قثم أي مجتمع . قال - والقثم : الجامع للخير ، وهذا اسم هو في أهل بيته معلوم .

-وقد جاءت من ألقابة ـ r وسماته في القرآن عدة كثيرة سوى ما ذكرناه ، كالنور ، والسراج المنير ، والمنذروالنذير ، والمبشر والبشير ،والشاهد ،والشهيد ،والحق المبين ، وخاتم النبيين ،والرؤوف الرحيم ، والأمين ، و قدم الصدق، ورحمة للعالمين ،ونعمة الله والعروة الوثقى ، والصراط المستقيم ، والنجم الثاقب والكريم ، والنبي الأمي ، وداعي الله ـ في أوصاف كثيرة ، و سمات جليلة .
وجرى منها في كتب الله المتقدمة ، وكتب أنبيائه ، وأحاديث رسوله ، وإطلاق الأمة جملة شافية ، كتسميته بالمصطفى ، والمجتبى ، وأبي القاسم ، والحبيب ،ورسول رب العالمين، والشفيع المشفع ،       والمتقي ، والمصلح ، والظاهر ، والمهيمن والصادق ، والمصدوق ، والهادي ، وسيد ولد آدم ، وسيد المرسلين ، وإمام المتقين ،وقائدالغر المحجلين ، وحبيب الله ،وخليل الرحمن ،وصاحب الحوض المورود والشفاعة والمقام المحمود ، وصاحب الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة ، وصاحب التاج  والمعراج       واللواء والقضيب ، وراكب البراق والناقة ، والنجيب ، وصاحب الحجة والسلطان والخاتم والعلامة         والبرهان ، وصاحب الهراوة والنعلين .
ومن أسمائه في الكتب : المتوكل ، والمختار ، ومقيم السنة ، والمقدس .  وروح القدس  ، وروح الحق ، وهو معنى البَارِقَليط في الإنجيل .
وقال ثعلب : البارقليط : الذي يفرق بين الحق والباطل .
ومن أسمائه في الكتب السالفة ، ماذ ماذ ، ومعناه طيب  طيب ، وحمطايا ،والخاتم ، والحاتم ، حكاه الأحبار .
قال ثعلب : فالخاتم الذي ختم  الله به  الأنبياء . والحاتم : أحسن الأنبياء خلقاً وخلقاً .
ويسمى بالسريانية : مشفع والمنحمنا ، واسمه في التوراة أحيد ـ روي ذلك عن ابن سيرين .
ومعنى صاحب القضيب ، أي السيف ، وقع ذلك مفسراً في الإنجيل ، قال : معه قضيب من حديد يقاتل به ، و أمته كذلك .
و قد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذي كان يمسكه
r ، وهو الآن عند الخلفاء .
وأما الهراوة التي وصف بها فهي في اللغة العصا ، وأراها ـ و الله أعلم ـ العصا المذكورة في حديث الحوض : أذود الناس عنه بعصاي لأهل اليمن .
وأما التاج فالمراد به العمامة ، ولم تكن حينئذ إلا للعرب ، و العمائم تيجان العرب .
وأوصافه وألقابه ، وسماته في الكتب كثيرة ، وفيها ذكرناه منها مقنع إن شاء الله .
 وكانت كُنْيته المشهورة أبا القاسم .
وروي عن أنس أنه لما ولد إبراهيم جاءه جبريل فقال له : السلام عليك يا أبا إبراهيم   .

                                             الفصل الرابع عشر
            في تشريف الله تعالى له
r بما سماه من أسمائه الحسنى ووصفه به من صفاتة العلا

-قال القاضي أبو الفضل وفقه الله تعالى : ما أحرى هذا الفصل بفصول الباب الأول ، لانخراطه في سلك مضمونها ،وامتزاجه بعذب معينها ،لكن لم يشرح الله الصدر للهداية إلى استنباطه ،ولا أنارالفكر  لاستخراج جوهره والتقاطه إلا عند الخوض في الفصل الذي قبله ، فرأينا أن نضيفه إليه ، ونجمع به شمله.

فاعلم أن الله تعالىخص كثيراً من الأنبياء بكرامة خلعها عليهم من أسمائه ، كتسمية إسحاق ، وإسماعيل بعليم ، وحليم ، وإبراهيم بحليم ، ونوح بشكور ، وعيسى ويحيى ببر، وموسى بكريم وقوى ، ويوسف بحفيظ عليم ، وأيوب بصابر ، وإسماعيل بصادق الوعد ، كما نطق بذلك الكتاب العزيز من مواضع ذكرهم  
وفضل محمداً
r : بأن حلاه منها في كتابه العزيز ، وعلى ألسنة أنبيائه بعدة كثيرة اجتمع لنا منها جملة بعد إعمال الفكر ، وإحضار الذكر ، إذ لم نجد من جمع منها فوق اسمين ، ولا من تفرغ فيها لتأليف فصلين .وحررنا منها في هذا الفصل نحو ثلاثين اسماً ، و لعل الله تعالى ـ كما ألهم إلى ما علم منها      وحققه ـ يتم النعمة بإبانة ما لم يظهره لنا الآن ، ويفتح غلقه .

-فمن أسمائه تعالى : الحميد ، و معناه المحمود ، لأنه حمد نفسه ، و حمده عباده ، و يكون أيضاً بمعنى الحامد لنفسه ولأعمال الطاعات .
وسمى الله تعالى النبي
r محمداً ، وأحمد ، فمحمد بمعنى محمود ، وكذا وقع اسمه في زبور داود .
وأحمد بمعنى أكبر من حمد ، وأجل من حمد ، وأشار إلى نحو هذا حسان بقوله :

                     وشق له من اسمه ليجله      فذو العرش محمود و هذا محمد

-ومن أسمائه تعالى : الرؤوف الرحيم ، وهما بمعنى متقارب .
وقد سماه في كتابه بذلك ، فقال :( ِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 128 )).

-ومن أسمائه تعالى الحق المبين . و عنى الحق : الموجود ، و لمتحقق أمره ، و ذلك المبين ، أي البين أمره و لهيته .
بان ، و بان بمعنى واحد . و يكون بمعنى المبين لعباده أمر دينهم و معادهم .
و سمى النبي
r بذلك في كتابه ،فقال : (حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ) (الزخرف  29 ) وقال تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (الحجر : 89 ).
وقال تعالى : (قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ) ( يونس   108 ).
و قال : (فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأنعام : 5 ) ، قيل : محمد . و قيل القرآن . ومعناه هنا ضد الباطل ، والمتحقق صدقه وأمره ـ وهو بمعنى الأول .
والمبين : البين أمره ورسالته ، أو المبين عن الله ما بعثه به ، كما قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : 44 )   

ومن أسمائه تعالى : النور، و معناه ذو النور ، أي خالقه ، أو منور السموات والأرض بالأنوار ، ومنور قلوب المؤمنين بالهداية .
وسماه نوراً ، فقال : (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة : 15 ) ، قيل محمد . و قيل القرآن .
وقال فيه : وسراجا منيرا ، سمي بذلك لوضوح أمره ، وبيان نبوته ، وتنوير قلوب المؤمنينو العارفين بما جاء به .

-ومن أسمائه تعالى : الشهيد ، ومعناه العالم . وقيل : الشاهد على عباده يوم القيامة .
وسماه شهيداً وشاهداً ، فقال :( إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً  ) (الأحزاب : 45 ).
وقال تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً  ) (البقرة : 143 )، وهو بمعنى الأول .

من أسمائه تعالى : الكريم ، و معناه الكثير الخير . و قيل : المفضل . و قيل العفو و قيل : العلي .
وفي الحديث المروي في أسمائه تعالى : الأكرم .
وسماه تعالى كريماً بقوله : (
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (الحاقة : 40 )، قيل : محمد . و قيل : جبريل .
وقال صلى الله عليه و سلم :
أنا أكرم ولد آدم .
ومعاني الاسم صحيحة في حقه
r .

-ومن أسمائه تعالى : العظيم ، و معناه الجليل الشأن ، الذي كل شيء دونه .
و
قال في النبي صلى الله عليه و سلم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم : 4 )  ووقع في أول سفر من التوراة ـ عن إسماعيل : وستلد عظيماً لأمة عظيمة ، فهو عظيم وعلى خلق عظيم .

-ومن أسمائه تعالى : الجبار ، ومعناه المصلح ، وقيل القاهر . وقيل العلي العظيم الشأن . وقيل المتكبر  
وسمي النبي
r في كتاب داود بجبار ، فقال : تقلد أيها الجبار سيفك ، فإن ناموسك و شرائعك مقرونة بهيبة يمينك . ومعناه في حق النبي r : إما لإصلاحه الأمة بالهداية والتعليم ، أو لقهره أعداءه ، أو لعلو منزلته على البشر ، و عظيم خطره .
ونفى عنه تعالىـ في القرآن ـ جبرية التكبر التي لا تليق به ، فقال : (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ) (ق   45 )  

-ومن أسمائه تعالى : الخبير ، ومعناه المطلع بكنه الشيء ، العالم بحقيقته . وقيل معناه المخبر .
وقال الله تعالى :( الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (الفرقان : 59 )  .
وقال القاضي بكر بن العلاء : المأمور بالسؤال غير النبي
r . والمسؤول الخبير هو النبي r
وقال غيره : بل السائل النبي
r . والمسؤول هو الله تعالى ، فالنبي خبير بالوجهين المذكورين ، قيل : لأنه عالم على غاية من العلم بما أعلمه الله من مكنون علمه ، وعظيم معرفته ، مخبر لأمته بما أذن له في إعلامهم به .

-ومن أسمائه تعالى : الفتاح ، ومعناه الحاكم بين عباده ، أو فاتح أبواب الرزق والرحمة ، والمنغلق من أمورهم عليهم ، أو يفتح قلوبهم وبصائرهم لمعرفة الحق ، ويكون أيضاً بمعنى الناصر ، كقوله تعالى : (إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ  َ) (الأنفال : 19 )، أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وقيل : معناه مبتدئ الفتح و النصر .وسمى الله تعالى محمداً r  بالفاتح في حديث الإسراء الطويل من رواية الربيع ابن أنس ، عن أبي العالية و غيره ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، و فيه : من قول الله تعالى :  وجعلتك فاتحاً وخاتماً  .
و فيه من قول النبي
r  في ثنائه على ربه ، و تعديد مراتبه :  ورفع لي ذكري ، وجعلني فاتحاً وخاتماً  فيكون الفاتح هنا بمعنى الحاكم ، أو الفاتح لأبواب الرحمة على أمته ، أو الفاتح لبصائرهم لمعرفة الحق    والإيمان بالله ، أو الناصر للحق ، أو المبتديء بهداية الأمة ، أو المبدأ المقدم في الأنبياء والخاتم لهم ، كما قال r : كنت أول الأنبياء في الخلق ، و آخرهم في البعث .

-ومن أسمائه تعالى في القرآن : الشكور ،كما في قوله عز وجل :(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر : 30 ) وقوله :(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر : 34 ) وقوله : (َمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (الشورى : 23 ) وقوله: (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (التغابن : 17 ) ومعناه المثيب على العمل القليل . وقيل المثني على المطيعين . ووصف بذلك نبيه نوحاً عليه السلام فقال :( إنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء : 3)  وقد وصف النبي r  نفسه بذلك ، فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً أي معترفاً بنعيم ربي ، عارفاً بقدر ذلك ، مثنياً عليه ، مجهداً نفسي في الزيادة من ذلك ، لقوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم : 7 ))

ومن أسمائه تعالى : العليم ، و العلام . و عالم الغيب و الشهادة .
ووصفه نبيه صلى الله عليه وسلم بالعلم ، وخصه بمزية منه ، فقال تعالى : (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء : 113 ) وقال :( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 151 ) .

-ومن أسمائه تعالى : الأول ، والآخر ، ومعناهما السابق للأشياء قبل وجودها ، والباقي بعد فنائها .
وتحقيقه أنه ليس له أول و لا آخر . وقال
r : كنت أول الأنبياء في الخلق ، وآخرهم في البعث .       وفسر بهذا قوله تعالى :(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) (الأحزاب : 7 )، فقدم محمداً r.
وقد أشار إلى نحو منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ومنه قوله
r :  نحن الآخرون السابقون .
و قوله : أنا أول من تنشق عنه الأرض ، وأول من يدخل الجنة ، وأول شافع ، وأول مشفع .وهو خاتم النبيين ، و آخر الرسل
r  .
ومن أسمائه تعالى : القوي . و ذو القوة المتين ، ومعناه : القادر .
وقد وصفه الله تعالى بذلك ، فقال : (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير : 20 )، قيل محمد . و قيل جبريل .

-ومن أسمائه تعالى : الصادق ، في الحديث المأثور .
وورد في الحديث أيضاً اسمه
r  بالصادق والمصد وق .

-ومن أسمائه تعالى: الولي ، والمولى، ومعناهما الناصر ،وقد قال الله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ  ) (المائدة : 55 ) . وقال r: أنا ولي كل مؤمن .
وقال الله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ) (الأحزاب   6 ).
وقال
r : من كنت مولاه فعلي مولاه .

-ومن أسمائه تعالى : العفو ، ومعناه الصفوح . وقد وصف الله تعالى بهذا نبيه في القرآن ، والتوراة ، وأمره بالعفو ، فقال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) ( الأعراف   199 ] .
وقال :( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة : 13 )  وقال له جبريل ـ و قد سأله عن قوله : (خُذِ الْعَفْوَ)  * ، قال : أن تعفو عمن ظلمك .
وقال في التوراة والإنجيل في الحديث المشهور ، في صفته : ليس بفظ ولا غليظ ، ولكن يعفو ويصفح  .

-ومن أسمائه تعالى : الهادي ، و هو بمعنى توفيق الله لمن أراد من عباده ، وبمعنى الدلالة والدعاء . قال الله تعالى : (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (يونس : 25 )) .      وأصل الجميع من الميل . و قيل : من التقديم .
وقيل في تفسير طه إنه يا طاهر ، يا هادي ، يعني النبي
r . وقال الله تعالى له :( َإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الشورى : 52 )   .
وقال فيه : (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الأحزاب : 46 )   .
فالله تعالى مختص بالمعنى الأول ، قال تعالى : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص : 56  )
و بمعنى الدلالة يُطْلَق على غيه تعالى .

-ومن أسمائه تعالى : المؤمن المهيمن ، قيل : هما بمعنى واحد ، فمعنى المؤمن في حقه تعالى : المصدق وعده عباده ، والمصدق قوله الحق ، والمصدق لعباده المؤمنين ورسله . وقيل : المُوَحد نفسه . و قيل : المؤمن عباده في الدنيا من ظلمه ، والمؤمنين في الآخرة من عذابه .
و قيل : المهيمن بمعنى الأمين ، مصغر منه ، فقلبت الهمزة هاء .
وقد قيل : إن قولهم في الدعاء : آمين ـ إنه اسم من أسماء الله تعالى ، ومعناه معنى المؤمن .
وقيل : المهيمن بمعنى الشاهد والحافظ .
والنبي
r أمين ،ومهيمن ،ومؤمن ، وقد سماه الله تعالى أميناً ، فقال: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير : 21 )
وكان ـ
r ـ يعرف بالأمين ، وشهر به قبل النبوة و بعدها ، و سماه العباس ، في شعره مهيمناً في قوله   :

                    ثم احتوى بيتك المهيمن من      خندف علياء تحتها النطق

قيل : المراد : يأيها المهيمن ، قاله القتيبي ، والإمام أبو القاسم القشيري .
وقال تعالى :( يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ  ) (التوبة : 61 )، أي يصدق .
وقال
r  : أنا أمنة لأصحابي ، فهذا بمعنى المؤمن .

-ومن أسمائه تعالى : القدوس ، ومعناه المنزه عن النقائص المطهر من سمات الحدث ، وسمي بيت المقدس ، لأنه يتطهر فيه من الذنوب ، ومنه ، الوادي المقدس ، وروح القدس .
ووقع في كتب الأنبياء في أسمائه
r : المقدس ، أي المطهر من الذنوب ، كما قال تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ  ) (الفتح : 2 ) .
أو الذي يُتطهَّر به من الذنوب ، و يُتنزَّه باتباعه عنه ، كما قال :( وَيُزَكِّيهِمْ) (البقرة : 129 ).
و قال تعالى :( وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) (المائدة : 16 ) أو يكون مقدساً بمعنى مطهراً ، من الأخلاق الذميمة و الأوصاف ا لدنية .

-ومن أسمائه تعالى : العزيز ، ومعناه : الممتنع الغالب ، أو الذي لا نظير له ، أو المعز لغيره ، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون : 8 )) ، أي الامتناع و جلالة القدر .
وقد وصف الله تعالى نفسه بالبشارة و النذارة ، فقال : ((يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ) (التوبة : 21 ).
وقال :( أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى) (آل عمران : 39 ): و (إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ)
(آل عمران : 45 )    
وسماه الله تعالى مبشراً، ونذيراً : أي مبشراً لأهل طاعته ، ونذيراً لأهل معصيته .

-ومن أسمائه تعالى فيما ذكره بعض المفسرين : طه ، و يس . و قد ذكر بعضهم أيضاً أنهما من أسماء محمد r و شرَّف و كرَّم ...


الفصل الخامس عشر
في بيان أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته

-قال القاضي أبو الفضل : وفقه الله ، وها أنا أذكر نكتةً أذيل بها هذا الفصل ، وأختم بها هذا القسم ،     وأزيح الإشكال بها فيما تقدم عن كل ضعيف الوهم ، سقيم الفهم ، تخلصه من مهاوي التشبيه ، و تزحزحه عن شبه التمويه ، وهو أن يعتقد أن الله تعالى جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته ، وحسنى أسمائه ، وعلي صفاته ، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ، ولا يشبه به ، وأن ما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق    وعلى المخلوق ، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي ، إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق ، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات كذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين ، إذ صفاتهم لا تنفك عن الأعراض            والأغراض ، وهو تعالى منزه عن ذلك ، بل لم يزل بصفاته وأسمائه ، وكفى في هذا قوله :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى : 11 )   .
ولله در من قال من العلماء العارفين المحققين : التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات ولا معطلة عن الصفات .
و زاد هذه النكتة الواسطي ـ رحمه الله ـ بياناً ، و هي مقصودنا ، فقال : ليس كذاته ذات ، ولا كإسمه اسم ، ولا كفعله فعل ، ولا كصفته صفة ، إلا من جهة موافقة اللفظ اللفظ ، وجلت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة ، كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة .
وهذا كله مذهب أهل الحق والسنة والجماعة رضي الله عنهم .

-وقد فسر الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله ـ قوله هذا ، ليزيد بياناً ، فقال : هذه الحكاية تشتمل على جوامع مسائل التوحيد ، وكيف تشبه ذاته ذات المحدثات ، وهي بوجودها مستغنية ، وكيف يشبه فعله فعل الخلق ، وهو لغير جلب أنس ، أودفع نقص حصل ، ولا لخواطر وأغراض وجد ، ولا بمباشرة ومعالجة ظهر ، وفعل الخلق لا يخرج عن هذه الوجوه .

-وقال آخر ـ من مشايخنا : ما توهمتموه بأوهامكم ، أو أدركتموه بعقولكم فهو محدث مثلكم .

-وقال الإمام أبو المعالي الجويني : من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره ، فهو مشبه ، ومن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل وإن قطع بموجود اعتراف بالعجز عن درك حقيقته فهو موحد .

-وما أحسن قول ذي النون المصري : حقيقة التوحيد أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا علاج ، وصنعه لها بلا مزاج ، وعلة كل شيء صنعه ، ولا علة لصنعه ، وما تصور في  وهمك فالله بخلافه .

وهذا كلام عجيب نفيس محقق ، والفصل الآخر ، تفسير لقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى : 11 )  

 
و الثاني، تفسير لقوله :( (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء : 23 ) و الثالث ، تفسير لقوله : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (النحل : 40 )   .
ثبتنا الله وإياك على التوحيد و الإثبات ، والتنزيه ، وجنبنا طرفي الضلالة والغواية من التعطيل والتشبيه بمنه ورحمته .

الباب الرابع
فيما أظهره الله تعالى على يديه
r من المعجزات و شرفه به من الخصائص و الكرامات

ويشتمل هذا الباب على مقدمة و 29  فصلا:

1- في أن الله قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده .

2- في معنى تسمية من جاءت به الأنبياء معجزة

3- في إعجاز القرآن ـ الوجه الأول : حسن تأليفة ، والتئام كلمه ، وفصاحته

4- في إعجاز القرآن ـ الوجه الثاني: النظم والاسلوب

5- في إعجاز القرآن ـ الوجه الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات

6- في إعجاز القرآن ـ الوجه الرابع : ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، والأمم البائدة ، والشرائع الداثرة

7- هذه الوجوه الأربعة من الإعجاز لا نزاع فيها ولا مرية

8- من وجوه الإعجاز : الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه ، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته

9- ومن وجوه إعجازه المعدودة كونه آيةً باقيةً لا تعدم ما بقيت الدنيا

10- في وجوه أخرى للإعجاز

11- في انشقاق القمر وحبس الشمس

12- في نبع الماء من بين أصابعه و تكثيره بركة

13- ومما يشبه هذا من معجزاته

14- ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه

15- في كلام الشجرة وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته

16- في قصة حنين الجذع

17- ومثل هذا في سائر الجمادات

18- في الآيات في ضروب الحيوانات

19- في إحياء الموتى و كلامهم ، و كلام الصبيان و المراضع و شهادتهم لهم بالنبوة r

 20- في إبراء المرضى وذوي العاهات

21- في إجابة دعائه r

22- في كرامته بركاته وانقلاب الأعيان له فيما لمسه أو باشره

23- فيما أطلع عليه من الغيوب وما يكون

24-   في عصمة الله تعالى له r مـن النـــاس

25- من معجزاته الباهرة ما جمعه الله له r من المعارف والعلوم ...

26- من خصائصه r  وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة والجن

27- مــن دلائــل نـبـوتـه وعـلامـــات رسالـتـه r

28- فـيـمـا ظـهـر مـن الأيـات عـنـد مـولـده r

29- معجزات نبينا r أظهر من سائر معجزات الرسل عليهم السلام

المقدمة

 -قال القاضي أبو الفضل : حسب المتأمل أن يحقق أن كتابنا هذا لم نجمعه لمنكر نبوة نبينا r  ، ولا لطاعن في معجزاته ، فنحتاج إلى نصب البراهين عليها ، وتحصين حوزتها ، حتى لا يتوصل المطاعن إليها ، ونذكر شروط المعجز والتحدي وحده ، وفساد قول من أبطل نسخ الشرائع ، ورده ، بل ألفناه لأهل ملته ، الملبين لدعوته ، المصدقين لنبوته ، ليكون تأكيداً في محبتهم له ، ومنماةً لأعمالهم ، و ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم .

وبنيتنا أن نثبت في هذا الباب أمهات معجزاته ، ومشاهير آياته ، لتدل ، على عظيم قدره عند ربه .       وأتينا منها بالمحقق والصحيح الإسناد ، وأكثره مما بلغ القطع ، أو كاد ، وأضفنا إليها بعض ما وقع في مشاهير كتب الأئمة .
وإذا تأمل المتأمل المنصف ما قدمناه من جميل أثره ، وحميد سيره ، وبراعة علمه ، ورجاحة عقله       وحلمه ، وجملة كماله ، وجميع خصاله ، وشاهد حاله ، وصواب مقاله ـ لم يمتر في صحة نبوته ،      وصدق دعوته .
وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه و الإيمان به .

-فروينا عن الترمذي ، وابن قانع وغيرهما بأسانيدهم ـ أن عبد الله بن سلام ، قال : لما قدم رسول الله r  المدينة جئته لأنظر إليه ، فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب .
حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، قال : حدثنا أبو الحسين الصيرفي ، و أبو الفضل بن خيرون  عن أبي يعلى البغدادي ، عن أبي علي السنجي ، عن ابن محبوب ، عن الترمذي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، ومحمد بن جعفر ، وابن أبي عدي ، ويحيى بن سعيد ، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، عن زرارة ابن أوفى ، عن عبد الله بن سلام . . . الحديث .

-وعن أبي رمثة التيمي : أتيت النبي r ، ومعي ابن لي ، فأريته ، فلما رأيته قلت : هذا نبي الله .

-وروى مسلم وغيره أن ضِماداً لما وفد عليه ، فقال له النبي r : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله قال له : أعد علي كلماتك هؤلاء ، فلقد بلغن قاموس البحر هات يدك أبايعك .

-وقال جامع بن شداد : كا ن رجل منا يقال له طارق ، فأخبر أنه رأى النبي r  بالمدينة ، فقال : هل معكم شيء تبيعونه ؟ قلنا : هذا البعير . قال : بكم ؟ قلنا : بكذا و كذا وسقاً من تمر ، فأخذ بخطامه ،     وسار إلى المدينة ،فقلنا : بعنا من رجل لا ندري من هو ، ومعنا ظعينة ، فقالت : أنا ضامنة لثمن البعير ، رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر لا يخيس فيكم .
فأصبحنا ، فجاء رجل بتمر فقال : أنا رسول رسول الله
r  إليكم ، يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر ،     و تكتالوا حتى تستوفوا . ففعلنا .

-وفي خبر الجلندى ملك عمان ـ لما بلغه أن رسول الله r  يدعوه إلى الإسلام ـ قال الجلندى : والله ، لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، و لا ينهي عن شيء إلا كان أول تارك له ، و أنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر ، ويفي بالعهد ، وينجر الموعود ، وأشهد أنه نبي .

-وقال نفطويه ـ في قوله تعالى :( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ  ) (النور : 35 ): هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه r ، يقول : يكاد منظره يدل على نبوته وإن لم يتل قرآناً كما قال ابن رواحة :
                 لو لم تكن فيه آيات مبينة            لكان منظره ينبيك بالخبر

 وقد آنَ أنْ نأخذ في ذكر النبوة والوحي والرسالة ، وبعده في معجزة القرآن ، وما فيه من برهان ودلالة  

الفصل الأول
في أن الله قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده

-اعلم أن الله جل اسمه قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده ، والعلم بذاته وأسمائه وصفاته وجميع تكليفاته ابتداء دون واسطة لو شاء ، كما حكي عن سنته في بعض الأنبياء ، وذكره بعض أهل التفسير في قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى : 51 ) .
وجائز أن يوصل إليهم جميع ذلك بواسطة تبلغهم كلامه ، وتكون تلك الواسطة ، إما من غير البشر ، كالملائكة مع الأنبياء أو من جنسهم ، كالأنبياء مع الأمم ، ولا مانع لهذا من دليل العقل .
وإذا جاز هذا ولم يستحل ، وجاءت الرسل بما دل على صدقهم من معجزاته وجب تصديقهم في جميع ما أتوا به ، لأن المعجزة مع التحدي من النبي
r  قائم مقام قول الله : صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه ،      وشاهد على صدقه فيما يقوله ، و هذا كاف .
والتطويل فيه خارج عن العرض ، فمن أراد تتبعه وجده مستوفي في مصنفات أئمتنا رحمهم الله .
فالنبوة في لغة من همز مأخوذة من النبأ ، وهو الخبر ، وقد لا تهمز على هذا التأويل تسهيلاً
 والمعنى أن الله تعالى أطلعه على غيبه ، وأعلمه أنه نب يه ، فيكون نبي منبأ فعيل بمعنى مفعول ، أو يكون مخبراً عما بعثه الله تعالى به ، ومنبئاً بما أطلعه الله عليه فعيل بمعنى فاعل ، ويكون عند من لم يهمزه من النبوة ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ومعناه أن له رتبة شريفة ، ومكانة نبيهة عند مولاه منيفة  فالوصفان في حقه مؤتلفان . وأما الرسول فهو المرسل ، ولم يأت فعول بمعنى مفعل في اللغة إلا نادراً . وإرساله أمر الله بالإبلاغ إلى من أرسله إليه ، واشتقاقه من التتابع ، ومنه قولهم : جاء الناس أرسالاً ، إذا اتبع بعضهم بعضاً ، فكأنه ألزم تكرير التبليغ ، أو ألزمت الأمة اتباعه .
واختلف العلماء : هل النبي والرسول بمعنى ، أو بمعنيين ؟ فقيل : هما سواء ، وأصله من الإنباء وهو الإعلام ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج : 52 ))، فقد أثبت لهما معاً الإرسال ، قال : و لا يكون النبي إلا رسولاً ولا الرسول إلا  نبياً .
و قيل : هما مفترقان من وجه ، إذ قد اجتمعا في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب والإعلام بخواص النبوة أو الرفعة لمعرفة ذلك ، وحوز درجتها ، وافترقا في زيادة الرسالة للرسول ، وهو الأمر بالإنذار     والإعلام كما قلنا . وحجتهم من الآية نفسها التفريق بين الإسمين ، ولو كانا شيئاً واحداً لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ ، قالوا : و المعنى : ما أرسلنا من رسول إلى أمة أو نبي ليس بمرسل إلى أحد .
و قد ذهب بعضهم إلى أن الرسول من جاء بشرع مبتدإ ، ومن لم يأت به نبي غير رسول ، وإن أمر بالإبلاغ والإنذار . والصحيح ، والذي عليه الجماء الغفير ، أن كل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً .
وأول الرسل آدم ، وآخرهم محمد
r .وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه : إن الأنبياء مائة ألف وأربعة   وعشرون ألف نبي . وذكر أن الرسل ، منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أولهم آدم عليه السلام .
فقد بان لك معنى النبوة والرسالة ، وليستا عند المحققين ذاتاً للنبي ، ولا وصف ذات ، خلافاً للكرامية ،   وفي تطويل لهم ، وتهويل ، ليس عليه تعويل .
وأما الوحي فأصله الإسراع ، فلما كان النبي يتلقى ما يأتيه من ربه بِعَجَل سمي وحياً ، وسميت أنواع الإلهامات وحياً ، تشبيهاً بالوحي إلى النبي ، وسمي الخط وحياً ، لسرعة حركة يد كاتبه ، ووحي الحاجب واللحظ سرعة إشارتهما ومنه قوله تعالى : (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) (مريم : 11 )، أي أومأ ورمز . و قيل : كتب ، و منه قولهم : الوحا ، الوحا ، أي السرعة .
وقيل أصل الوحي السر ولإخفاء ، ومنه سمي الإلهام وحياً ، ومنه : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ، أي يوسوسون في صدروهم ، ومنه قوله : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى)
(القصص : 7 )، أي ألقي في قلبها .
وقد قيل ذلك في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى : 51)، أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة .

الفصل الثاني
في معنى تسمية من جاءت به الأنبياء معجزة

اعلم أن تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة ،هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها ،وهي على ضربين : ضرب هو من نوع قدره البشر ، فعجزوا عنه ، فتعجيزهم عنه فعل لله دل على صدق نبيه ، كصرفهم عن تمني الموت . وتعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن على رأي بعضهم ، ونحوه .
وضرب هو خارج عن قدرته ، فلم يقدروا على الإتيان بمثله ، كإحياء الموتى ، وقلب العصا حية ،        وإخراج ناقة من صخرة ،وكلام شجرة ، ونبع الماء من الأصابع ، وانشقاق القمر ، مما لا يمكن أن يفعله أحد ، إلا الله ، فكون ذلك على يد النبي
r من فعل الله تعالى و تحديه من يكذبه أن يأتي بمثله تعجيز له  
و اعلم أن المعجزات التي ظهرت على يد نبينا
r دلا ئل نبوته و براهين صدقه ـ من هذين النوعين معاً ـ و هو أكثر الرسل معجرةً ، و أبهرهم آيةً، و أظهرهم برهاناً ، كما سنبينه ، و هي ـ في كثرتها ـ لا يحيط بها ضبط ، فإن واحداً منها ـ و هو القرآن ـ لا يحصى عدد معجزاته بألف و لا ألفين ، و لا أكثر ، لأن النبي r قد تحدى بسورة منه فعجز عنها .
قال أهل العلم : إنا أعطيناك الكوثر . فكل آية أو آيات منه بعددها و قدرها معجزة ، ثم فيها نفسها معجزات على ما سنفصله فيما انطوى عليه من المعجزات .
ثم معجزاته
r على قسمين : قسم منها علم قطعاً ، و نقل إلينا متواتراً كالقرآن ، فلا مرية ، و لا خلاف ، بمجيء النبي به ، وظهوره من قبله ، واستدلاله بحجته ، وإن أنكر هذا معاند جاحد ، فهو كإنكاره وجود محمد r في الدنيا .
وإنما جاء اعتراض الجاحدين في الحجة به ، فهو في نفسه وجميع ما تضمنه من معجز معلوم ضرورة  
ووجه إعجازه معلوم ضرورةً ونظراً ، كما سنشرحه .
قال بعض أئمتنا : ويجري هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه
r آيات وخوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معيناً القطع فيبلغه جميعها ، فلا مرية في جريان معانيها على يديه ، ولا يختلف مؤمن ولا كافر ـ أنه جرت على يديه عجائب ، وإنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله .
وقد قدمنا كونها من قبل الله ، وأن ذلك بمثابة قوله : صدقت .
فقد علم وقوع مثل هذا أيضاً من نبينا ضرورةً لاتفاق معانيها ، كما يعلم ضرورة جود حاتم ، وشجاعة عنترة ، وحلم أحنف ، لاتفاق الأخبار الواردة عن كل واحد منهم على كرم هذا، وشجاعة هذا ، وحلم هذا ، وإن كان كل خبر بنفسه لا يوجب العلم ، ولا يقطع بصحته .
والقسم الثاني ما لم يبلغ مبلغ الضرورة والقطع ، وهو على نوعين : نوع مشتهر منتشر ، رواه العدد ،  وشاع الخبر به عند المحدثين والرواة ونقلة السير والأخبار ، كنبع الماء من بين الأصابع ، وتكثير الطعام  
ونوع منه اختص به الواحد والإثنان ، ورواه العدد اليسير ، ولم يشتهر اشتهار غيره ، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى ، واجتمعا على الإتيان بالمعجز ، كما قدمناه .

-قال القاضي أبو الفضل : وأنا أقول صدعاً بالحق : إن كثيراً من هذه الآيات المأثورة عنه r  معلومة بالقطع :

* أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه ، وأخبرعن وجوده ، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل ، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة ، ولا يُوهِن عزمَنا خلاف أخرق منحل عُرى الدين ، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين ، بل نرغم بهذا أنفه ، وننبذ بالعراء سخفه .
وكذلك قصة نبع الماء ، وتكثير الطعام ـ رواها الثقات والعدد الكثير عن ا لجماء الغفير ، عن العدد الكثير من الصحابة .

-ومنها ما رواه الكافة عن الكافة متصلاً عمن حدث بها من جملة الصحابة وإخبارهم أن ذلك كان في موطن اجتماع الكثير منهم في يوم الخندق ، وفي غزوة بواط ، وعمرة الحديبية ، وغزوة تبوك ،         وأمثالها من محافل المسلمين ومجمع العساكر ، ولم يؤثر عن أحد من الصحابة مخالفة للراوي فيما حكاه ، ولا إنكار لما ذكر عنهم أنهم رأوه كما رآه ، فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق ، إذ هم المنزهون عن السكوت على باطل ، والمداهنة في كذب ، وليس هناك رغبة و ا رهبة تمنعهم ، ولو كان ما سمعوه منكراً عندهم وغير معروف لديهم لأنكروه ، كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها من السنن والسير         وحروف القرآن . وخطأ بعضهم بعضاً ، ووهمه في ذلك ، مما هو معلوم ، فهذا النوع كله يلحق بالقطعي من معجزاته لما بيناه .

وأيضاً فإن أمثال الأخبار التي لا أصل لها ، وبنيت على باطل ، لا بد بعد مرور الأزمان وتداول الناس      وأهل البحث من انكشاف ضعفها ، وخمول ذكرها ، كما يشاهد في كثير من الأخبار الكاذبة ، والأراجيف الطارئة . وأعلام نبينا هذه الواردة من طريق الأحاد لا تزداد مع مرور الزمان إلا ظهوراً ، ومع تداول الفرق ، وكثرة طعن العدو ، وحرصه على توهينها ، وتضعيف أصلها ، واجتهاد الملحد على إطفاء نورها إلا قوة وقبولاً ، وللطاعنين عليها إلا حسرة وغليلاً .
وكذلك إخباره عن الغيوب ، وإنباؤه بما يكون وكان معلوم من آياته على الجملة بالضرورة .
وهذا حق لا غطاء عليه ، وقد قال به من أئمتنا القاضي ، والأستاذ أبو بكر وغيرهما ، رحمهم الله ، وما عندي أوجب قول القائل : إن هذه القصص المشهورة من باب خبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار         وروايتها ، وشغله بغير ذلك من المعارف ، وإلا فمن اعتنى بطرق النقل ، وطالع الأحاديث والسير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه . ولا يبعد أن يحصل العلم يالتواتر عند واحد ولا يحصل عند آخر ، فإن أكثر الناس يعلمون ـ بالخبر ـ كون بغداد موجودة ً ، وأنها مدينة عظيمة ، ودار الإمامة والخلافة ، وآحاد من الناس لا يعلمون اسمها ، فضلاً عن وصفها ، وهكذا يعلم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة وتواتر النقل عنه ـ أن مذهبه إيجاب قراءة أم القرآن في الصلاة للمنفرد والإمام ، وإجزاء النية في أول ليلة من رمضان عما سواه ، وأن الشافعي يرى تجديد النية كل ليلة ، والاقتصار في المسح على بعض الرأس ، وأن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد وغيره ، وإيجاب النية في الوضوء ، واشتراط الولي في النكاح ، وأن أبا حنيفة يخالفهما في هذه المسائل ، وغيرهم ممن لم يشتغل بمذاهبهم ولا روى أقوالهم لا يعرف هذا من مذاهبهم فضلاً عمن سواه .


وعند ذكرنا آحاد هذه المعجزات نزيد الكلام فيها بياناً إن شاء الله تعالى .

                           الفصل الثالث

                في إعجاز القرآن ـ الوجه الأول: حسن تأليفه، والتئام كلمه ، وفصاحته

-قال القاضي أبو الفضل رحمه الله :

اعلم ـ وفقنا الله وإياك ـ أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة ، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه :

أولها : حسن تأليفه ، والتئام كلمه ، وفصاحته ، ووجوه إيجازه ، وبلاغته الخارقة عادة العرب ، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن ، و فرسان الكلام ، قد خصوا من البلاغة و الحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم ، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان ، ومن فضل الخطاب ما يقيد الألباب جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقة ، وفيهم غريزة وقوة ، يأتون منه على البديهة بالعجب ، ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون                                                   

بديهاً في المقامات وشديد الخطب ، و يرتجزون به بين الطعن والضرب ، ويمدحون ويقدحون ،            ويتوسلون ويتوصلون ، ويرفعون ويضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الإحَن ، ويهيجون الدِّمن          ويجرئون الجبان ، ويبسطون يد الجعد البنان ، ويصيرون الناقص كاملاً ويتركون النبيه خاملاً .
منهم البدوي ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، والكلام الفخم ، والطبع الجوهري ، والمنزع القوي .
ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول القليل الكُلفة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية .
و كلا البابين لهما في البلاغة الحجة البالغة ، والقوة الدامغة ، والقدح الفالج ،والمهيع الناهج ، لايشكون أن الكلام طوع مُرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، قد حوَوا فنونها واستنبطوا عيونها ، ودخلوا من كل باب من أبوابها ، وعلوا صرحاً لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير والمهين ، وتفننوا في الغث والسمين ،     وتقاولوا في القل والكثر ، وتساجلوا في النظم والنثر ، فما راعهم إلا رسول كريم ، بكتاب عزيز ((لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : 42 ) ، أحمكت آياته ، و فصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته على كل مقول ، وتظافر إيجازه وإعجازه ، وتظاهرت حقيقته     ومجازه ، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه  ، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه ، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه ، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه ، وهم أفسح ما كانوا في الباب مجالاً ، وأشهر في الخطابة رجالاً ، وأكثر في السجع والشعر سجالاً ، وأوسع في الغريب واللغة مقالاً ، بلغتهم التي بها يتحاورون ، ومنازعهم التي عنها يتناضلون ، صارخاً بهم في كل حين ، ومقرعاً لهم بضعاً وعشرين عاماً على رؤوس الملأ أجمعين :( (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (يونس : 38 ) .
((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة  23 ) * (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة : 24 ).  
و (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء : 88 ).
و
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (هود : 13 ). وذلك أن المفتري أسهل ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب ، واللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب ، ولهذا قيل : فلان يكتب كما يقال له ، وفلان يكتب كما يريد .
و للأول على الثاني فضل ، و بينهما شأو بعيد .
فلم يزل يقرعهم
r   أشد التقريع ، ويوبخهم غاية التوبيخ ، ويسفه أحلامهم ، ويحط أعلامهم ،        ويشتت نظامهم ، ويذم آلهتهم وآباءهم ، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم ، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضتيه ، محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتشغيب و التكذيب ، والإغراء بالإفتراء ،     وقولهم :( إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (المدّثر : 24 )، و(سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) (القمر : 2 )، و(إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ) (الفرقان : 4 )، و (َأسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (الأنعام : 25 ) ، والمباهتة  والرضا بالدنية ، كقولهم : (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) (البقرة : 88 ).        
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (فصلت  5 ). (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت : 26 ))  والادعاء مع العجز بقولهم :( (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) (الأنفال : 31 )
وقد قال لهم الله : (وَلَن تَفْعَلُواْ  ) (البقرة : 24 ) ، فما فعلوا ولا قدروا . ومن تعاطى ذلك من سخفائهم ـ كمسيلمة ـ كشف عواره جميعهم ، وسلبهم الله ما ألفوه ، من فصيح كلامهم ، وإلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ، ولا جنس بلاغتهم ، بل ولوا عنه مدبرين ، وأتوا مذعنين من بين مهتد و بين مفتون .

ولهذا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي r :
(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل : 90 )   .
قال : والله ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوةً ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر.

-وذكر أبو عبيد أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ :
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر : 94 ) فسجد ، و قال : سجدت لفصاحته .

و سمع آخر رجلاً يقرأ : ((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً  ) (يوسف : 80 )
فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام .

-وحكي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يوماً نائماً في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق ، واستخبره ، فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها ، وأنه سمع رجلاً من أسرى المسلمين   يقرأ آية من كتابكم فتأملتها ، فإذا هي قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة ، وهي قوله تعالى : (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور : 52 )

-وحكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت : أو يعد هذا فصاحةً بعد قول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص : 7 ) ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين ، وخبرين ، و بشارتين .

فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته ، غير مضاف إلى غيره على التحقيق والصحيح من القولين .
وكون القرآن من قِبَل النبي
r ، وأنه أتى به معلوم ضرورة ، وكونه r  متحدياً به معلوم ضرورة ، وعجز العرب عن الإتيان به معلوم ضرورة ، وكونه في فصاحته خارقاً للعادة معلوم ضرورة للعالِمين بالفصاحة ووجوه البلاغة ، وسبيل من ليس من أهلها علم ذلك بعجز المفكرين من أهلها عن معارضته    واعتراف المفسرين بإعجاز بلاغته .

وأنت إذا تأملت قوله تعالى :(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة : 179  ) .
وقوله : (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) (سبأ : 51 )) .
وقوله :(إدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت : 34 ).
و قوله :(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود : 44 )
و قوله (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت : 40 ) .

وأشباهها من الآي ، بل أكثر القرآن حققت ما بينته من إيجار ألفاظها ، وكثرة معانيه ، وديباجة عبارتها ، وحسن تأليف حروفها ، وتلاؤم كلمها ، وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة ، وفصولاً جمة ، وعلوماً زواخر ، ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها ، وكثرت المقالات في المستنبطات عنها .
ثم هو في سرده القصص الطوال ، وأخبار القرون السوالف ، التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام   ويذهب ماء البيان ـ آية لمتأمله ، من ربط الكلام بعضه ببعض ، والتئام سرده ، وتناصف وجوهه ، كقصة يوسف على طولها .
ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تنسي في البيان صاحبتها ، وتناصف في الحسن وجه مقابلتها ، ولا نفور للنفوس من ترديدها ، ولا معاداة لمعادها .

الفصل الرابع
في إعجاز القرآن ـ الوجه الثاني:النظم والاسلوب

الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب ، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ، ووقفت مقاطع آية ، وانتهت فواصل كلماته إليه ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له ، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، وتدلهت دونه أحلامهم ، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم ، أو سجع أو رجز ، أو شعر .
ولما سمع كلامه
r الوليد بن المغيرة ، وقرأ عليه القرآن ـ رقّ ، فجاءه أبو جهل منكراً عليه  ـ قال : والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا .

-وفي خبره الآخر ـ حين جمع قريشً عند حضور الموسم ، وقال : إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأياً   لا يكذب بعضكم بعضاً ، فقالوا : نقول كاهن . قال : والله ما هو بكاهن . ما هو بزمزمته ولا سجعه .
قالوا : مجنون : قال : ما هو بمجنون ، ولا بخنقه ولا وسوسته .
قالوا : فنقول شاعر . قال : ماهو بشاعر . قد عرفنا الشعر كله ، رجزه ، وهزجه ، وقريضه ، و مبسوطه ، ومقبوضه ، ما هو بشاعر . قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر ، ولا نفثه ولا عقده .
قالوا : فما نقول : قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً ، إلا وأنا أعرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أنه ساحر ، فإنه سحر يفرق بين المرء وابنه ، والمرء وأخيه ، والمرء وزوجه ، والمرء وعشيرته .
فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس ، فأنزل الله تعالى في الوليد : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ( 11 ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ( 12 ) وَبَنِينَ شُهُوداً ( 13 ) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ( 14 ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( 15 ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً ( 16 ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( 17 ) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( 18 ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 19 ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 20 ) ثُمَّ نَظَرَ ( 21 ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( 22 ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( 23 ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( 24 ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ( 25 ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( 26 ) -( المدثر ) .

-وقال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن : يا قوم ، قد علمتم أني لم أترك شيئاً إلا وقد علمته وقرأته      وقلته ، والله لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة .

-وقال النضر بن الحارث نحوه .

-وفي حديث إسلام أبي ذر ووَصَف أخاه أنيساً ، فقال : والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس ، لقد ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية ، أنا أحدهم ، وإنه انطلق إلى مكة ، وجاء إ لى أبي ذر بخبر النبي r   . قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر : كاهن ، ساحر ، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم ، وما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، وإنه لصادق ، وإنهم لكاذبون .

-والأخبار في هذا صحيحة كثيرة .

-والإعجاز بكل واحد من النوعين : الإيجاز والبلاغة بذاتها ، أو الأسلوب الغريب بذاته ، كل واحد منهما نوع إعجازه على التحقيق ، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما ، إذا كل واحد خارج عن قدرتها ، مباين لفصاحتها و كلامها ، وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين .
و ذهب بعض المحققين المقتدي بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب ، وأتى على ذلك بقول تمجه الأسماع ، وتنفر منه القلوب . والصحيح ما قدمناه ، و العلم بهذا كله ضرورة قطعاً .
ومن تفنن في علوم البلاغة ، وأرهف خاطره ولسانه أدب هذه الصناعة لم يخف عليه ما قلناه .

-وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه ، فأكثرهم يقول : إنه ما جمع في قوة جزالته ،        ونصاعة ألفاظه ، وحسن نظمه ، وإيجازه ، وبديع تأليفه وأسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البشر ،    وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها ، كإحياء الموتى ، وقلب العصا ، وتسبيح الحصى .
وذهب الشيخ أبو الحسن إلى أن مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ولا يكون ، فمنعَهم اللهُ هذا  ، و عجَّزهم عنه .

-وقال به جماعة من أصحابه .

-وعلى الطريقين فعجز العرب عنه ثابت ، وإقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر ،      وتحديهم بأن يأتوا بمثله  قاطع ، وهو أبلغ في التعجيز ، وأحرى بالتقريع ، والإحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم ، وهو أبهر آية ، وأقمع دلالة .
وعلى كل حال فما أتوا في ذلك بمقال ، بل صبروا على الجلاء ، والقتل ، وتجرعوا كاسات الصَّغار والذل ، وكانوا من شموخ الآنف ، وإباية الضيم ، بحيث لا يؤثرون ذلك اختياراً ، ولا يرضونه إلا اضطراراً ، وإلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم ، الشغل بها أهون عليهم وأسرع بالنجح وقطع العذر وإفحام الخصم لديهم ، وهم ممن لهم قدرة على الكلام ، وقدوة في المعرفة به لجميع الأنام ، وما منهم إلا من جهد جهده ،       واستنفد ما عنده في إخفاء ظهوره ، وإطفاء نوره ، فما جلوا في ذلك خبيئةً من بنات شفاههم ، ولا أتوا بنطفة من معين مياههم ، مع طول الأمد ، و كثرة العدد ، و تظاهر الوالد وما ولد ، بل أبلسوا فما نبسوا ، ومنعوا فانقطعوا ، فهذان نوعان من إعجازه .

الفصل الخامس
في إعجاز القرآن ـ الوجه الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات

-الوجه الثالث من الإعجاز ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات ، وما لم يكن ولم يقع ، فوجد ، كما ورد  وعلى الوجه الذي أخبر به ، كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ)  ( الفتح  27)

وقوله تعالى :( وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (الروم : 3 ).

وقوله تعالى :(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة : 33 )

وقوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور : 55 )

-وقوله تعالى :( إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( 1 ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ( 2 ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ( 3 ) –(النصر)   

فكان جميع هذا ، كما قال ...فغلبت الروم فارس في بضع سنين ، ودخل الناس في الإسلام أفواجاً ، فما مات r وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام .واستخلف الله المؤمنين في الأرض ، ومكَّن فيها دينهم ، و ملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب ، كما قال r : زويت إلى الأرض ، فأريت مشارقها و مغاربها ، و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها .

-وقوله : ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر : 9 ) ، فكان كذلك ، لا يكاد يعد من سعى في تغييره وتبديل محكمه من الملحدة والمعطلة ، لا سيما القرامطة ، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم ، اليوم نيفاً على خمسمائة عام ، فما قدروا على إطفاء شيء من نوره ، ولا تغيير كلمة من كلامه ، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه ، و الحمد لله .

ومنه قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر : 45 )    
-وقوله:(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) (التوبة  14 )  
وقوله:(هُوَالَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة 33 )

 وقوله: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ) (آل عمران : 111 ).

 فكان كل ذلك .وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود ، ومقالهم وكذبهم في حلفهم ، وتقريعهم بذلك ،

كقوله:(وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (المجادلة 8)

وقوله : (يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران : 154 ).

وقوله:( َمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة  41)

وقوله : (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي  ) (النساء : 46 ).

وقد قال مبدياً ، ما قدَّره الله واعتقده المؤمنون يوم بدر : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) (الأنفال : 7 )

ومنه قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر : 95 ).

ولما نزلت بشر النبي r بذلك أصحابه بأن الله كفاه إياهم ، وكان المستهزئون نفراً بمكة ينفرون الناس عنه و يؤذونه فهلكوا .

وقوله (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ  ) (المائدة : 67 ).

فكان كذلك على كثرة من رام ضره ، وقصد قتله ، والأخبار بذلك معروفة صحيحة .

الفصل السادس
في إعجاز القرآن ـ الوجه الرابع : ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، و الأمم البائدة ، و الشرائع الداثرة

الوجه الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، و الأمم البائدة ، و الشرائع الداثرة ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أخبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك ، فيورده النبي r على وجهه ، ويأتي به على نصه ، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه ، وأن مثله لم ينله بتعليم .
وقد علموا أنه
r أمي لا يقرأ ولا يكتب ، ولا اشتغل بمدارسة ولا مثافنة ، ولم يغب عنهم ، ولا جهل حاله أحد منهم .

وقد كان أهل الكتاب كثيراًما يسألونه ـ r ـ عن هذا ، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً ، كقصص الأنبياء مع قومهم ، وخبر موسى والخضر ، ويوسف وإخوته ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين، ولقمان وابنه ، وأشباه ذلك من الأنبياء  والقصص ، وبدء الخلق وما في التوراة ، والإنجيل ، والزبور ،   وصحف إبراهيم وموسى ، مما صدقه فيه العلماء بها ، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها ، بل أذعنوا لذلك ، فمن موفق آمن بما سبق له من خير ، ومن شقي معاند حاسد ، ومع هذا لم يحك عن واحد من النصارى واليهود على شدة عداوتهم له ، وحرصهم على تكذيبه ، وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم ، وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم ، وكثرة سؤالهم له r ، وتعنيتهم إياه ـ عن أخبار أنبيائهم ،      وأسرار علومهم ، ومستودعات سيرهم ، وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم ومضمنات كتبهم ، مثل سؤالهم عن الروح ، وذي القرنين ، وأصحاب الكهف ، وعيسى ، وحكم الرجم وما حرم إسرائيل على نفسه ، وما حرم عليهم من الأنعام ، ومن طيبات أحلت لهم فحرمت عليهم ببغيهم .

وقوله : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح : 29 ) وغير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن ، فأجابهم وعرفهم بما أوحى إليه من ذلك أنه أنكر ذلك أو كذبه ، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته ، وصدق مقالته ، واعترف بعناده وحسدهم إياه ، كأهل بجران ، وابن صوريا ، وابني أخطب وغيرهم .
ومن باهت في ذلك بعض المباهتة ، وادعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفةً ـ دعي إلى إقامة حجته ، وكشف دعوته ، فقيل له : (قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 93 ) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 94 ). (آل عمران  )
فقرع ووبَّخ ، ودعا إلى إحضار ممكن غير ممتنع ، فمن معترف بما جحده ، ومتواقح يلقي على فضيحته من كتابه يده . و لم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خلاف قوله من كتبه ، ولا أبدى صحيحاً ولا سقيماً من صفحه ،

 قال الله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( 15 ) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 16 ) -المائدة .

                                             الفصل السابع

                         هذه الوجوه الأربعة من الإعجاز لا نزاع فيها ولا مرية

هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها ولا مرية .
ومن الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في قضايا ، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك ، كقوله لليهود : (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة : 94 ) (وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) (البقرة : 95 )

-قال أبو إسحاق الزجاج : في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة ، لأنه قال : ( فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ ) ، وأعلمهم أنهم ( َلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ) ، فلم يتمنه واحداً منهم .

-وعن النبي r : والذي نفسي بيده لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه . يعني يموت مكانه .

فصرفهم الله عن تمنيه وجزعهم ، ليظهر صدق رسوله ، وصحة ما أوحي إليه ، إذا لم يتمنه أحد منهم ، وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ، ولكن الله يفعل ما يريد ، فظهرت بذلك معجزته ، وبانت حجته .

-قال أبو محمد الأصيلي : من أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ، ولا واحد ، من يوم أمر الله بذلك نبيه r ـ يقدم عليه ، ولا يجيب إليه . وهذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم .

وكذلك آية المباهلة من هذا المعنى ، حيث وفد عليه أساقفة نجران وأبوْا الإسلام ، فأنزل الله تعالى عليه آية المباهلة بقوله : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران : 61 ).
فامتنعوا منها ، ورضوا بأداء الجزية ، وذلك أن العاقب عظيمهم قال لهم : قد علمتم أنه نبي ، وأنه ما لاعن قوماً نبي قط فبقي كبيرهم ولا صغيرهم .

ومثله قوله : ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة 23-24).

فأخبرهم أنهم لا يفعلون ، كما كان .

وهذه الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ، ولكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها .

الفصل  الثامن
من وجوه الإعجاز : الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه ، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته

ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه ، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله ، وإنافة خطره ،وهي على المكذبين به أعظم ، حتى كانوا يستثقلون سماعه ،( وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً) (الإسراء : 41 )، كما قال تعالى ، و يودون انقطاعه لكراهتهم له .
و لهذا قال
r : إن القرآن صعب مستصعب على من كرهه ، وهو الحكم ، وأما المؤمن فلا تزال روعته به ، وهيبته إياه ، مع تلاوته ـ توليه انجذاباً ، وتكسبه هشاشة ، لميل قلبه إليه ، وتصديقه به ، قال تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر : 23 )

وقال : (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر : 21)

ويدل على أن هذا شيء خص به ـ أنه يعتري من لا يفهم معانيه ، ولا يعلم تفاسيره ، كما روي عن نصراني ـ أنه مر بقارئ ـ فوقف يبكي ، فقيل له : مم بكيت ؟ قال : للشجا والنظم .

وهذه الروعة قد اعترت جماعةً قبل الإسلام وبعده ، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة وآمن به ، ومنهم من كفر .

-فحكي في الصحيح ، عن جبير بن مطعم ، قال : سمعت النبي r يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية :( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( 35 ) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ( 36 ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ( 37 )) -  كاد قلبي أن يطير للإسلام .

-وفي رواية : و ذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي .

-وعن عتبية بن ربيعة أنه كلم النبي r فيما جاء به من خلاف قومه ، فتلا عليهم :( حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ *)( سورة فصلت : 1 – 13) .
فامسك عتبة بيده على في النبي
r ، و ناشده الرحم أن يكف .

-وفي رواية : فجعل النبي r يقرأ وعتبة مصغ ملق يديه خلف ظهره ، معتمد عليهما ، حتى انتهى إلى السجدة ، فسجد النبي r ، وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ، ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه ، فاعتذر لهم ، وقال : والله لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له .

-وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة وهيبة كف بها عن ذلك .
فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه ، وشرع فيه ، فمر بصبي يقرأ : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود : 44 ) ـ فرجع فمحا ما عمل ، وقال : أشهد أن هذا لا يعارض ، وما هو من كلام البشر ، وكان من أفصح أهل وقته .

-وكان يحيى بن حكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه ، فحكي أنه رام شيئاً من هذا فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها ، وينسج ـ بزعمه ـ على منوالها ـ قال : فاعترتني خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة .

الفصل التاسع
ومن وجوه إعجازه المعدودة كونه آيةً باقيةً لا تعدم ما بقيت الدنيا

-ومن وجوه إعجازه المعدودة كونه آيةً باقيةً لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر : 9 ) وقال : ((لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : 42 )

 -وسائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها ، فلم يبق إلا خبرها ، والقرآن العزيز ، الباهرة آياته ، الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم ـ مدة خمسمائة عام و خمس و ثلاثين سنةً لأول نزوله إلى    وقتنا هذا ـ حجته قاهرة ، ومعارضته ممتنعة ، والأعصار كلها طافحة بأهل البيان ، وحملة علم اللسان ، وأئمة البلاغة ، وفرسان الكلام ، وجهابذة البراعة ، والملحد فيهم كثير ، والمعادي للشرع عتيد ، فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته ، ولا ألف كلمتين في مناقضته ، ولا قدر فيه على مطعن صحيح ، ولا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح ، بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه  والنكوص على عقبيه .

الفصل العاشر
في وجوه أخرى للإعجاز

و قد عد جماعةً من الأثمة ومقلدي الأمة في إعجازه وجوهاً كثيرةً ، منها أن قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه ، بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوةً ، وترديده يوجب له محبةً ، لا يزال غضاً  طرياً ، وغيره من الكلام ـ و لو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه ـ يمل مع الترديد ، ويعادى إذا أعيد ، وكتابنا يستلذ به في الخلوات ، ويونس بتلاوته في الأزمات ، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك ، حتى أحدث أصحابها لحوناً وطرقاً يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراء تها .
ولهذا وصف رسول الله
r القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عبره ، ولا تفنى عجائبه ، هو الفصل ليس بالهزل ، لا يشبع منه العلماء ، ولا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، هو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا :( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ( 1 ) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ( 2 ))  - الجن   1 ، 2 ) .
ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامةً ولا محمد
r قبل نبوته خاصة ، بمعرفتها ، ولا القيام بها ، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم ، فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، والتنبيه على طرق الحجج العقليات ، والرد على فرق الأمم ، ببراهين قوية ، وأدلة بينة سهلة الألفاظ ، موجزة المقاصد ، رام المتخذلقون بعد ـ أن ينصبوا أدلةً مثلها فلم يقدروا عليها كقوله تعالى : ((أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يس : 81 )
و :
(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس : 79 ).
و : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء : 22 ).

إلى ما حواه من علوم السير ، وأنباء الأمم ، والمواعظ ، والحكم ، وأخبار الدار الآخرة ، ومحاسن الآداب والشيم .

-قال الله ـ جل اسمه ـ : (ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ  ) (الأنعام : 38 )  

-وقال : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل : 89 ).

-وقال : (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) (الروم : 58 ).

-وقال r: إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجراً ، وسنةً خاليةً ، ومثلاً مضروباً ، فيه نبؤكم ، وخبر ما كان قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، لا يخلقه طول الرد ، و ا تنقضي عجائبه ، هو الحق ليس بالهزل ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به فلج ، ومن قسم به أقسط ، ومن عمل به أجر ، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم ، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله ، ومن حكم بغيره قصمه الله ، هو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، والصراط المستقيم ، وحبل الله المتين ، والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه ، لا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد .

-ونحوه عن ابن مسعود ، وقال فيه : ولا يختلف ولا يتشانّ ، فيه نبأ الأولين والآخرين .

-وفي الحديث : قال الله تعالى لمحمد r :إني منزل عليك توراة حديثة ، تفتح بها أعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً ، فيها ينابيع العلم ، وفهم الحكمة ، وربيع القلوب .

و عن كعب : عليكم بالقرآن ، فإنه فهم العقول ،ونور الحكمة .

-وقال الله تعالى : ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (النمل : 76 )

-وقال :(هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) (آل عمران : 138 ).

فجمع فيه مع وجازة ألفاظه ، وجوامع كلمة أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضعف منه مرات .
ومنها جمعه فيه بين الدليل ومدلوله ، وذلك أنه احتج بنظم القرآن ، وحسن رصفه وإيجازه وبلاغته ،    وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، فالتالي له يفهم موضع الحجة والتكليف معاً من كلام واحد و سورة منفردة .

-ومنها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ، ولم يكن في حيز المنشور ، لأن المنظوم أسهل على النفوس ، وأوعى للقلوب ، وأسمع في الآذان ، وأحلى على الأفهام ، فالناس إليه أميل ، والأهواء إليه أسرع .

-ومنها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه ، وتقريبه على متحفظيه ، قال الله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر : 17 ...)
وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم ، فكيف الجماء على مرور السنين عليهم . والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة .

-ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضاً ، وحسن ائتلاف أنواعها ، والتئام أقسامها ، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى ، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه ، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي ،  وخبر واستخبار، ووعد ووعيد ، وإثبات نبوة ، وتوحيد و تفريد ، وترغيب وترهيب ، إلى غير ذلك من فوائده ، دون خلل يتخلل فصوله .

والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته ، ولانت جزالته ، وقل رونقه ، وتقلقت ألفاظه .
فتأمل أول سورة ( ص ) –( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 )  ، وما جمع فيها من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ،  وما ذكر من تكذيبهم بمحمد
r ، وتعجبهم مما أتى به ، والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر وما ظهر من الحسد في كلامهم ، و تعجيزهم و توهينهم ،و وعيدهم بخزي الدنيا و الأخرة ،و تكذيب الأمم قبلهم ،و إهلاك الله لهم ، و وعيد هؤلاء مثل مصابهم ، و تصبير النبي علىأذاهم و تسليته بكل ما تقدم ذكره ، ثم أخذ في ذكر داود و قصص الأنبياء ، كل هذا في أوجز كلام     وأحسن نظام .

-ومنه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة ، وهذا كله وكثير مما ذكرنا أنه ذكر في إعجاز القرآن ، إلى وجوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها ، إذ أكثرها داخل في باب بلاغته ، فلا يجب أن يعد فناً منفرداً في إعجازه ،إلا في باب تفضيل فنون البلاغة ، وكذلك كثير مما قدمنا ذكره عنهم يعد في خواصه  وفضائله ، لا إعجازه .

وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا ، فليعتمد عليها ، وما بعدها من خواص القرآن وعجائبه التي لا تنقضي. والله ولي التوفيق .

الفصل  الحادي عشر
في انشقاق القمر وحبس الشمس

قال الله تعالى:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ( 1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ( 2)- القمر

-أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي ، وإعراض الكفرة عن آياته ، وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه .

-أخبرنا الحسين بن محمد الحافظ من كتابه ، حدثنا القاضي سراج بن عبد الله ، حدثنا الأصيلي ، حدثنا المروزي ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحي ، عن شعبة ، و سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله r فرقتين : فرقة فوق الجبل ، و فرقة دونه ، فقال رسول الله r :اشهدوا

-وفي رواية مجاهد :و نحن مع النبي r

-وفي بعض طرق الأعمش : ونحن بمنى .

-ورواه أيضاً ـ عن ابن مسعود ـ الأسود ، وقال : حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر .

-ورواه عنه مسروق ـ أنه كان بمكة ـ و زاد : فقال كفار قريش : سحركم ابن أبي كبشة !
فقال رجل منهم : إن محمداً إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها ، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر : هل رأوا هذا ؟ فأتوا ، فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك .

-وحكى السمرقندي عن الضحاك نحوه ، وقال : فقال أبو جهل : هذا سحر ، فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا : أرأوا ذلك أم لا ؟ فأخبرأهل الآفاق أنهم رأوه منشقاً ، فقالوا ـ يعني الكفار : هذا سحر مستمر .

-ورواه أيضاً ـ عن ابن مسعود ـ علقمة ، فهؤلاء أربعة عن عبد الله .

-وقد رواه غير ابن مسعود ، كما رواه ابن مسعود ، منهم أنس ، وابن عباس وابن عمر ، وحذيفة ،     وعلي ، وجبير بن مطعم ، فقال علي ـ من رواية أبي حذيفة الأرحبي : انشق القمر و نحن مع النبي r.  
-وعن أنس : سأل أهل مكة النبي
r أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهم   
رواه عن أنس قتادة .

-وفي رواية معمر وغيره ، عن قتادة ، عنه : أراهم القمر مرتين انشقاقه ، فنزلت :( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 ) (سورة القمر   1 ) .

-ورواه عن جبير بن مطعم ابنه محمد و ابن ابنه جبير بن محمد .

-ورواه عن ابن عباس عبيد الله بن عبد الله بن عتبة .

-ورواه عن ابن عمر مجاهد ، ورواه عن حذيفة أبو عبدالرحمن السلمي ومسلم بن أبي عمران الأزدي  
وأكثر طرق هذه الأحاديث صحيحة ، والآية مصرحة ، ولا يلتفت إلى اعتراض مخذول ، بأنه لو كان هذا لم يخْف على أهل الأرض ، إذ هو شيء ظاهر لجميعهم ، إذ لم ينقل لنا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق ، ولو نقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم ـ لكثرتهم ـ على الكذب ، لما كانت علينا به حجة ، إذ ليس القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض ، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين ،    وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض ، أو يحول بين قوم و بينه سحاب أو جبال ، ولهذا نجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض ، وفي بعضها جزئية ، وفي بعضها كلية ، وفي بعضها لا يعرفها إلا المدعوون لعلمها ،( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام : 96 ).
وآية القمر كانت ليلاً ، والعادة من الناس بالليل الهدو والسكون وإيجاف الأبواب ، وقطع التصرف ، ولا يكاد يعرف من أمور السماء شيئاً ، إلا من رصد ذلك ، واهتبل به
ولذلك ما يكون الكسوف القمري كثيراً في البلاد ، وأكثرهم لا يعلم به حتى ينجز ، وكثيراً ما يحدث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار ونجوم طوالع عظام تظهر في الأحيان بالليل في السماء ، ولا علم عند أحد منها .

-وخرج الطحاوي ـ في مشكل الحديث ، عن أسماء بنت عميس من طريقين ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوحي إليه ، و رأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس ، فقال النبي r : أصليت ياعلي ؟ قال :لا .
فقال : اللهم إنه كان في طاعتك و طاعة رسولك فاردد عليه الشمس .
قالت أسماء : فرأيتها غربت ، ثم طلعت بعد ما غربت ، ووقفت على الجبال والأرض ، وذلك بالصهباء في خيبر .

قال وهذان الحديثان ثابتان ورواتهما ثقات .

-وحكى الطحاوي أن أحمد بن صالح كان يقول : لا ينبغي لمن يكون سبيله العلم المتخلف عن حفظ حديث أسماء ، لأنه من علامات النبوة .

-وروى يونس بن بكير في زيادة المغازي في روايته عن ابن إسحاق : اما أسري برسول الله r  ،     وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير قالوا : متى تجيء ؟ قال : يوم الأربعاء ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم تجيء ؟ فدعا رسول الله r ، فزيد له في النهار ساعة ،    وحبست عليه الشمس .

الفصل  الثاني عشر
في نبع الماء من بين أصابعه وتكثيره بركة

  -أما الأحاديث في هذا فكثيرة جداً .
-روى حديث نبع الماء من أصابعه
r جماعة من الصحابة ، منهم أنس ، وجابر ، وابن مسعود :
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر الفقيه بقراءتي عليه ، حدثنا القاضي عيسى بن سهل ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عمر بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا يحيى ، حدثنا مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : رأيت رسول الله
r  ، و حانت صلاة العصر ، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه ، فأتى رسول الله r بوضوء ، فوضع رسول الله r  في ذلك الإناء يده ، و أمر الناس أن يتوضئوا منه .
قال : فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه ، فتوضأ حتى توضئوا من عند آخرهم .


-ورواه أيضاً ـ عن أنس ـ قتادة ، و قال : بإناء فيه ماء يغمر أصابعه أو لا يكاد يغمر . -قال : كم كنتم ؟ قال : كنا زهاء ثلاثمائة .

-وفي رواية عنه : و هم بالزوراء عند السوق .

-ورواه أيضاً حميد ، و ثابت و الحسن ، عن أنس .

-وفي رواية حميد : قلت : كم كانوا ؟ قال : ثمانين .

-ونحوه عن ثابت عنه .

-وعنه أيضاً : وهم نحو من سبعين رجلاً .

وأما ابن مسعود ففي الصحيح من رواية علقمة : بينما نحن مع رسول الله r ، وليس معنا ماء ، فقال لنا رسول الله r : اطلبوا من معه فضل ماء ، فأتى بماء فصبه في إناء ، ثم وضع كفه فيه ، فجعل الماء  ينبع من بين أصابع رسول الله r .

-وفي الصحيح عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر رضي الله عنه : عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله r بين يديه ركوة ، فتوضأ منها ، وأقبل الناس نحوه ، وقالوا : ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك ، فوضع النبي r يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون .
وفيه : فقلت : كم كنتم ؟ قالوا : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة .

-وروي مثله عن أنس ، عن جابر ، وفيه أنه كان بالحديبية .

-وفي رواية الوليد بن عبادة الصامت عنه ، في حديث مسلم الطويل في ذكر غزوة بواط قال :
قال لي رسول الله
r : يا جابر ، ناد ، الوضوء . . . و ذكر الحديث بطوله ، وأنه لم يجد إلا قطرة في عزلاء شجب ، فأتي به النبي r ، فغمزه وتكلم بشيء لا أدري ما هو ، وقال : ناد بجفنة الركب ، فأتيت بها ، فوضعتها بين يديه ، وذكر أن النبي r بسط يده في الجفنة ، وفرق أصابعه ، وصب جابر عليه ، وقال : بسم الله ، كما أمره r ، قال : فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت ، وأمر الناس بالإستقاء ، فاستقوا حتى رووا .
فقلت : هل بقي أحد له حاجة ؟ فرفع رسول الله
r يده من الجفنة وهي ملائ .

-وعن الشعبي : أتي النبي r في بعض أسفاره بإداوة ماء ، وقيل : ما معنا يا رسول الله ماء غيرها ، فسكبها في ركوة ، ووضع إصبعه وسطها ، وغمسها في الماء ، وجعل الناس يجيئون ويتوضئون ثم يقومون .

قال الترمذي وفي الباب ، عن عمران بن حصين .

-ومثل هذا في هذه المواطن الحفلة والجموع الكثيرة لا تتطرق التهمة إلى المحدث به ، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه ، لما جبلت عليه النفوس من ذلك ، ولأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل ، فهؤلاء قد رووا هذا ، وأشاعوه ، ونسبوا حضور الجماء الغفير له ، ولم ينكر أحد من الناس عليهم ما حدثوا به عنهم أنهم فعلوا وشاهدوه ، فصار كتصديق جميعهم له .

الفصل الثالث عشر
ومــمــا يــشــبــه هــذا مـن مـعـجـزا تــه

ومما يشبه هذا من معجزاته تفجير الماء  ببركته ، وانبعاثه بمسه ودعوته فيما روى مالك في الموطأ عن معاذ بن جبل في قصة غزوة تبوك ، وأنهم وردوا العين وهي تبض بشيء من ماء مثل الشراك ، فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع في شيء ، ثم غسل رسول الله r  فيه وجهه ويديه ، وأعادة فيها ، فجرت بماء كثير ، فاستقى الناس .

-قال ـ في حديث ابن إسحاق : فانخرق من الماء ما له حس كحس الصواعق . ثم قال : يوشك يا معاذ ، إن طالت بك حياة أن ترى ها هنا قد مليء جناناً .

-وفي حديث البراء ، ومسلمة بن الأكوع ـ وحديثه أتم ـ في قصة الحديبية ، وهم أربع عشرة مائة ،    وبئرها لا تروي خمسين شاة ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فقعد رسول الله r   على جباها .
قال البراء ، و أتي بدلو منها ، فبصق  فدعا .
وقال سلمة : فإما دعا ، وإما بصق فيها ، فجاشت ، فأرووا أنفسهم وركابهم .

-وفي غير هاتين الروايتين ـ في هذه القصة ـ من طريق ابن شهاب ، في الحديبية  :
فأخرج سهماً من كنانته ، فوضع في قعر قليب ليس فيه ماء ؟ فروي الناس حتى ضربوا بعطن .

-وعن أبي قتادة ـ وذكر أن الناس شكوا إلى رسول الله r  العطش في بعض أسفاره ، فدعا بالميضأة  فجعلها في ضَبْنِه ، ثم التقم فمها ، فالله أعلم ـ نفث فيها أم لا ، فشرب الناس حتى رووا وملئوا كل إناء معهم ، فخيل إلي أنها كما أخذها مني ، وكانوا اثنين و سبعين رجلاً .

-وروى مثله عمران بن حصين .

-وذكر الطبري حديث أبي قتادة على غير ما ذكره أهل الصحيح ـ و أن النبي r  خرج بهم ممداً لأهل مؤتة عندما بلغه قتل الأمراء :
وذكر حديثاً طويلاً فيه معجزات وآيات للنبي
r  ، وفيه إعلامهم أنهم يفقدون الماء في غد .
وذكر حديث الميضأة ، قال : والقوم زهاء ثلاثمائة .
وفي كتاب مسلم أنه قال لأبي قتادة : احفظ علي ميضأتك ، فإنه سيكون لها نبأ .. و ذكر نحوه .

-ومن ذلك حديث عمران بن حصين حين أصاب النبي r   وأصحابه عطش في بعض أسفارهم ، فوجه رجلين من أصحابه ، وأعلمهما أنهما يجدان امرأةً بمكان كذا معها بعير عليه مزادتان . . . الحديث ، فوجداها وأتيا بها إلى النبي r ، فجعل في إناء من مزادتيها ، وقال فيه ما شاء الله أن يقول ، ثم أعاد الماء في المزادتين ، ثم فتحت عزاليهما ، وأمر الناس فملئوا أسقيتهم حتى لم يدعوا شيئاً إلا ملئوه .
قال عمران : و تخيل إلي أنهما لم تزدادا إلا امتلاءً ، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها .    وقال : اذهبي ، فإنا لم نأخذ من مائك شيئاً ، و لكن الله سقانا . . . الحديث بطوله .

-وعن سلمة بن الأكوع : قال نبي الله r   : هل من وضوء ؟ فجاء رجل بإداوة فيها نطفة فأفرغها في قدح ، فتوضأنا كلنا نُدَغْفِقُه دغْفقةً أربع عشرة مائة . . .  الحديث بطوله  .

-وفي حديث عمر ـ في جيش العسرة : وذكر ما أصابهم من العطش ، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فرثه فيشربه ، فرغب أبو بكر إلى النبي r   في الدعاء ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت ، فملئوا ما معهم من آنية ، ولم تجاوز العسكر .

-وعن عمر بن شعيب ـ أن أبا طالب قال للنبي r  ، وهو رديفه بذي المجاز : عطشت وليس عندي ماء ، فنزل النبي r   ، وضرب بقدمه الأرض ، فخرج الماء ، فقال : اشرب .
والحديث في هذا الباب كثير ، ومنه الإجابة بدعاء الاستسقاء وما جانسه .

                                         الفصل الرابع عشر

                         ومـن معجـزاته تكثـيـر الطعـام ببـركته ودعائـه

*حدثنا القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، حدثنا العذري ، حدثنا الرازي ، حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا الحسن بن أعين ، حدثنا معقل ، عن أبي الزبير ، عن جابر ـ أن رجلاً أتى النبي r  يستطعمه ، فأطعمه شطر وسق شعير ، فما زال يأكل منه   وامرأته وضيفه حتى كالَه ، فأتى النبي r ، فأخبره ، فقال : لو لم تكِلْه لأكَلتم منه ولقام بكم .

-ومن ذلك حديث أبي طلحة المشهور ، وإطعامه r ثمانين أو سبعين رجلاً من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت يده ، أي إبطه ، فأمر بها ففُتِّت ، و قال فيهما ما شاء الله أن يقول .

-وحديث جابر في إطعامه r  يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق .
وقال جابر : فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا ، وإن برمتنا لتغط كما هي ، وإن عجيننا ليخبز .
وكان رسول الله
r  بصق في العجين والبرمة ، وبارك .
رواه عن جابر سعيد بن ميناء ، و أيمن .

 -وعن ثابت مثله ، عن رجل من الأنصار وامرأته ، ولم يسمهما ، قال : و جيء بمثل الكف ، فجعل رسول الله r  يبسطها في الإناء ويقول ما شاء الله ، فأكل منه من في البيت والحجرة والدار ، وكان ذلك قد امتلأ ممن قدم معه r  لذلك ، وبقي بعد ما شبعوا مثل ما كان في الإناء  .

وحديث أبي أيوب أنه صنع لرسول الله r  ولأبي بكر من الطعام زهاء ما يكفيهما ، فقال له النبي r : ادع ثلاثين من أشراف الأنصار فدعاهم فأكلوا حتى تركوا ، ثم قال : ادع ستين فكان مثل ذلك ، ثم قال : ادع سبعين فأكلوا حتى تركوا ، وما خرج منهم أحد حتى أسلم وبايع .
قال أبو أيوب : فأكل من طعامي مائة وثمانون رجلاً .

-وعن سمرة بن جندب : أتى النبي r  بقصعة فيها لحم ، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل ، يقوم قوم   ويقعد آخرون .

-ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي بكر : كنا مع النبي r  ثلاثين ومائة ، وذكر في الحديث أنه عجن صاع من طعام ، وصنعت شاة ، فشوي سواد بطنها قال : وأيم الله ، ما من الثلاثين ومائة إلا وقد حز له حزةً من سواد بطنها ثم جعل منا قصعتين ، فأكلنا منها أجمعون ، وفضل في القصعتين ، فحملته على البعير .

-ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، عن أبيه ، ومثله لسلمة بن الأكوع ، وأبي هريرة   وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبي r  في بعض مغازيه ، فدعا ببقية الأزواد ، فجاء الرجل بالحثية من الطعام ، وفوق ذلك ، وأعلاهم الذي أتى بالصاع من التمر ، فجمعه على نطع . قال سلمة : فحزرته كربضة العنز ، ثم دعا الناس بأوعيتهم ، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملؤوه وبقي منه .

-وعن أبي هريرة : أمرني النبي r  أن ادعو له أهل الصفة ، فتتبعتهم حتى جمعتهم ، فوضعت بين أيدينا صفحة ، فأكلنا ما شئنا ، وفرغنا وهي مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع .
-وعن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : جمع رسول الله
r  بني عبد المطلب ، وكانوا أربعين ، منهم قوم يأكلون الجذعة ، و يشربون الفرق ، فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا ، وبقي كما هو  ثم دعا بعس ، فشربوا حتى رووا ، وبقي كأنه لم يشرب منه .

-وقال أنس : إن النبي r  حين ابتنى بزينب أمره أن يدعو له قوماً سماهم ، وكل من لقيت ، حتى امتلأ البيت والحجرة ، وقدم إليهم تورا ، فيه قدر مد من تمر جعل حيساً ، فوضعه قدامه ، وغمس ثلاث أصابعه  وجعل القوم يتغدون ويخرجون ، وبقي التور نحواً مما كان ، وكان القوم أحداً ، أو اثنين وسبعين .

-وفي رواية أخرى في هذه القصة أو مثلها ، إن القوم كانوا زهاء ثلاثمائة ، وأنهم أكلوا حتى شبعوا .   وقال لي : ارفع ، فلا أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .

-و في حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ـ أن فاطمة طبخت قدراً لغذائها      ووجهت علياً إلى النبي r  ليتغدى معهما ، فأمر فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحةً ، ثم له r   ولعلي ، ثم لها ، ثم رفعت القدر ، وإنها لتفيض ، قال : فأكلنا منها ما شاء الله .

-وأمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من أحمس ، فقال : يا رسول الله ، ما هي إلا أصوع . قال : اذهب ، فذهب فزودهم منه ، و كان قدر الفصيل الرابض ، من التمر ، وبقي بحاله . -من رواية دكين الأحمسي ، و من رواية جرير .

-ومثله من رواية النعمان بن مقرن الخبر بعينه ، إلا أنه قال : أربعمائة راكب من مزينة .

-ومن ذلك حديث جابر في دين أبيه بعد موته ، وقد كان بذل لغرماء أبيه أصل ماله ، فلم يقبلوه ، ولم يكن في تمرها سنين كفاف دينهم ، فجاءه النبي r  بعد أن أمره بجدها ، وجعلها بيادر في أصولها ، فمشى فيها ، ودعا ، فأوفى منه جابر غرماء أبيه ، وفضل مثل ما كانوا يجدون كل سنة .

-وفي رواية مثل ما أعطاهم ، قال : و كان الغرماء يهود ، فعجبوا من ذلك .

-وقال أبو هريرة رضي الله عنه : أصاب الناس مخمصة . فقال لي رسول الله r : هل من شيء قلت : نعم ، شيء من التمر في المزود . قال : فأتني به ، فأدخل يده فأخرج قبضة ، فبسطها ودعا بالبركة ، ثم قال : ادع عشرة فأكلوا حتى شبعوا ، ثم عشرة كذلك ، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا . قال : خذ ما جئت به ، وأدخل يدك ، واقبض منه ولا تكبه ، فقبضت على أكثر مما جئت به ، فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله r ، وأبي بكر ، وعمر ، إلى أن قتل عثمان ، فانتهب مني ، فذهب .
-وفي رواية: فقد حملت من ذلك التمر كذا و كذا من و سق في سبيل الله .  

-وذكرت مثل هذه الحكاية في غزوة تبوك ، وأن التمر كان بضع عشرة تمرة .

-ومنه أيضاً حديث أبي هريرة حين أصابه الجوع ، فاستتبعه النبي r، فوجد لبناً في قدح قد أهدي إليه  وأمره أن يدعو أهل الصفة .قال :فقلت :ما هذا اللبن فيهم؟ كنت أحق أن أصيب منه شربة أتقوى بها فدعوتهم .وذكر أمر النبي r  أن يسقيهم ، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يأخذه الأخر حتى روي جميعهم . قال : فأخذ النبي r  القدح ، وقال : بقيت أنا وأنت ،اقعد فاشرب، فشربت ، ثم قال : اشرب  ،وما زال يقولها وأشرب حتى قلت : لا ، و الذي بعثك بالحق ، ما أجد له مسلكاً  ،فأخذ القدح فحمد الله و سمى وشرب الفضلة .

-وفي حديث خالد بن عبد العزى أنه أجزر النبي r  شاةً ، وكان عيال خالد كثيراً يذبح الشاة فلا تُبِدُّ عيالَه عظماً عظماً ، و إن النبي r أكل من هذه الشاة وجعل فضلتها في دلو خالد ، ودعا له بالبركة ، فنثر ذلك لعياله ، فأكلوا وأفضلوا ـ ذكر خبره الدولابي .

-وفي حديث الآجري في إنكاح النبي r  لعلي فاطمة ـ أن النبي r  أمر بلالاً بقصعة من أربعة أمداد أو خمسة ، ويذبح جزوراً ليوليمتها ـ قال : فأتيته بذلك فطعن في رأسها ، ثم أدخل الناس رُفقةً رُفقةً يأكلون منها حتى فرغوا ، وبقيت منها فضلة ، فبرَّك فيها ، وأمر بحملها إلى أزواجه ، وقال : كلن       وأطعمن من غشيكن .

-وفي حديث أنس : تزوج رسول الله r ، فصنعت أمي أم سليم حيساً ، فجعلته في تور ، فذهبت به إلى رسول الله r ، فقال : ضعه ، وادع لي فلاناً و فلاناً ، ومن لقيت .
فدعوتهم ، ولم أدع أحداً لقيته إلا دعوته ، وذكر أنهم كانوا زهاء ثلاثمائة حتى ملئوا الصفة والحجرة ، فقال لهم النبي
r : تحلقوا عشرة عشرة ، ووضع النبي r  يده على الطعام ، فدعا فيه ، وقال ما شاء الله أن يقول ، فأكلوا حتى شبعوا كلهم ، فقال لي : ارفع فما أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .

-وأكثر أحاديث هذه الفصول الثلاثة في الصحيح . وقد اجتمع على معنى حديث هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة ، رواه عنهم أضعافهم من التابعين ، ثم من لا ينعد بعدهم .
وأكثرها في قصص مشهورة ، ومجامع مشهودة ، ولا يمكن التحدث عنها إ لا بالحق ، ولا يسكت الحاضر لها على ما أنكر منها .

الفصل  الخامس عشر
في كلام الشجرة وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته

* حدثنا أحمد بن محمد بن غلون الشيخ الصالح فيما أجاز فيه عن أبي عمر الطلمنكي ، عن أبي بكر بن المهندس ، عن أبي القاسم البغوي ، حدثنا أحمد بن عمران الأخنسي ، حدثنا أبو حيان التيمي ـ وكان صدوقاً ،عن مجاهد ،عن ابن عمر،قال : كنا مع رسول الله r في سفره ، فدنا منه أعرابي ، فقال :يا أعرابي ، أين تريد ؟ قال : إلى أهلي . قال : هل لك إلى خير ؟ قال : وما هو ؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ـ قال : من يشهد لك على ما تقول ؟ قال : هذه الشجرة السمرة ، وهي بشاطئ الوادي ، وادعُها فإنها تجيبك .
فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه ، فاستشهدها ثلاثاً ، فشهدت أنه كما قال ، ثم رجعت إلى مكانها .

-وعن بريدة : سأل أعرابي النبي r آية ، فقال له : قل لتلك الشجرة رسول الله  rيدعوك .
قال : فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها ، فتقطعت عروقها ، ثم جاءت  تخد الأرض تجر مغبرةً حتى وقفت بين يدي رسول الله
r ، فقالت : السلام عليك يا رسول الله .
قال الأعرابي : مرها فلترجع إلى منبتها ، فرجعت ، فدلت عروقها فاستوت .
فقال الأعرابي : ائذن لي أسجد لك .
قال : لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها .
قال : فأذن لي أن أقبل يديك ورجليك ، فأذن له .

-وفي الصحيح في حديث جابر بن عبد الله الطويل : ذهب رسول الله r يقضي حاجته ، فلم ير شيئاً يستتر به ، فإذا بشجرتين في شاطىء الوادي ، فانطلق رسول الله r إلى إحداهما ، فأخذ بغصن من أغصانها ، فقال : انقادي علي بإذن الله  ، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده .
وذكر أنه فعل بالأخرى مثل ذلك ، حتى إذا كان بالمصنف بينهما قال : التئما علي بإذن الله ،فالتأمتا .

-رواية أخرى : فقال : يا جابر ، قل لهذه الشجرة : يقول لك رسول الله r : الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما ففعلت ، فزحَفت حتى لحِقت بصاحبتها فجلس خلفهما ، فخرجت أحضِر ، وجلست أحدث نفسي ، فالتفت فإذا برسول الله r مقبلاً والشجرتان قد افترقتا ، فقامت كل واحدة منهما على ساق ، فوقف رسول الله r وقفةً ، فقال برأسه هكذا يميناً وشمالاً .

-وروى أسامة بن زيد نحوه ، قال : قال رسول الله r في بعض مغازيه : هل يعني مكاناً لحاجة رسول الله r ؟ فقلت : إن الوادي ما فيه موضع بالناس . فقال : هل ترى من نخل أو حجارة ؟ قلت : أرى نخلات متقاربات . قال : انطلق وقل لهن : إن رسول الله r يأمركن أن تأتين لمخرج رسول الله r ، و قل للحجارة مثل ذلك .فقلت ذلك لهن ، فوالذي بعثه بالحق ، لقد رأيت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن     والحجارة يتعاقدن حتى صرن زكاماً خلقهن .فلما قضى حاجته قال لي : قل لهن يفترقن ، فو لذي نفسي بيده لرأيتهن و لحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن .

-وقال يعلى بن سيابة : كنت مع النبي r في مسير . . . وذكر نحواً من هذين الحديثين ، وذكر : فأمـر وديتين فانضمتا . و في رواية : أشاءتين .

-وعن غيلان بن سلمة الثقفي مثله : في شجرتين .

-وعن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله في غزاة حنين .

-وعن يعلى بن مرة ـ و هو ابن سيابة ـ أيضاً ، وذكر أشياء رآها من رسول الله r ، فذكر أن طلحة أو سمرةً جاءت فأطافت به ، ثم رجعت إلى منبتها ، فقال رسول r : إنها استأذنت أن تسلم علي .

-وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : آذنتِ النبيَّ r بالجن ليلةَ استمعوا له ـ شجرةٌُُ .

-وعن مجاهد ، عن ابن مسعود في هذا الحديث : إن الجن قالوا : من يشهد لك ؟ قال : هذه الشجرة . تعالى يا شجرة ، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع . . .

-وذكر مثل الحديث الأول أو نحوه .

*قال القاضي أبو الفضل : فهذا ابن عمر ، وبريدة ، وجابر ، وابن مسعود ، ويعلى بن مرة ، وأسامة بن زيد ، وأنس بن مالك ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وغيرهم ـ وقد اتفقوا على هذه القصة نفسها أو معناها . وقد رواها عنهم من التابعين أضعافهم ، فصارت في انتشارها من القوة حيث هي .
-وذكر ابن فورك أنه
r سار في غزوة الطائف ليلاً ، و هو وسن ، فاعترضته سدرة ، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما ، وبقيت على ساقين إلى وقتنا هذا ، وهي هناك معروفة معظمة .

-ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه ـ أن جبريل عليه السلام قال للنبي rـ ورآه حزيناً : أتحب أن أريك آية ؟ قال : نعم فنظر رسول الله r إلى شجرة من وراء الوادي ، فقال : ادع تلك الشجرة ، فجاءت تمشي حتى قا مت بين يديه . قال : مرها فلترجع ، فعادت إلى مكانها .

-وعن علي نحو هذا ، ولم يذكر فيها جبريل ، قال : اللهم أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها ، فدعا شجرة ... وذكر مثله .

-وحزنه r لتكذيب قومه و طلبه الآية لهم لا له .

-وذكر ابن إسحاق أن النبي r أرى ركانة مثل هذه الآية في شجرة دعاها فأتت حتى وقفت بين يديه ، ثم قال : ارجعي ، فرجعت .

-وعن الحسن أنه r شكا إلى ربه من قومه وأنهم يخوفونه ، وسأله آية يعلم بها ألا مخافة عليه ، فأوحى إليه ائت وادي كذا فيه شجرة ، فادع غصنا منها يأتك . ففعل ، فجاء يخط الأرض خطا حتى انتصب بين يديه ، فحبسه ما شاء الله ، ثم قال له :  ارجع كما جئت ،  فرجع ، فقال :  يا رب ، علمت أن لا مخافة علي  .

ونحو منه عن عمر ، وقال فيه : أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها ... وذكر نحوه .

-وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه r قال لأعرابي :  أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله ؟  قال : نعم ، فدعاه فجعل ينقر حتى أتاه . فقال : ارجع ، فعاد إلى مكانه
وخرجه الترمذي ، وقال : هذا حديث صحيح .

الفصل السادس عشر
فــي قــصــة حــنــيــن الـجـــذع

* ويعضد هذه الأخبار حديث أنين الجذع ، وهو في نفسه مشهور منتشر ، والخبر به متواتر ، قد خرجه أهل الصحيح ، ورواه من الصحابة بضعة عشر ، منهم أبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك    وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وسهل بن سعد ، وأبو سعيد الخدري وبريدة ، وأم سلمة ،      والمطلب بن أبي وداعة ، كلهم يحدث بمعنى هذا الحديث .قال الترمذي : و حديث أنس صحيح .

-قال جابر بن عبد الله : كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل ، فكان النبي rإذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار .

-وفي رواية أنس : حتى ارتج المسجد بخواره .

-وفي رواية سهل : وكثر بكاء الناس لما رأوا به .

-وفي رواية المطلب  وأبي  : حتى تصدع وانشق ، حتى جاء النبي r ، فوضع يده عليه فسكت .
زاد غيره : فقال النبي
r : إن هذا بكى لما فقد من الذكر .
وزاد غيره : والذي نفسي بيده : لو لم التزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة . تحزناً على رسول الله
r ، فأمر به r فدفن تحت المنبر .كذا في حديث المطلب ، وسهل بن سعد ، وإسحاق ، عن أنس .

-وفي بعض الروايات عن سهل : فدفنت تحت منبره ، أو جعلت في السقف  .

-وفي حديث أبي : فكان إذا صلى النبي r إليه ، فلما هدم المسجد أخذه أبي ، فكان عنده إلى أن أكلته الأرض ، وعاد رفاتاً .

-وذكر الإسفرايني أن النبي r دعاه إلى نفسه ، فجاء يخرق الأرض ، فالتزمه ، ثم أمره فعاد إلى مكانه  

-وفي حديث بريده : فقال رسول الله النبي r : إن شئت أدرك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ، ويكمل خلقك ، ويجدد لك خوص وثمرة ، وإن شئت أغرسك في الجنة ، فيأكل أولياء الله من ثمرك . ثم أصغى له r يسمع ما يقول . فقال : تغرسني في الجنة ، فيأكل مني أولياء الله ، و أكون في مكان لا أبلى فيه . فسمعه من يليه . فقال النبي r : قد فعلت ثم قال : اختار دار البقاء على دار الفناء .

فكان الحسن إذا حدث بهذا بكى ، وقال : يا عباد الله ، الخشبة تحن إلى رسول الله r شوقاً إليه لمكانه ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه . رواه ـ عن جابر ـ حفص بن عبيد الله و يقال : عبيد الله بن حفص ، و يمن ، و بو نضرة ، و بن المسيب ، وسعيد بن أبي كرب ، وكريب ، وأبو صالح .
ورواه عن أنس بن مالك الحسن ، وثابت ، وإسحاق بن أبي طلحة .
ورواه عن ابن عمر : نافع ، وأبو حية ، ورواه أبو نضرة ، وأبو الوداك ، عن أبي سعيد ، وعمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، وأبو حازم ، وعباس بن سهل ، عن سهل بن سعد ، وكثير بن زيد عن المطلب ، وعبد الله بن بريدة عن أبيه ، والطفيل بن أبي عن أبيه .

-قال القاضي أبو الفضل : فهذا حديث كما تراه خرجه أهل الصحة ، ورواه من الصحابة من ذكرنا ،      وغيرهم من التابعين ضعفهم ، إلى من لم نذكره ، وبمن دون هذا العدد يقع العلم لمن اعتنى بهذا الباب . و الله المثبت على الصواب .

الفصل السابع عشر
ومـثـل هـذا فـي سـائـر الـجـمـا دا ت

* حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التميمي ، حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن المرابط ، حدثنا المهلب ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا المروزي ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ،عن علقمة ، عن ابن مسعود ، قال : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل .

-وفي غير هذه الرواية عن ابن مسعود : كنا نأكل مع رسول الله r الطعام و نحن نسمع تسبيحه .

-وقال أنس : أخذ النبي r كفا من حصى ، فسبحن في  يد رسول الله r حتى سمعنا التسبيح ، ثم صبهن في يد أبي بكر رضي الله عنه فسبحن ، ثم في أيدينا فما سبحن .

-وروى مثله أبو ذر ، وذكر أنهن سبحن في كف عمر وعثمان .

-وقال علي كنا بمكة مع رسول الله r ،فخرج إلى بعض نواحيها ما استقبله شجرة ولا جبل إلا قال له : السلام عليك يا رسول الله .

-وعن جابر بن سمرة عنه r : إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي . قيل : إنه الحجر الأسود .

-وعن عائشة رضي الله عنها : لما استقبلني جبريل عليه السلام بالرسالة جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليك يارسول الله .

-وعن جابر بن عبد الله : لم يكن النبي r يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له .

-وفي حديث العباس ، إذا اشتمل عليه النبي r وعلى بنيه ، بملاءة ، ودعا لهم بالستر من النار كستره إياهم بملاءته ، فأمنت أسكفة الباب و حوائط البيت : آمين آمين.

-وعن جعفر بن محمد ، عن أبيه : مرض النبي r فأتاه جبريل بطبق فيه رمان وعنب فأكل منه النبي r، فسبح .

-وعن أنس : صعد النبي r ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان، أحُداً ، فرجف بهم ، فقال : اثبت أحد ، فإنما عليك نبي و صديق ، و شهيدان .

-ومثله عن أبي هريرة في حراء ، وزاد معه : علي وطلحة ، والزبير ، وقال : فإنما عليك نبي ، أو صديق ،أو شهيد .

-والخبر في حراء أيضاً عن عثمان ، قال : ومعه عشر من أصحابه أنا فيهم .
وزاد عبد الرحمن وسعداً ، قال : ونسيت الإثنين .

-وفي حديث سعيد بن زيد أيضاً مثله ، و زاد عشرة ، وزاد نفسه .

-وقد روي أنه حين طلبته قريش قال له ثبير : اهبط يا رسول الله ، فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله .فقال حراء : إلي يا رسول الله .

-وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي r قرأ على المنبر : ((وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام : 91 )، (الزمر : 67 ) ثم قال : يمجد الجبار نفسه ، أنا الجبار ، أنا الجبار ، أنا الكبير المتعال ، فرجف المنبر حتى قلنا : ليخرن عنه .

-وعن ابن عباس : كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم مثبته الأرجل بالرصاص بالحجارة ، فلما دخل رسول الله  r المسجد عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده إليها ولا يمسها ويقول :(  جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء : 81 )ً) ، فما أشار إلى وجه صنم إلا وقع لقفاه ، ولا لقفاه إلا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم .

-ومثله في حديث ابن مسعود ، وقال : فجعل يطعنها ويقول : (  جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) (سبأ : 49 )

-ومن ذلك حديثه مع الراهب في ابتداء أمره ، إذ خرج تاجراً مع عمه ، وكان الراهب لا يخرج لأحد ، فخرج يتخللهم ، حتى أخذ بيد رسول الله r ، فقال : هذا سيد العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين .
فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ، فقال : إنه لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً له ، ولا تسجد إلا لنبي ... و ذكر القصة ، ثم قال : فأقبل
 r وعليه غمامة تظلله ، فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال الفيء إليه .      

الفصل الثامن عشر
فـي الآيـات في ضـروب الحـيـوانـا ت

حدثنا سراج بن عبد الملك ، حدثنا أبو الحسن الحاقظ ، حدثنا أبي ، حدثنا القاضي يونس ، قال : حدثنا أبو الفضل الصلقي ، حدثنا ثابت بن قاسم بن ثابت ، من أبيه وجده ، قالا حدثنا أبو العلاء أحمد بن عمران ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا يونس بن عمرو حدثنا مجاهد عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان عندنا داجن ، فإذا كان عندنا رسول الله r قر وثبت مكانه ، فلم يجيء ولم يذهب ،وإذا خرج رسول الله r جاء وذهب .

-وروى عن عمر أن رسول الله r كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي قد صاد ضباً ، فقال ، ما هذا ؟ قالوا : نبي الله . فقال : واللات والعزى ، لا آمنت بك أو يؤمن هذا الضب ، وطرحه بين يدي النبي r ، فقال النبي r يا ضب ، فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعاً : لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة .قال : من تعبد ؟ قال : الذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه ، وفي البحر سبيله ، وفي الجنة رحمته ، وفي النار عقابه . قال : فمن أنا ؟ قال : رسول الله رب العالمين ، وخاتم النبيين ، وقد أفلح من صدقك ، و خاب من كذبك .فأسلم الأعرابي .

-ومن ذلك قصة كلام الذئب المشهورة عن أبي سعيد الخذري : بينا راع يرعى غنماً له عرض الذئب لشاة منها ، فأخذها الراعي منه ، فأقعى الذئب ، وقال للراعي : ألا تتقي الله ! حلت بيني و بين رزقي ! قال الراعي : العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس ! فقال الذئب :ألا أخبرك بأعجب من ذلك ؟ رسول الله بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق .فأتى الراعي النبي الله فأخبره ،فقال النبي : قم فحدثهم ، ثم قال : صدق . والحديث فيه قصة ، وفي بعضه طول .

-وروي حديث الذئب عن أبي هريرة .

-وفي بعض الطرق عن ابي هريرة رضي الله عنه ، فقال الذئب : أنت أعجب ! واقفاً على غنمك ،        وتركت نبياً لم يبعث الله نبياً قط أعظم منه عنده قدراً ، قد فتحت له أبواب الجنة ، وأشرف أهلها على أصحابه ، ينظرون قتالهم ، وما بينك وبينه إلا هذا الشعب ، فتصير من جنود الله .
قال الراعي : من لي بغنمي ؟ قال الذئب : أنا أرعاها حتى ترجع .
فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى .
وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبي
r يقاتل ، فقال له النبي r : عد إلى غنمك تجدها بوفرها .
فوجدها كذلك ، وذبح الذئب شاة منها .

-وعن أهبان بن أوس : وأنه كان صاحب القصة ، والمحدث بها ومكلم الذئب .

-وعن سلمة بن عمرو بن الأكوع : وأنه كان صاحب هذه القصة أيضاً ، وسبب إسلامه بمثل حديث أبي سعيد.

-وقد روى ابن وهب مثل أنه جرى لأبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية ، مع ذئب وجداه أخذ ظبياً ، فدخل الظبي الحرم ،فانصرف الذئب ، فعجبا من ذلك فقال الذئب : أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة و تدعونه إلى النار . فقال أبو سفيان : و الات و العزى ، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفاً

-وقد روي مثل هذا الخبر ، و أنه جرى لأبي جهل وأصحابه .

-وعن عباس بن مرداس لما تعجب من كلام ضمار صنمه ، وإنشاده الشعر الذي ذكر فيه النبي r  ، فإذا طائر سقط ، فقال : ياعباس ، أتعجب من كلام ضمار ، ولا تعجب من نفسك ؟ إن رسول الله r  يدعو إلى الإسلام وأنت جالس ، فكان سبب إسلامه .

-وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، عن رجل أتى النبي r وآمن به وهو على بعض حصون خيبر ، وكان في غنم يرعاها لهم ، فقال يا رسول الله ، كيف بالغنم ؟
قال : احصب وجوهها ، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك ، ويردها إلى أهلها .
ففعل ، فسارت كل شاة حتى دخلت إلى أهلها .

-وعن أنس رضي الله عنه : دخل النبي r حائط أنصاري وأبو بكر وعمر ورجل من الأنصار رضي الله عنهم ،وفي الحائط غنم فسجدت له . فقال أبو بكر : نحن أحق بالسجود لك منها ... الحديث .

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه :دخل النبي r حائطاً ، فجاء بعير فسجد له ، وذكر مثله .

-ومثله في الجمل ، عن ثعلبة بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، ويعلى بن مرة وعبد الله بن جعفر ، قال :   وكان لايدخل أحد الحائط إلا شد عليه الجمل ، فلما دخل عليه النبي r دعاه ، فوضع مشفره على الأرض  وبرك بين يديه ، فخطمه ، وقال : ما بين السماء والأرض شيء إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن   والإنس .

-ومثله عن عبد الله بن أبي أوفى .

-وفي خبر آخر في حديث الجمل أن النبي r سألهم عن شأنه ، فاخبروه أنهم أرادوا ذبحه .

-وفي رواية أن النبي r قال لهم : إنه شكا كثرة العمل ، وقلة العلف من صغره فقالوا : نعم .
وقد روي في قصة العضباء وكلامها النبي
r ، وتعريفها له بنفسها ، ومبادرة العشب إليها في الرعي  وتجنب الوحوش عنها ، وندائهم لها : إنك لمحمد ، وإنها لم تأكل ولم تشرب بعد موته حين ماتت .
ذكره الإسفرايني .

-وروى ابن وهب ، أن حمام مكة أظلت النبي r يوم فتحها ، فدعا لها بالبركة .

-وروي عن أنس ، وزيد بن أرقم ، والمغيرة بن شعبة ـ أن النبي r قال : أمر الله ليلة الغار شجرة ، فثبتت تجاه النبي r فسترته ، وأمر حمامتين فوقفتا بفم الغار .

-وفي حديث آخر : وأن العنكبوت نسجت على بابه ، فلما أتى الطالبون له ، ورأوا ذلك قالوا : لو كان فيه أحد لم تكن الحمامتان ببابه و النبي r يسمع كلامهم ، فانصرفوا .

-وعن عبد الله بن قرط : قرب إلى رسول اللهr بدنات خمس أو سبع ، لينحرها يوم عيد ، فازدلفن إليه بأيهن يبدأ .

-وعن أم سلمة : كان النبي r  في صحراء ، فنادته ظبية ، يا رسول الله ، قال : ما حاجتك ؟ قالت : صادني هذا الأعرابي ، ولي خفشان في ذلك الجبل ، فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع .
قال : وتفعلين ؟ قالت : نعم . فأطلقها ، فذهبت ورجعت ، فأوثقها ، فانتبه الأعرابي وقال : يا رسول الله ، ألك حاجة ؟ قال : تطلق هذه الظبية فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء ، وتقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله .

-ومن هذا الباب ماروي من تسخير الأسد لسفينة مولى رسول الله r، إذا وجهه إلى معاذ باليمن فلقي الأسد فعرفه أنه مولى رسول الله r  ومعه كتابه ، فهمهم وتنحى عن الطريق ، وذكر في منصرفه مثل ذلك .

-وفي رواية أخرى عنه ـ أن سفينة تكسرت به ، فخرج إلى جزيرة فإذا الأسد ، فقلت له : أنا مولى رسول الله r ، فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق .

-وأخذ ـ r  ـ بأذن شاة لقوم من عبد القيس بين إصبعه ، ثم خلاها فصار لها ميسماً ، وبقي ذلك الأثر وفي نسلها بعد .

-وما روي عن إبراهيم بن حماد بسنده من كلام الحمار الذي أصابه بخيبر ، وقال له : اسمي يزيد بن شهاب .فسماه النبي r  يعفورا ، وأنه كان يوجهه إلى دور أصحابه ، فيضرب عليهم الباب برأسه ،    ويستدعيهم ، وأن النبي r  لما مات ، تردى في بئر جزعاً وحزناً ، فمات .

-وحديث الناقة التي شهدت عند النبي r  لصاحبها أنه ما سرقها ، وأنها ملكه .

-وفي العنز : التي أتت رسول الله r  في عسكره ، وقد أصابهم عطش ، ونزلوا على غير ماء ، وهم زهاء ثلاثمائة ، فحلبها رسول الله r ، فأروى الجند ، ثم قال لرافع :   أملكها وما أراك .  فربطها فوجدها قد انطلقت . رواه ابن قانع و غيره ، وفيه : فقال رسول الله r :  إن الذي جاء بها هو الذي ذهب بها   .

وقالr  : لفرسه وقد قام إلى الصلاة في بعض أسفاره : لا تبرح ، بارك الله فيك حتى نفرغ من صلاتنا وجعله قبلته ، فما حرك عضواً حتى صلى r .   

-ويلتحق بهذا ما رواه الواقدي ـ أن النبي r  لما وجه رسله إلى الملوك ، فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد ، فأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم  .
و الحديث في هذا الباب كثير ، وقد جئنا منه بالمشهور ، وما وقع في كتب الأئمة .

الفصل  التاسع عشر
في إحياء الموتى و كلامهم ، و كلام الصبيان و المراضع
و شهادتهم لهم بالنبوة
r

حدثنا أبوالوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، القاضي أبو الوليد محمد بن رشد ، والقاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التميمي ، و غيره واحد سماعاً و إذاناً ، قالوا : حدثنا أبو علي الحافظ قال : حدثنا أبو عمر الحافظ ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن يحي ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا ابن الأعرابي ...
حدثنا أبو داود ، حدثنا و هب بن بقية ، عن خالد ـ هو الطحان ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن يهودية أهدت للنبي
r بخيبر شاة مصلية سمتها ، فأكل رسول الله r منها ، و أكل القوم ، فقال : ارفعوا أيديكم ، فإنما أخبرتني أنها مسمومة .
فمات بشر بن البراء .. وقال لليهودية : ما حملك على ما صنعت ؟ قالت : إن كنت نبياً لم يضرك الذي صنعت ، و إن كنت ملكاً أرحت الناس منك . قال : فأمر بها فقتلت .

-وقد روى هذا الحديث أنس ، وفيه : قالت : أردت قتلك . فقال : ماكان الله ليسلطك على ذلك .
فقالوا : نقتلها ؟ قال : لا .

-وكذالك روى عن أبي هريرة ـ من غير وهب ، قال : فما عرض لها .

-ورواه أيضاً جابر بن عبد الله ، وفيه : أخبرني هذه الذراع قال : و لم يعاقبها .

-وفي رواية الحسن : أن فخذها تُكَلِّمُني أنها مسمومة .

-وفي رواية أبي سلمة بن عبدالرحمن قالت : إني مسمومة .

-وكذلك ذكر الخبر ابن إسحاق ، و قال فيه : فتجاوزعنها .

-وفي الحديث الآخر ، عن أنس ، قال : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله r .

-وفي حديث أبي هريرة ـ أن رسول الله r قال ـ في وجعه الذي مات فيه : ما زالت أكلة خيبر تعادُّني ، فالآن أوان قطعت أبهري .

-وحكى ابن إسحاق : إن كان المسلمون ليرون أن رسول الله r مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة .

-وقال ابن سحنون : أجمع أهل الحديث أن رسول الله r قتل اليهودية التي سمته .

-و قد ذكرنا اختلاف الروايات في ذلك عن أبي هريرة ، وأنس ، وجابر .

-وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما ـ أنه دفعها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها .

-وكذلك قد اختلف في قتله للذي سحره ، قال الواقدي : وعفوه عنه أثبت عندنا .

 -وروى الحديث البزار ، عن أبي سعيد ، فذكر مثله ، إلا أنه قال في آخره : فبسط يده وقال : كلوا بسم الله ، فأكلنا ، وذكر اسم الله ، فلم تضر منا أحداً .

*قال القاضي أبو الفضل : وقد خرج حديث الشاة المسمومة أهل الصحيح ، وخرجه الأئمة ، وهو حديث مشهور .

-واختلف أئمة النظر في هذا الباب ، فمن قائل يقول : هو كلام يخلقه الله تعالى في الشاة الميتة أو الحجر أو الشجر وحروف وأصوات يحدثها الله ويسمعها منها دون تغيير أشكالها ، و نقلها عن هيئتها .
وهو مذهب الشيخ أبي الحسن ، والقاضي أبي بكر رحمهما الله . وآخرون ذهبوا إلى إيجاد الحياة بها ، ثم الكلام بعده . -وحكي هذا أيضاً عن شيخنا أبي الحسن ، وكل محتمل ، والله أعلم ، إذ لم نجعل الحياة شرطاً لوجود الحروف والأصوات ، إذ لا يستحيل وجودها مع عدم الحياة بمجردها .
فأما إذا كانت عبارة عن الكلام النفسي فلا بد من شرط الحياة لها ، إذ لا يوجد كلام النفس إلا من حي ، خلافاً للجبائي من بين سائر متكلمي الفرق في إحالة وجود الكلام اللفظي والحروف والأصوات إلا من حي مركب على تركيب من يصح منه النطق بالحروف والأصوات .
والتزم ذلك في الحصى ، والجذع ، والذراع ، وقال : إن الله خلق فيها حياة ، وخرق لها فماً ـ ولساناً ، وآلة أمكنها بها من الكلام .
وهذا لو كان لكان نقله والتهمم به آكد من التهمم بنقل تسبيحه أو حنينه ، ولم ينقل أحد من أهل السير     والرواية شيئاً من ذلك ، فدل على سقوط دعواه ، مع أنه لا ضرورة إليه في النظر ، والموفق الله .

-وروى وكيع ـ رفعه عن فهد بن عطية ـ أن النبي r أُتِيَ بصبي قد شبَّ لم يتكلم قط ،فقال : من أنا ؟ فقال رسول الله .

وروي عن معرض بن معيقيب: رأيت من النبي r عجباً ، جيء بصبي يوم وُلِد ... فذكر مثله .
وهو حديث مبارك اليمامة ، ويُعرف بحديث شاصونه : اسم راويه، وفيه : فقال له
r  : صدقت بارك الله فيك . ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شبَّ ، فكان يسمى مبارك اليمامة .
وكانت هذه القصة بمكة في حجة الوداع .

-وعن الحسن : أتى رجل النبي r ، فذكر أنه طرح بنية له في وادي كذا ، فانطلق معه إلى الوادي ،   وناداها باسمها : يا فلانة ، أجيبي بإذن الله فخرجت وهي تقول : لبييك وسعديك ! فقال لها : إن أبويك قد أسلما ، فإن أحببت أن أردك عليهما ؟ قالت : لا حاجة لي فيهما ، و جدت الله خيرا ً منهما .

-وعن أنس أن شاباً من الأنصار توفي وله أم عجوز عمياء ، فسجيناه ، وعزيناها ، فقالت : مات ابني ؟ قلنا : نعم . قالت : اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعينني على كل شدة فلا تحملن علي هذه المصيبة . فما برحنا أن كشف الثوب عن وجهه ، فطعم وطعمنا .

-وروي عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري : كنت فيمن دفن ثابت بن قيس بن شماس ، وكان قتل باليمامة ، فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول : محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ، عمر الشهيد ، عثمان البر الرحيم ، فنظرنا فإذا هو ميت .

-وذكر عن النعمان بن بشير أن زيد بن خارجة خر ميتاً في بعض أزقة المدينة ، فرفع وسجي إذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن حوله يقول : أنصتوا ،أنصتوا ، فحسر عن وجهه ، فقال : محمد رسول الله ، النبي الأمي ، وخاتم النبيين ، كان ذلك في الكتاب الأول ، ثم قال صدق ، صدق ، وذكر أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، ثم قال : السلام عليك يا رسول الله ،ورحمة الله و بركاته ، ثم عاد ميتاً كما كان .

الفصل  العشرون
في إبراء المرضى وذوي العاهات

أخبرنا أبو الحسن علي بن مشرف فيما أجازنيه و قرأته على غيره ، قال : حدثنا أبو إسحاق الحبال ،قال : حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا ابن الورد ، عن البرقي ، عن ابن هشام ، عن زباد البكائي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن شهاب ،وعاصم بن عمر بن قتادة وجماعة ذكرهم بقضية أحد بطولها ، قال : وقالوا :قال سعد بن أبي وقاص:إن رسول الله r ليناولني السهم لا نصل له ، فيقول : ارم به. وقد رمى رسول الله r يومئذ عن قوسه حتى اندقت، وأصيب يومئذ عين قتادة ـ يعني ابن النعمان ـ حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله r ، فكانت أحسن عينيه .

-وروى قصة قتادة عاصم بن عمر بن قتادة ، و يزيد بن عياض بن عمر بن قتادة .
ورواها أبو سعيد الخدري عن قتادة .

-وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قرد ، قال : فما ضرب عليَّ ولا قاح .

-وروى النسائي ، عن عثمان بن حنيف ـ أن أعمى قال : يا رسول الله ، ادعو الله أن يكشف لي عن بصري .
قال :  فانطلق فتوضأ : ثم صلى ركعتين ، ثم قل ، اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبي محمد نبي الرحمة ، يا محمد ، إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري ، اللهم شفعه في  .
قال : فرجع و قد كشف الله عن بصره .

-وروي أن ابن الأسنة أصابه استسقاء ، فبعث إلى النبي r ، فأخذ بيده حثوة من الأرض ، فتفل عليها  ثم أعطاها رسوله ، فأخذها متعجباً ، يرى أنه قد هزىء به ، فأتاه بها ، وهو على شفا ، فشربها ، فشفاه الله.

-وذكر العقيلي عن حبيب بن فديك ، ويقال فريك ـ أن أباه ابيضت عيناه ، فكان لا يبصر بهما شيئاً ، فنفث رسول الله r في عينيه ، فأبصر ، فرأيته يدخل الخيط في الإبرة ، وهو ابن ثمانين .

ورُمي كلثوم بن الحصين يوم أُحُد في نحره ، فبصق رسول الله r،فيه فبرأ .

-وتفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تمد .

-وتفل في عيني علي يوم خيبر ، و كان رمداً ، فأصبح بارئاً .

-ونفث علي ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت ، وفي رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب ، حين قتل ابن الأشرف ، فبرئت . وعلى ساق علي ابن الحكم يوم الخندق إذا انكسرت ، فبرىء مكانه ، وما نزل عن فرسه .

-واشتكى علي بن أبي طالب ، فجعل يدعو ، فقال النبي r :  اشفه ، أو عافه ، ثم ضرب برجله ، فما اشتكى ذلك الوجع بعد .

-وقطع أبو جهل يوم بدر يَد معوذ بن عفراء  ، فجاء يحمل يده ، فبصق عليها رسول الله r ، و ألصقها فلصقت . رواه ابن وهب .

-ومن روايته أيضاً أن خبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله r بضربة على عاتقه حتى مال شقه ، فرده رسول الله r ، و نفث عليه حتى صح .

-و تته امرأة من خثعم ، معها صبي به بلاء لا يتكلم ، فأتي بماء فمضمض فاه ، وغسل يديه ، ثم أعطاها إياه ، وأمرها بسقيه ومسه به ، فبرأ الغلام ، وعقل عقلاً يفضل عقول الناس .

-وعن ابن عباس : جاءت امرأة بابن لها به جنون ، فمسح صجره ، فثعَّ ثعَّة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود ، فشفي .

-وانكفأت القدر على ذراع محمد بن حاطب وهو طفل ، فمسح عليه ودعا له ، وتفل فيه فبرأ لحينه .

-وكانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة ، فشكاها للنبي r ، فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها ، ولم يبقى لها أثر .

-وسألته جارية طعاماً ، وهو يأكل ، فناولها من بين يديه ، وكانت قليلة الحياء ، فقالت إنما أريد من الذي في فيك ، فناولها ما في فيه ، ولم يكن يسأل شيئاً فيمنعه .
فلما استقر في جوفها ألقي عليها من الحياء ما لم تكن امرأة بالمدينة أشد حياء منها .

الفصل الحادي والعشرون
 في إجابة دعائه
r

* وهذا باب واسع جداً ، وإجابة دعوة النبي r لجماعة بما دعا لهم وعليهم متواتر على الجملة ، معلوم ضرورةً .
-وقد جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه : كان رسول الله
r إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولدَه ووَلدَ ولدِه .
-حدثنا أبو محمد العتابي بقراءتي عليه ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا حرمي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قالت أمي : يا رسول الله ، خادمك أنس ، ادع الله له . قال : اللهم أكثر ماله وولده ، و بارك له فيما آتيته .
ومن رواية عكرمة : قال أنس : فوالله إن مالي لكثير ، وإن ولدي وولد ولدي ليعادّون اليوم على نحو المائة .

وفي رواية : وما أعلم أحداً أصاب من رخاء العيش ما أصبت ، ولقد دفنت بيدي هاتين مائةً من ولدي ، لا أقول سقطاً ولا ولد ولد .

ومنه دعاؤه لعبد الرحمن بن عوف بالبركة ، قال عبد الرحمن : فلو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب تحته ذهباً ، وفتح الله عليه ، ومات فحفر الذهب من تركته بالفؤوس حتى مجلت فيه الأيدي ، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفاً وكن أربعاً . وقيل مائة ألف . وقيل : بل صولحت إحداهن ، لأنه طلقها في مرضه على نيف   وثمانين ألفاً ، وأوصى بخمسين ألفاً بعد صدقاته الفاشية في حياته ، وعوارفه العظيمة : أعتق يوماً ثلاثين عبداً ، وتصدق مرةً بعير فيها سبعمائة بعير ، وردت عليه تحمل من كل شيء ، فتصدق بها وبما عليها ، وبأقتابها وأحلاسها .

-ودعا لمعاوية بالتمكين في البلاد ، فنال الخلافة . ولسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يجيب الله دعوته ، فما دعا على أحد إلا استجيب له .

-ودعا بعز الإسلام بعمر رضي الله عنه ، أو بأبي جهل ، فاستجيب له في عمر .

-قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر .

-وأصاب الناس في بعض مغازيه عطش ، فسأله عمر الدعاء ، فدعا ، فجاءت سحابة ، فسقتهم حاجتهم ، ثم أقلعت .

-ودعا في الإستسقاء ، فسقوا ، ثم شكوا إليه المطر ، فدعا ، فصحوا .

-وقال لأبي قتادة : أفلح وجهك ، اللهم بارك له في شعره وبشره ، فمات و هو ابن سبعين سنةً ، و كأنه ابن خمس عشرة سنة .

-وقال للنابغة : لا يفضض الله فاك فما سقطت له سن . وفي رواية : فكان أحسن الناس ثغراً ، إذا سقطت له سن نبتت له أخرى ، وعاش عشرين ومائة سنة ، وقيل : أكثر من هذا .

-ودعا لابن عباس : اللهم فقهه في الدين ، وعمله التأويل، فسمي بعد الحبر وترجمان القرآن .

-ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه ، فما اشترى شيئاً إلا ربح فيه .

 -ودعا للمقداد بالبركة ، فكانت عنده غرائز المال .

-ودعا بمثله لعروة بن أبي الجعد ، فقال : فلقد كنت أقوم بالكناسة ، فما أرجع حتى أربح أربعين ألفاً . وقال البخاري في حديث : فكان لو اشترى التراب ربح فيه .
وروي مثل هذا لغرقدة أيضاً .


-وندت له ناقة ، فدعا فجاءه بها إعصار ريح ، ، حتى ردها عليه .

-ودعا لأم أبي هريرة فأسلمت .

-ودعا لعلي أن يكفى الحر والقر ، فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف ، وفي الصيف ثياب الشتاء ، ولا يصيبه حر ولا برد .

-ودعا الله لفاطمة ابنته ألا يجيعها ، قالت : فما جعت بعد .

-وسأله الطفيل بن عمرو آيةً لقومه ، فقال : اللهم نور له فسطع نور بين عينيه ، فقال : أخاف أن يقولوا مثله ، فتحول إلى طرف سوطه ، فكان يضيء في الليلة المظلمة ، فسمي ذا النور .

-ودعا على مضر فأقحطوا، حتى استعطفته قريش ، فدعا لهم فسقوا .

-ودعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق الله ملكه ، فلم تبق له باقية ، ولا بقيت لفارس رياسة في أقطار الدنيا .

-ودعا على صبي قطع عليه الصلاة أن يقطع ا لله أثره ، فأقعد .

-وقال لرجل يأكل بشماله : كل بيمينك فقال : لا أستطيع . فقال : لا استطعت . فلم يرفعها إلى فيه .

-وقال لعتبة بن أبي لهب : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ، فأكله الأسد .

 -وقال لامرأة : أكلك الأسد. فأكلها  

-وحديثه المشهور ، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، في دعائه على قريش حين وضعوا السلا على رقبته وهو ساجد مع الفرث والدم ، وسماهم . قال : فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر .

-ودعا على الحكم بن أبي العاص ، وكان يختلج بوجهه ، ويغمز عند النبي r ، أي لا ، فرآه ، فقال : كذلك كن ، فلم يزل يختلج إلى أن مات .

-ودعا على محلم بن جثامة فمات لسبع ، فلفظتْه الأرضُ ، ثم وُرِيَ فلفظتْه مرات ، فألقوه بين صُدّين ،   ورجموا عليه بالحجارة .والصد : جانب الوادي   .


-وجحده رجل بيع فرس ـ وهي التي شهد فيها خزيمة للنبي
r ، فرد الفرس بعد النبي r على الرجل ، وقال : اللهم إن كان كاذباً فلا تبارك له فيها . فأصبحت شاصية برجلها ، أي رافعةً .
وهذا الباب أكثر من أن يحاط به .

الفصل  الثاني والعشرون
في كرامته بركاته وانقلاب الأعيان له فيما لمسه أو باشره

* أخبرنا أحمد بن محمد ، حدثنا أبو ذر الهروي ، إجازة ، حدثنا القاضي أبو علي سماعاً ، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الرحمن وغيرهما ، فقالوا : حدثنا أبو الوليد القاضي ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو إسحاق ، وأبو الهيثم : قالوا : حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ أن أهل المدينة فزعوا مرةً ، فركب رسول الله r فرساً لأبي طلحة كان يقطُف ، أو به قِطاف . وقال غيره : يبطأ ، فلما رجع قال : وجدنا فرسك بحراً فكان بعد لا يجارى .

-ونخس جمل جابر ، وكان قد أعيا ، فنشط حتى كان ما يملك زمامه .

-وصنع مثل ذلك بفرس لجعيل الأشجعي ، خفقها بمخفقة معه ، وبرَّك عليها ، فلم يملك رأسها نشاطاً ،      وباع من طبنها باثني عشرألفاً .

 -وركب حماراً قطوفاً لسعد بن عبادة فرده هملاجا لا يساير  .

-وكانت شعرات من شعره في قلنسوة خالد بن الوليد ، فلم يشهد بها قتالاً إلا رزق النصر .

-وفي الصحيح ـ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ـ أنها أخرجت جبة طيالسة ، و قالت : كان رسول الله r  يلبسها ، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها .

-وحدثنا القاضي أبو علي ، عن شيخه أبي القاسم بن المأمون : قال : وكانت عندنا قصعة من قصاع النبي r ، فكنا نجعل فيها الماء للمرضى ، فيستشفون بها .

-وأخذ جهجاه الغفاري القضيب من يد عثمان رضي الله عنه ليكسره على ركبته ، فصاح الناس به ، فأخذته فيها الآكلة فقطعها ، ومات قبل الحول .

-وسكب من فضل و ضوئه في بئر قباء فما نزفت بعد .

وبزق في بئر كانت في دار أنس ، فلم يكن بالمدينة أعذب منها .

-ومر على ماء، فسأل عنه ، فقيل له : اسمه بيسان ، وماؤه ملح ، فقال : بل هو نعمان وماؤه طيب فطاب .

-وأتي بدلو من ماء زمزم ، فمج فيه ، فصارت أطيب من المسك .

-وأعطى الحسن والحسين لسانه فمصاه ، وكان يبكيان عطشاً فسكتا .

-وكان لأم مالك عكة تهدي فيها للنبي r  سمناً ، فأمرها النبي r  ألا تعصرها ، ثم دفعها إليها ، فإذا هي مملوءة سمناً ،فيأتيها بنوها يسألونها الأدم ، وليس عندهم شيء ، فتعمد إليها ، فتجد فيها سمناً ، فكانت تقيم أدمها حتى عصرتها .

-وكان يتفل في أفواه الصبيان المراضع فيجزئهم ريقه إلى الليل .

-ومن ذلك بركة يده فيما لمسه وغرسه ، ولسلمان رضي الله عنه حين كاتبه مواليه على ثلاثمائة ودية يغرسها لهم ، كلها تعلق وتطعم وعلى أربعين أوقية من ذهب ، فقام  rوغرسها له بيده إلا واحدة  غرسها غيره ، فأخذت كلها إلى تلك الواحدة ، فقلعها النبي r  وردها ، فأخذت .

-وفي كتاب البزار : فأطعم النخل من عامه إلا الواحدة ، فقلعها رسول الله r وغرسها فأطعمت من عامها .

وأعطاه مثل بيضة الدجاجة من ذهب بعد أن أدارها على لسانه ، فوزن منها لمواليه أربعين أوقية وبقي عنده مثل ما أعطاهم .

-وفي حديث حنش بن عقيل : سقاني رسول الله r شربةً من سويق شرب أولها وشربت آخرها ، فما برحت أجد شبعها إذا جعت ، وريها إذا عطشت ، وبردها إذا ظمئت .

-وأعطى قتادة بن النعمان ، وصلى معه العشاء في ليلة مظلمة مطيرة ـ عرجوناً ، وقال : انطلق به ، فإنه سيضيء لك من بين يديك عشراً ومن خلفك عشراً ، فإذا دخلت بيتك فسترى سواداً فاضربه حتى يخرج ، فإنه الشيطان .فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ، ووجد السواد فضربه حتى خرج .

-ومنها دفعه لعكاشة جدل حطب ،وقال : اضرب به حين انكسر سيفه يوم بدر، فعاد في يده سيفاً صارماً ، طويل القامة ، أبيض ، شديد المتن ، فقاتل به ، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف إلى أن استشهد في قتال أهل الردة .و كان هذا السيف يسمى = العون  .

-ودفعه لعبد الله بن جحش يوم أحد ، وقد ذهب سيفه ـ عسيب نخل ، فرجع في يده سيفاً .

-ومنه بركته في درور الشياه الحوائل باللبن الكثير ، كقصة شاة أم معبد ، وأعنز معاوية بن ثور ، وشاة أنس ، وغنم حليمة مرضعته وشارفها ، وشاة عبد الله بن مسعود ، وكانت لم ينز عليها فحل ، وشاة المقداد .

-ومن ذلك تزويده أصحابه سقاء ماء بعد أن أوكأه ، ودعا فيه ، فلما حضرتم الصلاة نزلوا فحلوه ، فإذا به لبن طيب وزبدة في فمه ـ من رواية حماد بن سلمة .

-ومسح على رأس عمير بن سعد ، وبرَّك ، فمات وهو ابن ثمانين ، فما شاب .

-وروي مثل هذه القصص عن غير واحد ، منهم السائب بن يزيد ، ومدلوك .

-وكان يوجد لعتبة بن فرقد طيب يغلب طيب نسائه ، لأن رسول الله r مسح بيده على بطنه وظهره .

-وسلتَ الدَّمَ عن وجه عائذ بن عمرو ، وكان خرج يوم حنين ، ودعا له ، فكانت له غرة كغرة الفرس .

-ومسح على رأس قيس بن زيد الجذامى ، ودعا له ، فهلك وهو ابن مائة سنة ، ورأسه أبيض ،         وموضع كف النبي r وما مرت يده عليه من شعره أسود ، كان يدعى الأغر .

-وروي مثل هذه الحكاية لعمرو بن ثعلبة الجهني .

-ومسح وجهَ آخر ، فما زال على وجهه نور .

-ومسح وجه قتادة بن ملحان ، فكان لوجهه بريق حتى كان ينظر في وجهه كما ينظر في المرأة .

-ووضع يده على رأس حنظلة بن حزيم ، وبرَّك عليه ، فكان حنظلة يؤتي بالرجل قد ورم وجهه ، والشاة قد ورم ضرعها ، فيوضع على موضع كف النبي r  فيذهب الورم .

-ونضح في وجه زينب بنت أم سلمة نضحة من ماء ، فما يعرف كان في وجه امرأة من الجمال ما بها .

-ومسح على رأس صبي به عاهة ، فبرأ ، واستوى شعره ، وعلى غير واحد من الصبيان والمرضى     والمجانين ، فبرءوا .

 -وأتاه رجل به أدرة ، فأمره أن ينضحها بماء من عين مجَّ فيها ، ففعل ، فبرأ .

-وعن طاوس : لم يؤت النبي r بأحد به مس ، فصك في صدره إلا ذهب .

-والمس : الجنون .

-ومجَّ في دلو من بئر ، ثم صب فيها ، ففاح منها ريح المسك .

-وأخذ قبضة من تراب يوم حنين ، ورمى بها في وجوه الكفار ، وقال :  شاهت الوجوه ، فانصرفوا يمسحون القذى عن أعينهم .

 -وشكا إليه أبو هريرة رضي الله عنه النسيان ، فأمره ببسط ثوبه ، وغرف بيده فيه ، ثم أمره بضمه ، ففعل ، فما نسي شيئاً بعد .

-وما يروى عنه في هذا كثير .

-وضرب صدر جرير بن عبد الله ، ودعا له ، وكان ذكر له أنه لا يثبت على الخيل ، فصار من أفرس العرب و أثبتهم .

-ومسح على رأس عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو صغير ، وكان دميماً ، ودعا له بالبركة ، ففرع الرجال ، طولاً وتماماً  .

الفصل الثالث والعشرون
فيما أطلع عليه من الغيوب وما يكون

ومن ذلك ما أطلع عليه من الغيوب وما يكون . والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره ، ولا ينزف غمره .

-وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع الواصل إلينا خبرها على التواتر ، لكثرة رواتها ، واتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب :

*حدثنا الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الفهري إجازة ، وقرأته على غيره : قال أبو بكر : حدثنا أبو علي التستري ، حدثنا أبو عمر الهاشمي ، حدثنا اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قال : قام فينا رسول  r مقاماً ، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه ، حفظه من حفظه ، ونسيه من نسيه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، وإنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ، ثم إذا رآه عرفه . ثم قال حذيفة : ما أدري ، أنسي أصحابي أم تناسوه ، ، والله ما ترك رسول الله r  من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه  لنا باسمه ، واسم أبيه ، وقبيلته .

-وقال أبو ذر : لقد تركنا رسول الله r وما يحرك طائر جناحيه في السماء ، إلا ذكرنا منه علماً .

-وقد خرج أهل الصحيح والأئمة ما أعلم به أصحابه r مما وعدهم به من الظهور على أعدائه ، وفتح مكة ، وبيت المقدس ، واليمن ، والشام ، والعراق .وظهور الأمن ، حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة  لا تخاف إلا الله .وأن المدينة ستغزى ، وتفتح خيبر على يدي علي في غد يومه .
وما يفتح الله على أمته من الدنيا . ويؤتون من زهرتها . وقسمتهم كنوز كسرى و قيصر .
وما يحدث بينهم من الفتون والاختلاف والأهواء .وسلوك سبيل من قبلهم ، وافتراقهم  على ثلاث وسبعين فرقة ، الناجية منها واحدة .وأنها ستكون لهم أنماط ، ويغدو أحدهم في حلة ، ويروح في أخرى ، وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى ، ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة .
ثم قال آخر الحديث : وأنتم اليوم خير منكم يومئذ ، وأنهم إذا مشوا المطيطاء وخدمتهم بنات فارس       والروم رد الله بأسهم بينهم ، وسلط شرارهم على خيارهم . وقتالهم الترك  والخزر  والروم ، وذهاب كسرى وفارس حتى لا كسرى ولا فارس بعده ، وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده . وذكر أن الروم ذات قرون إلى آخر الدهر . وبذهاب الأمثل فالأمثل من الناس ، وتقارب الزمان ، وقبض العلم ، وظهور الفتن ، والهرج .وقال : [ و يل للعرب من شر قد اقترب ] . وأنه زويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها ،    وسيبلغ ملك أمته ما زوي له منها .وكذلك كان ، امتدت في المشارق والمغارب مما بين أرض الهند أقصى المشرق إلى بحر طنجة حيث لا عمارة وراءه ، وذلك ما لم تملكه أمة من الأمم ، ولم تمتد في الجنوب    ولا في الشمال مثل ذلك . وقوله : لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ـ ذهب ابن المديني إلى أنهم العرب ، لأنهم المختصون بالسقي بالغرب ـ و هي الدلو . و غيره يذهب إلى أنهم أهل المغرب ، و قد ورد المغرب كذا في الحديث بمعناه . وفي حديث آخر ، من رواية أبي أمامة : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، قاهرين لعدوهم ، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك .
قيل : يا رسول الله ، وأين هم ، قال : بيت المقدس . وأخبر بملك بني أمية ، وولاية معاوية ، ووصاه ،  واتخاذ بني أمية مال الله دُولا ، وخروج ولد العباس بالرايات السود ، وملكهم أضعاف ما ملكوا ، وخروج المهدي ، وما ينال أهل بيته وتقتيلهم وتشريدهم ، وقتل علي ، وأن أشقاها الذي يخضب هذه من هذه ، أي لحيته من رأسه ، وأنه قسيم النار ، يدخل أولياؤه النار ، فكان فيمن عاداه الخوارج والناصبة ، وطائفة ممن ينسب إليه من الروافض كفروه . وقال : يقتل عثمان وهو يقرأ في المصحف وأن الله عسى أن يلبسه قميصاً،وأنهم يريدون خلعه،وأنه سيقطر دمه على قوله تعالى :( فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ)(البقرة  137 ).
وأن الفتن لا تظهر ما دام عمر حياً . وبمحاربة الزبير لعلي ، وبنباح كلاب الحوأب على بعض أزواجه ،   وأنه يقتل حولها قتلى كثير ، وتنجو بعد ما كادت ، فنبحت على عائشة عند خروجها إلى البصرة . وأن عماراً تقلته الفئة الباغية ، فقتله أصحاب معاوية .
وقال لعبد الله بن الزبير : ويل للناس منك ، و ويل لك من الناس   .
وقال في قزمان ـ و قد أبلى مع المسلمين : إنه من أهل النار... فقتل نفسه .
وقال ـ في جماعة فيهم أبو هريرة ، وسمرة بن جندب ، وحذيفة :
آخركم موتاً في النار فكان بعضهم يسأل عن بعض ، فكان سمرة آخرهم موتاً ، هرم وخرف ، فاصطلى بالنار فاحترق فيها .
 وقال في حنظلة الغسيل :
سلوا زوجته عنه ، فإني رأيت الملائكة تغسله فسألوها فقالت : إنه خرج جنباً ، وأعجله الحال عن الغسل . قال أبو سعيد رضي الله عنه : ووجدنا رأسه يقطر ماء  .

-وقال : الخلافة في قريش . ولن يزال هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين .

-وقال : يكون في ثقيف كذاب و مبير فرأوهما : الحجاج ، والمختار .

-وأن مسيلمة يعقره الله .

-وإن فاطمة أول أهله لحوقاً به .

-وأنذر بالردة ، وبأن الخلافة بعده ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً ، فكانت ذلك بمدة الحسن بن علي .

-وقال : إن هذا الأمر بدا نبوة ورحمةً ، ثم يكون رحمةً وخلافةً ، ثم يكون ملكاً عضوضاً ، ثم يكون عتواً وجبروتاً وفساداً في الأمة .

-وأخبر بشأن أويس القرني ، وبأمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، وسيكون في أمته ثلاثون كذاباً فيهم أربع نسوة .

-وفي حديث آخر : ثلاثون دجالاً كذاباً ، آخرهم الدجال الكذاب ، كلهم يكذب على الله و رسوله .

-وقال : يوشك أن يكثر فيكم العجم ، يأكلون فيئكم ، ويضربون رقابكم .
ولا تقوم الساعة حتى يسوق الناس بعصاه رجل من قحطان
.
-وقال : خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . ثم يأتي بعد كذلك قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ،  ويظهر فيهم السمن  .

-وقال : لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه .

-وقال : هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش .قال أبو هريرة راويه : لو شئت سميتهم لكم : بنو فلان  وبنو فلان .

وأخبر بظهور القدرية و الرافضة .وسب آخر هذه الأمة أولها .
وقلة الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام ، فلم يزل أمرهم يتبدد حتى لم يبق لهم جماعة . وأنهم سيقلون بعده أثرةً .

-وأخبر بشأن الخوارج وصفتهم ، والمخدج الذي فيهم ، وأن سيماهم التحليق .

-و يُرى رعاء الغنم رؤوس الناس ، و العراة الحفاة يتبارون في البنيان . وأن تلد الأمة ربتها .

وأن قريشاً والاحزاب لا يغزونه أبداً ، وأنه هو يغزوهم .

-أخبر بالموتان الذي يكون بعد فتح بيت المقدس .

-ما وعد من سكنى البصرة ، وأنهم يغزون في البحر كالملوك على الأسراة . . .

-وأن الدين لو كان منوطاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس .

وهاجت ريح في غزاة ، فقال : هاجت لموت منافق ، فلما رجعوا إلى ا لمدينة وجدوا ذلك .

-قال لقوم من جلسائه : ضرس أحدكم في النار أعظم من أحد .
قال أبو هريرة : فذهب القوم ـ يعني ماتوا ، و بقيت أنا ورجل ، فقتل مرتداً يوم اليمامة .

-وأعلم بالذي غل خرزاً من خرز يهود ، فوجدت في رحله . وبالذي غل الشملة ، وحيث هي .

وناقته حين ضلت، وكيف تعلقت  بالشجرة بخطامها .

وبشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة .

وبقضية عمير مع صفوان حين ساره وشارطه على قتل النبي r  فلما جاء عمير لنبي r قاصداً لقتله  وأطلعه رسول الله r علىالأمر والسر أسلم .

-وأخبر بالمال الذي تركه عمه العباس رضي الله عنه عند أم الفضل بعد أن كتمه ، فقال : ما علمه غيري و غيرها ، فأسلم . وأعلم بأنه سيقتل أبي بن خلف .

-وفي عتبة بن أبي لهب يأكله كلاب الله .

-وعن مصارع أهل بدر ، فكان كما قال .

-وقال في الحسن : إن ابني هذا سيد ، و سيصلح الله به بين فئتين .

-ولسعد : لعلك تخلف حتىينتفع بك أقوام و يستضر بك آخرون .

-وأخبر بقتل أهل مؤتة يوم قتلوا و بينهم ميسرة شهر أو أزيد .

-وبموت النجاشي يوم مات بأرضه .

-وأخبر فيروز إذا ورد عليه رسولاً من كسرى بموت كسرى ذلك اليوم ، فلما حقق فيروز القصة أسلم .

-وأخبر أبا ذر رضي الله عنه بتطريده كما كان ، ووجده في المسجد نائماً ، فقال له : كيف بك إذا أخرجت منه ؟ قال : أسكن المسجد الحرام . قال : فإذا أخرجت منه ... الحديث .
وبعيشه وحده ، وموته وحده .

-وأخبر أن أسرع أزواجه به لحوقاً أطولهن يداً ، فكانت زينب لطول يدها بالصدقة .

-وأخبر بقتل الحسين بالطف ، وأخرج بيده تربة ، و قال : فيها مضجعة .

-وقال في زيد بن صوحان : يسبقه عضو منه إلى الجنة فقطعت يده في الجهاد .

-وقال في الذين كانوا معه على حراء : اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيد ، فقتل علي ، وعمر وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وطعن سعد .

-وقال لسراقة : كيف بك إذا ألبست سواري كسرى ؟ فلما أتي بهما عمر ألبسهما إياه ، و قال : الحمد الله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة .

-وقال : تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة ،تجبى إليها خزائن الأرض ، يخسف بها يعني بغداد .

-وقال : سيكون في هذه الأمة رجل يقال له : الوليد ، هو شر لهذه الأمة من فرعون لقومه .

-وقال : لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة .

-وقال لعمر في سهيل بن عمرو : عسى أن تقوم مقاماً يسرك يا عمر ! فكان كذلك ، قام بمكة مقام أبي بكر يوم بلغهم موت النبي r ، وخطب بنحو خطبته ، وثبتهم وقوى بصائرهم .

-وقال لخالد حين وجهه لأكيدر : إنك تجده يصيد البقر

* فوجدت هذه الأمور كلها في حياته وبعد موته كما قال r .
إلى ما أخبر به جلساءه من أسرارهم وبواطنهم ،واطلع عليه من أسرار المنافقين وكفرهم ، وقولهم فيه   وفي المؤمنين ، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه : اسكت ، فوالله لو لم يكن عنده من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء .

-وإعلامه بصفة السحر الذي سحره به لبيد بن الأعصم ، وكونه في مشط ومشاقة ، في جف طلع نخلة ذكر  وأنه ألقى في بئر ذروان ، فكان كما قال ، ووجد على تلك الصفة .

-وإعلامه قريشاً بأكْل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها على بني هاشم ، وقطعوا بها رحمهم ،  وأنها أبقت فيها كل اسم الله ، فوجدوها كما قال .

-ووصفه لكفار قريش بيت المقدس حين كذبوه في خبر الإسراء ، ونعته إياه نعت من عرفه .

-وأعلمهم بعيرهم التي مر عليها في طريقه ، وأنذرهم بوقت وصولها ، فكان كله كما قال .
إلى ما أخبر به من الحوادث التي تكون ولم تأت بعد ، منها ما ظهرت مقدماتها ، كقوله : عمران بيت المقدس خراب يثرب ، وخراب يثرب خروج الملحمة ، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية .
و من أشراط الساعة وآيات حلولها ، وذكر النشر والحشر ، وأخبار الأبرار والفجار ، و الجنة و النار ،  وعرصات القيامة .

-وبحسب هذا الفصل ان يكون ديواناً مفرداً يشتمل على أجزاء وحده ، وفيما أشرنا إليه من نكت الأحاديث التي ذكرنا كفاية ، وأكثرها في الصحيح ، وعند الأئمة .      

الفصل الرابع والعشرون
   في عصمة الله تعالى له
r مـن النـــاس

 * قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة : 67 )

-وقال تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور : 48 )

-وقال : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر : 36 )

وقيل : بكاف محمداً r أعداءه المشركين . و قيل غير هذا .

وقال تعالى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر : 95 ).

وقال : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال : 30 )

-أخبرنا القاضي الشهيد أبو علي الصدفي بقرائتي عليه ، والفقيه الحافظ أبو بكر محمد عبد الله المعافري  قالا : حدثنا أبو الحسن الصيرفي ، قال : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا أبو العباس المروزي ، حدثنا أبو عيسى الحافظ ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن سعيد الجريري ، عن عبد الله بن شفيق ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان النبي r يحرس حتى نزلت هذه الآية : (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ـ فأخرج رسول الله r رأسه من القبة ، فقال لهم : يأيها الناس ، انصرفوا ، فقد عصمني ربي عز وجل .

وروى أن النبي r كان إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال : الله عز وجل.. فرعدت يد الأعرابي ، وسقط سيفه ، وضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه ، فنزلت الآية .

-وقد رويت هذه القصة في الصحيح ، وأن غورث بن الحارث صاحب هذه القصة ، وأن النبي r عفا عنه  فرجع إلى قومه ، وقال : جئتكم من عند خير الناس .

-وقد حكيت مثل هذه الحكاية ، وأنها جرت له يوم بدر ، وقد انفرد من أصحابه لقضاء حاجته ، فتبعه رجل من المنافقين ... و ذكر مثله .

-وقد روي أنه وقع له مثلها في غزوة غطفان بذي أمر ، مع رجل اسمه دعثور بن الحارث ، وأن    الرجل أسلم ، فلما رجع إلى قومه الذين أغروه ـ وكان سيدهم وأشجعهم ـ قالوا له : أين ما كنت تقول ، وقد أمكنك ؟ فقال : إني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري ، فوقعت لظهري ، وسقط السيف ، فعرفت أنه ملك ، و أسلمت .

وفيه نزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المائدة : 11 )

-وفي رواية الخطابي أن غورث بن الحارث المحاربي أراد أن يفتك بالنبي r ، فلم يشعر به إلا وهو قائم على رأسه منتضياً سيفه ، فقال : اللهم اكفنيه بما شئت ، فانكب من وجهه من زلخة زلخها بين كتفيه  ونذر سيفه من يده . الزلخة : وجع الظهر . وقيل في قصته غير هذا ، وذكر فيه نزلت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المائدة : 11 )

-وقيل : كان رسول الله r  يخاف قريشاً ، فلما نزلت هذه الآية استلقى ، ثم قال : من شاء فليخذلني .
وذكر عبد بن حميد ، قال : كانت حمالة الحطب تضع العضاه ـ وهي جمر ـ على طريق رسول الله
r فكأنما يطؤها كثيباً أهيل .

-وذكر ابن اسحاق عنها أنها لما بلغها نزول : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد : 1 )، وذكرها بما ذكرها الله مع زوجها من الذم ـ أنت رسول الله r وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، وفي يدها فهر من الحجارة . فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر ، وأخذ الله تعالى ببصرها عن نبيه r ، فقالت : يا أبا بكر  أين صاحبك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه .

-وعن الحكم بن أبي العاصي : تواعدنا على النبي r  حتى إذا رأيناه سمعنا صوتاً خلفنا ما ظننا أنه بقي بتهامة أحد ، فوقعنا مغشياً علينا ، فما أفقنا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله .
ثم تواعدنا ليلة أخرى ، فجئنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا والمروة ، فحالت بيننا وبينه .

-وعن عمر رضي الله عنه : تواعدت أنا وأبو جهم بن حذيفة ليلة قتْل رسول الله r، فجئنا منزله ، فسمعنا له ، فافتح وقرأ : ( الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ *سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ *(الحاقة.)
فضرب أبو جهم على عضد عمر،وقال: انجُ ،وفرا هاربين، فكانت من مقدمات إسلام عمر رضي الله عنه .

-ومنه العبرة المشهورة ، والكفاية التامة عندما أخافته قريش ، وأجمعت على قتله وبيتوه ، فخرج عليهم من بيته ، فقام على رؤوسهم ، وقد ضرب الله تعالى على أبصارهم ، وذر الترابَ على رؤوسهم ، وخلص منهم .

-وحمايته عن رؤيتهم في الغار بما هيأ الله له من الآيات ، ومن العنكبوت الذي نسج عليه ، حتى قال أمية بن خلف ـ حين قالوا : تدخل الغار : ما أربكم فيه ، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد محمد . ووقفت حمامتان على فم الغار ، فقالت قريش : لو كان فيه أحد لما كانت هناك الحمام .

-وقصته مع سراقة بن مالك بن جعشم حين الهجرة ، وقد جعلت قريش فيه وفي أبي بكر الجعائل ، فأنذر به ، فركب فرسه واتبعه حتى إذا قرب منه دعا عليه النبي r ، فساخت قوائم فرسه ، فخر عنها ،      واستقسم  بالأزلام ، فخرج له ما يكره . ثم ركب ودنا حتى سمع قراءة النبي r، وهو لا يلفت ، وأبو بكر رضي الله عنه يلتفت فقال للنبي r : أتينا . فقال : لا تحزن إن الله معنا  ، فساخت ثانية إلى ركبتها  وخر عنها ، فزجرها فنهضت ولقوئمها مثل الدخان ، فناداهم بالأمان ، فكتب له النبي r  أماناً ، كتبه ابن فهيرة ، وقيل أبو بكر ، وأخبرهم بالأخبار ، وأمره النبي r ألا يترك أحداً يلحق بهم .
فانصرف يقول للناس : كفيتم ما ها هنا .
وقيل : بل قال لهما : أراكما دعوتما علي ، فادعوا لي .
فنجا ، ووقَع في نفسه ظهور النبي
r.      

-وفي خبر آخر : أن راعياً عرف خبرهما ، فخرج يشتد ، يعلم قريشاً ، فلما ورد مكة ضرب على قلبه ، فما يدري ما يصنع ، وأنسي ما خرج له حتى رجع إلى موضعه .

-وجاءه ـ فيما ذكر ابن إسحاق وغيره ـ أبو جهل ، بصخرة وهو ساجد ، وقريش ينظرون ، ليطرحها عليه ، فلزقت بيده ، وبست يداه إلى عنقه ، وأقبل يرجع القهقرى إلى خلفه ، ثم سأله أن يدعو له ، ففعل  فانطلقت يداه ، وكان قد تواعد مع قريش بذلك ، وحلف لئن رآه ليدمغنه ، فسألوه عن شأنه ، فذكر أنه عرض لي دونه فحل ، ما رأيت مثله قط ، هم بي أن يأكلني .
فقال النبي
r : ذاك جبريل ، لو دنا لأخذه .

-وذكر السمرقندي أن رجلاً من بني المغيرة أتى النبي r ليقتله ، فطمس الله على بصره ، فلم ير النبي r ، وسمع قوله ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه .

-وذكر أن في هاتين القصتين ، نزلت :( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ( 8 ) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( 9 ) – يس.   

ومن ذلك ما ذكره ابن أسحاق ، وغيره في قصته ، إذ خرج إلى بني قريظة ، في أصحابه ، فجلس إلى جدار بعض آطامهم ، فانبعث عمرو بن جحاش أحدهم ليطرح عليه رحى ، فقام النبي r فانصرف إلى المدينة و أعلمهم بقصتهم .

-وقد قيل : أن قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المائدة : 11 ) في هذه القصة نزلت .

-وحكى السمرقندي أنه خرج إلى بني النضير يستعين في عقل الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية ، فقال له حيي بن أخطب : اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا .
فجلس النبي
r مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتوامر حيي معهم على قتله ، فأعلم جبريل عليه السلام النبي r بذلك ، فقام كأنه يريد حاجته حتى دخل المدينة .

-وذكر أهل التفسير والحديث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن أبا جهل وعد قريشاً لئن رأى محمداً يصلي ليطأن رقبته .
فلما صلى النبي
r أعلموه ، فأقبل ، فلما قرب منه ولى هارباً ناكصاً على عقبيه ، متقياً بيديه ، فسئل فقال : لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء ناراً كدت أهوي فيه ، وأبصرت هولاً عظيماً ، وخفق أجنحة قد ملأت الأرض .
فقال النبي
r : تلك الملائكة ، لو دنا لا ختطفته عضواً عضواً .
ثم أنزل على النبي
r : (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى *إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ * (. سورة العلق 6-19.)

-وروي أن شيبة بن عثمان الحجبي أدركه يوم حنين ، وكان حمزة قد تقل أباه وعمه ، فقال : اليوم أدرك ثأري من محمد .فلما اختلط الناس أتاه من خلفه ، ورفع سيفه ليصبه عليه ، قال : فلما دنوت منه ارتفع إلي شواظ من نار أسرع من البرق ، فوليت هارباً ، وأحس بي النبي r فدعاني ، فوضع يده على صدري ، وهو أبغض الخلق إلي ، فما رفعها إلا وهو أحب الخلق إلي .  وقال لي : ادن فقاتل ... فتقدمت أمامه أضرب بسيفي وأقيه بنفسي ، ولو لقيت أبي تلك الساعة لأوقعت به دونه  .

-وعن فضالة بن عمرو : أردت قتل النبي r عام الفتح ، وهو يطوف بالبيت ، فلما دنوت منه قال : أفضالة ؟ قلت : نعم . قال : ما كنت تحدث به نفسك ؟ قلت : لا شيء . فضحك واستغفر لي ، ووضع يده على صدري ، فسكن قلبي ، فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه .

-ومن مشهور ذلك خبر عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس ـ حين وفدا على النبي r ، وكان عامر قال له : أنا أشغل عنك وجه محمد فاضربه أنت . فلم يره فعل شئياً ، فلما كلمه في ذلك قال له : والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني و بينه ، أفأضربك .

-ومن عصمته له تعالى أن كثيراً من اليهود والكهنة أنذروا به وعينوه لقريش ، وأخبرهم بسطوته بهم ، وحضوهم عل قتله ، فعصمه الله تعالى حتى بلغ فيه أمره .
ومن ذلك نصره بالرعب أمامه مسيرة شهر ، كما قال
r .

الفصل الخامس العشرون
من معجزاته الباهرة ما جمعه الله له من المعارف والعلوم

ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله له من المعارف والعلوم ، و خصه به من الاطلاع على جميع مصالح الدنيا و الدين ، ومعرفته بأمور شرائعه ، وقوانين دينه ، وسياسة عباده ، ومصالح أمته ، وما كان في الأمم قبله ، وقصص الأنبياء والرسل والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه ، وحفظ شرائعهم وكتبهم ، ووعي سيرهم ، وسرد أنبائهم ، وأيام الله فيهم ، وصفات أعيانهم واختلاف آرائهم ، والمعرفة بمددهم وأعمارهم ، وحكم حكمائهم ، ومحاجة كل أمة من الكفرة ، ومعارضة كل فرقة من الكتابيين بما في كتبهم ، وإعلامهم بأسرارها ومخبآت علومها ، وإخبارهم بما كتموا من ذلك وغيروه .
إلى الإحتواء على لغات العرب ، وغريب ألفاظ فرقها ، والإحاطة بضروب فصاحاتها ، والحفظ لأيامها     وأمثالها ، وحِكَمها ومعاني أشعارها ، والتخصيص بجوامع كلمها .
إلىالمعرفة بضرب الأمثال الصحيحة ، والحكم البينة لتقريب التفهيم للغامض ، والتبيين للمشكل ، إلى تمهيد قواعد الشرع الذي لا تناقض فيه ولا تخاذل ، مع اشتمال شريعته على محاسن الأخلاق ومحامد الآداب وكل شيء مستحسن مفضل ، لم ينكر منه ملحد ذو عقل سليم شيئاً إلا من جهة الخذلان .
بل كل جاحد له وكافر من الجاهلية به إذا سمع ما يدعو إليه صوبه ، واستحسنه دون طلب إقامة برهان عليه . ثم ما أحل لهم من الطيبات ، وحرم عليهم من الخبائث ،وصان به أنفسهم وأعراضهم وأموالهم من المعاقبات والحدودعاجلاً ، والتخويف بالنار آجلاً  مما لا يعلم علمه ولا يقوم به ولا ببعضه إلا من مارس الدرس  والعكوف على الكتب ، ومثافنة بعض هذا 
إلى الاحتواء على ضروب العلوم ، وفنون المعارف ، كالطب ، والعبارة ، والفرائض ، والحساب ،        والنسب ، وغير ذلك من العلوم مما اتخذ أهل هذه المعارف كلامه
r فيها قدوة وأصولاً في علمهم ، -كقوله r : الرؤيا لأول عابر . وهي على رجل طائر.

-وقوله : الرؤيا ثلاث : رؤيا حق ، و رؤيا يحدث بها الرجل نفسه ، و رؤيا تخزين من الشيطان .

-وقوله : إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب .

-وقوله : أصل كل داء البردة .

-وما روي عنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من قوله : المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة ... وإن كان هذا حديثاً لا نصححه وكونه موضوعاً تكلم عليه الدارقطني .

-وقوله : خير ما تداويتم به السعوط واللدود ، والحجامة ، والمشي .
وخير الحجامة يوم سبع عشرة ، وتسع عشرة ، وإحدى وعشرين
. - وفي العود الهندي سبعة أشفية ، منها ذات الجنب .

-وقوله : ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن ، فإن كان لا بد فثلث للطعام ، و ثلث للشراب ، و ثلث للنفس .

-وقوله ـ وقد سئل عن سبأ : أرجل هو أم امرأة ، أم أرض ؟ فقال : رجل ولد عشرة : تيامن منهم ستة  و تشاءم أربعة ... الحديث بطوله .

-وكذلك جوابه في نسب قضاعة ، وغير ذلك مما اضطرت العرب على شغلها بالنسب إلى سؤاله عما اختلفوا فيه من ذلك .

-وقوله : حمير رأس العرب ونابها . ومذحج هامتها وغلصمتها . والأزذ كاهلها وجمجمتها ، وهمدان غاربها وذروتها .

-وقوله : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض .

وقوله في الحوض : زواياه سواء .

-وقوله ـ في حديث الذكر : وإن الحسنة بعشر أمثالها ، فتلك مائة وخمسون على باللسان ، وألف         و خمسمائة في الميزان .

-وقوله ـ وهو بموضع ـ : نعم موضع الحمَّام هذا .

-وقوله : ما بين المشرق والمغرب قبلة .

-وقوله لعيينة ، أو الأقرع : أنا أفرس بالخيل منك .

-وقوله لكتابه : ضع القلم على أذنك ، فإنه أذكر للمُمِل .

هذا مع أنه r كان لا يكتب ، ولكنه أوتي علم كل شيء ، حتى قد وردت آثار بمعرفته حروف الخط     وحسن تصويرها : كقوله : : لا تمدوا بسم الله الرحمن الرحيم  .رواه ابن شعبان من طريق ابن عباس .

-وقوله في الحديث الآخر الذي يروى عن معاوية أنه كان يكتب بين يديه r فقال له : ألق الدواة ،     وحرف القلم ، وأقم الباء ، وفرق السين ، ولا تعور الميم ، وحسن الله ، ومد الرحمن ، وجود الرحيم .
وهذا ، وإن لم تصح الرواية أنه
r كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا ويمنع القراءة والكتابة .

وأما علمه r بلغات العرب ، وحفظه معاني أشعارها ، فأمر مشهور ، قد نبهنا على بعضه أول الكتاب .
وكذلك حفظه لكثير من لغات الأمم ، كقوله في الحديث : سنة ، سنة.. وهي حسنة بالحبشية .
وقوله : ويكثر الهرج وهو القتل بها .
وقوله ـ في حديث أبي هريرة : أَشْكَنْبَ دَرْدَ أي وجع البطن بالفارسية .
إلى غير ذلك مما لا يعلم بعض هذا ولا يقوم به و ا ببعضه إلا من مارس الدرس و العكوف على الكتب     ومثافنة أهلها عمره .
وهو رجل كما قال الله تعالى: أمي ، لم يكتب ولم يقرأ ، ولا عرف بصحبه من هذه صفته ، ولا نشأ بين قوم لهم علم ولا قراءة لشيء من هذه الأمور ، ولا عرف هو ـ قبل بشيء منها ، قال الله تعالى : (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت : 48 ).
إنما كانت غاية معارف العرب النسب وأخبار أوائلها ، والشعر ، والبيان ، وإنما حصل ذلك لهم بعد التفرغ لعلم ذلك ، والاشتغال بطلبه ، ومباحثة أهله عنه .
وهذا الفن نقطة من بحر علمه
r.
ولا سبيل إلى جحد الملحد لشيء مما ذكرناه ، ولا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه إلا قولهم الذي حكاه الله عنهم  :( إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (الأنعام  25) و ( إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)   
فرد الله عز وجل قولَهم بقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل : 103 ) ثم ما قالوه مكابرة العيان ، فإن الذي نسبوا تعليمه إليه إما سلمان ، أو العبد الرومي ، وسلمان إنما عرفه بعد الهجرة ، ونزول الكثير من القرآن ، وظهور ما لا ينعد من الآيات .وأما الرومي فكان أسلم وكان يقرأ على النبي
r، و اختلف في اسمه .
و قيل : بل كان النبي
 rيجلس عنده عند المروة ، وكلاهما أعجمي اللسان ، وهم الفُصحاء اللُّد ،      والخطباء اللُّسْن ، قد عجزوا عن معارضة ما أتى به ، والإتيان بمثله ، بل عن فهم رصفه ، وصورة تأليفه ونظمه ، فكيف بأعجمي ألكن !‍ .
نعم ، وقد كان سلمان ، أو بلعام الرومي ، أو يعيش ، أو جبر ، أو يسار ـ على اختلافهم في اسمه ـ بين أظهرهم يكلمونه مدى أعمارهم ، فهل حكي عن واحد منهم شيء من مثل ما كان يجيء به محمد
r؟   وهل عرف واحد منهم بمعرفة شيء من ذلك ؟ وما منع العدو حينئذ على كثرة عدده ، ودؤوب طلبه ،     وقوة حسده -أن يجلس إلى هذا فيأخذ عليه أيضاً ما يعارض به ويتعلم منه ما يحتج به على شغبه ، كفعل النضر بن الحارث بما كان يمخرق به من أخبار كتبه .
ولا غاب للنبي
r عن قومه ، ولا كثرت اختلافاته إلى بلاد أهل الكتاب ، فيقال : إنه استمد منهم ، بل لم يزل بين أظهرهم يرعى في صغره وشبابه ، على عادة أبنائهم ، ثم لم يخرج عن بلادهم إلى سفرة أو سفرتين ، لم يطل فيهما مكثه مدة يحتمل فيها تعليم القليل ، فكيف الكثير !‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌ .
بل كان في سفره في صحبة قومه ورفاقة عشيرته ، لم يغب عنهم ، ولا خالف حاله مدة مقامه بمكة من تعليم و اختلاف إلى حبر أو قس ، أو منجم أو كاهن .
بل لو كان هذا بعد كله لكان مجيء ما أتى به من معجز القرآن قاطعاً لكل عذر ، ومدحضاً لكل حجة ،     ومجلياً لكل أمر .

                                    الفصل السادس والعشرون

                        من خصائصه وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة والجن

ومن خصائصه r، وكراماته ، وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة والجن ، وإمداد الله له بالملائكة ،        وطاعة الجن له ، ورؤية كثير من أصحابهم لهم ،

*قال الله تعالى : ((إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم : 4 )


-وقال : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال : 12 ).

-وقال : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ *  وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (  سورة الأنفال   9 – 10).

-وقال : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) (الأحقاف : 29 )

*حدثنا سفيان بن العاص الفقيه بسماعي عليه ، حدثنا أبو الليث السمرقندي ، قال : حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي  حدثنا شعبة ، عن سليمان الشيباني ، سمع زر بن حبيش ، عن عبد الله في قوله تعالى  :(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم : 18 ) ـ قال : رأى جبريل عليه السلام في صورته ، له ستمائة جناح .

-والخبر في محادثته مع جبريل وإسرافيل وغيرهما من الملائكة ، وما شاهده من كثرتهم وعظم صور بعضهم ليلة الإسراء مشهور .

وقد رآهم بحضرته جماعة من أصحابه في مواطن مختلفة ،  فرأى أصحابه جبريل عليه السلام في صورة رجل يسأله عن الإسلام والإيمان...    

-ورأى ابن عباس ، أسامة بن زيد ، وغيرهما عنده جبريل في صورة دحية .

-ورأى سعد عن يمينه يساره جبريل وميكائيل في صورة رجلين عليهما ثياب بيض .

-ومثله غير واحد .

-وسمع بعضهم زجر الملائكة خيْلَها يوم بدر .

-وبعضهم رأى تطاير الرؤوس من الكفار ، ولا يرون الضارب .

-ورأى أبو سفيان بن الحارث يومئذ رجالاً بيضاً على خيْل بُلق بين السماء والأرض ، ما يقوم لها شيء .

-وقد كانت الملائكة تصافح عمران بن الحصين .

-وأرى النبي r لحمزة جبريل في الكعبة ، فخر مغشياً عليه .

-ورأى عبد الله بن مسعود الجن ليلة الجن ، و سمع كلامهم ، وشبههم برجال الزط .

-وذكر ابن سعد أن مصعب بن عمير لما قتل يوم أحد أخذ الراية ملك على صورته ، فكان النبي r  يقول له : تقدم يا مصعب فقال له الملك : لست بمصعب ، فعلم أنه ملك .

-وقد ذكر غير واحد من المصنفين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ أنه قال : بينا نحن جلوس مع النبي r إذ أقبل شيخ بيده عصا ، فسلم على النبي r ، فرد عليه ، وقال  r: نغمة الجن. من أنت ؟ قال أنا هامة بن الهيم بن لاقس بن إبليس ، فذكر أنه لقي نوحا ومن بعده ... في حديث طويل ، وأن r  علمه سوراً من القرآن .

-وذكر الواقدي قتل خالد عند هدمه العزى للسوداء التي خرجت له ناشرة شعرها عريانة ، فجزلها بسيفه  وأعلم النبي r ، فقال له : تلك العزى .

-وقال r : إن شيطاناً تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه ، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان :( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (صـ : 35 ). فرده الله خاسئاً .
وهذا باب واسع.

الفصل  السابع والعشرون
مــن دلائــل نـبـوتـه وعـلامـــات رسالـتـه
r

ومن دلائل نبوته وعلامات رسالته ما ترادفت به الأخبار عن الرهبان والأحبار وعلماء أهل الكتاب ، من صفته وصفة أمته ، واسمه وعلاماته ، وذكر الخاتم الذي بين كتفيه ، وما وجد من ذلك في أشعار الموحدين المتقدمين ، من شعر تبع ، والأوس بن الحارثة ، وكعب ابن لؤي ، وسفيان بن مجاشع ، وقس بن ساعدة .
وما ذكر عن سيف بن ذي يزن وغيرهم ، وعرف به من أمره زيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وعثكلان الحميري ، وعلماء يهود ، وشامول عالمهم صاحب تبع ـ من صفته وخبره .
وما أُلفي من ذلك في التوراة والإنجيل مما قد جمعه العلماء وبينوه ، ونقله عنهما ثقاه من أسلم منهم ، مثل ابن سلام ، وابني سعية ، وابن يامين ، ومخيريق ، وكعب ، وأشباههم ممن أسلم من علماء يهود ، وبحيرا ، ونصطور الحبشة ، وصاحب بصرى ، وضغاطر ، وأسقف الشام ، والجارود ، وسلمان ، والنجاشي ، ونصارى الحبشة ، وأساقف نجران ، وغيرهم ممن أسلم من علماء النصارى .
وقد اعترف بذلك هرقل ، وصاحب رومة عالما النصارى ، ورئيساهم ، ومقوقس صاحب مصر ، والشيخ صاحبه ، وابن صوريا ، وابن أخطب ، وأخوه ، وكعب بن أسد ، والزبير بن باطيا ، وغيرهم من علماء اليهود ، ممن حمله الحسد والنفاسة على البقاء على الشقاء .
والأخبار في هذا كثيرة لا تنحصر.
وقد قرع أسماع اليهود والنصارى بما ذكر أنه في كتبهم من صفته وصفة أصحابه ، واحتج عليهم بما انطوت عليه من ذلك صحفهم ، وذمهم بتحريف ذلك وكتمانه ، وليهم ألسنتهم ببيان أمره ، ودعوتهم إلى المباهلة على الكاذب ، فما منهم إلا من نفر عن معارضته ، وإبداء ما ألزمهم من كتبهم إظهاره .
ولو وجدوا خلاف قوله لكان إظهاره أهون عليهم من بذل النفوس والأموال وتخريب الديار ونبذ القتال ، وقد قال لهم :( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران : 93 )
إلى ما أنذر به الكهان ، مثل شافع بن كليب ، وشق ، وسطيح ، وسراد بن قارب ، وخنافر ، وأفعى بحران  وجذل بن جذل الكندي ، وابن خلصة الدوسي ، وسعدى بنت كريز ، وفاطمة بنت النعمان ، ومن لاينعد كثرة . إلى ما ظهر على ألسنة الأصنام من نبوته ، وحلول وقت رسالته ، وسمع من هواتف الجان ، ومن ذبائح النصب ، وأجواف الصور ، وما وجد من اسم النبي
r  والشهادة له بالرسالة مكتوباً في الحجارة والقبور بالخط القديم ما أكثره مشهور ، وإسلام من أسلم بسبب ذلك معلوم مذكور .

الفصل الثامن والعشرون
فـيـمـا ظـهـر مـن الأيـات عـنـد مـولـده r

-ومن ذلك ما ظهر من الآيات   عند مولده ، وما حكته أمه ومن حضره من العجائب ، وكونه رافعاً رأسه عندما وضعته شاخصاً ببصره إلى السماء ، وما رأته من النور الذي خرج معه ولادته ، وما رأته إذ ذاك أم عثمان بن أبي العاص من تدلي النجوم ، وظهور النور عند ولادته ، حتى ما تنظر إلا النور .
وقول الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف : لما سقط فـيـمـا ظـهـر مـن الأيـات عـنـد مـولـده
r على يدي واستهل سمعت قائلاً يقول : رحمك الله ، وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى قصور الروم .

-وما تعرفت به حليمة وزوجها ضِئراه من بركته ، ودرور لبنها له ، ولبن شارفها وخصب غنمه ، و سرعة شبابه ، وحسن نشأته .
وما جرى من العجائب ليلة مولده ، من ارتجاج إيوان كسرى ، وسقوط شرفاته ، وغيض بحيرة طبرية ، وخمود نار فارس ، وكان لها ألف عام لم تخمد .
وأنه كان إذا أكل مع عمه أبي طالب وآله وهو صغير شبِعوا و رَوَوْا ، فإذا غاب فأكلوا في غيبته لم يشبعوا .

-وكان سائر ولد أبي طالب يصبحون شعثاً و يصبح فـيـمـا ظـهـر مـن الأيـات عـنـد مـولـده r صقيلاً دهيناً كحيلاً .

 -قالت أم أيمن حاضنته : ما رأيته فـيـمـا ظـهـر مـن الأيـات عـنـد مـولـده  rشكا جوعاً قطّ  ولا عطشاً صغيراً ولا كبيراً  .

-ومن ذلك حراسة السماء بالشهب ، وقطع رصد الشياطين ، ومنعهم استراق السمع .

-وما نشأ عليه من بُغض الأصنام ، والعفة عن أمور الجاهلية ، وما خصه الله به من ذلك وحماه حتى في ستره في الخبر المشهور عند بناء الكعبة ، إذ أخذ إزاره ليجعله على عاتقه ، ليحمل عليه الحجارة        وتعرى ، فسقط إلى الأرض حتى رد إزاره عليه .
فقال له عمه : ما بالك ؟ فقال : إني قد نهيت عن التعري .

-ومن ذلك إظلال الله له بالغمام في سفره .

-وفي رواية أن خديجة ونساءها رأينه لما قدم ، وما كان يظلانه ، فذكرت ذلك لميسرة ، فأخبرها أنه رأى ذلك منذ خرج معه في سفره .

 -وقد روي ان حليمة رأت غمامة تظله ، وهو عندها .

-وروي ذلك عن أخيه من الرضاعة  .

-ومن ذلك انه نزل في بعض أسفاره قبل مبعثه تحت شجرة يابسة ، فاعشوشب ما حولها وأينعت هي فأشرقت وتدلت عليه أغضانها بمحضر من رآه .

-وميْل فيء الشجرة إليه في الخبر الآخر حتى أظلته .

-وما ذكر من أنه كان لا ظل لشخصيته في شمس ولا قمر ، لأنه كان نوراً .

وأن الذباب كان لا يقع على جسده ولا ثيابه .

ومن ذلك تحبيب الخلوة إليه حتى أوحي إليه ، ثم إعلامه بموته ودنو أجله ، وأن قبره في المدينة وفي بيته ، وأن بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة ، وتخيير الله له عند موته ، وما اشتمل عليه حديث الوفاة من كراماته ، وتشريفه ، وصلاة الملائكة على جسده على ما رويناه في بعضها .
و استئذان ملك الموت عليه ، و لم يستأذن على غيره قبله .
و نداؤهم الذي سمعوه ألا ينزعوا القميص عنه عند غسله .
و ما روي من تعزية الخضر والملائكة أهل بيته عند موته .
إلى ما ظهر على أصحابه من كرامته وبركته في حياته وموته ، كاستسقاء عمر بعمه ، وتبرك غير واحد بذريته   .

الفصل التاسع والعشرون
معجزات نبينا
r أظهر من سائر معجزات الرسل عليهم السلام

* قال القاضي أبو الفضل : قد أتينا في هذا الباب على نكت من معجزاته واضحة ، وجمل من علامات نبوته مقنعة ، في واحد منها الكفاية والغنية ، وتركنا الكثير سوى ما ذكرنا ، واقتصرنا من الأحاديث الطوال على عين الغرض وفص المقصد ، ومن كثير الأحاديث وغريبها على ما صح واشتهر إلا يسيراً من غريبه مما ذكره مشاهير الأئمة ، وحذفنا الإسناد في جمهورها ، طلباً للإختصار .
وبحسب هذا الباب لو تقصي أن يكون ديواناً جامعاً يشتمل على مجلدات عدة .
ومعجزات نبينا
r أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين :
أحدهما : كثرتها ، وأنه لم يؤت نبي معجزةً إلا وعند نبينا مثلها ، أو ما هو أبلغ منها .
وقد نبه الناس على ذلك ، فإن أردته فتأمل فصول هذا الباب ، ومعجزات من تقدم من الأنبياء ـ تقف على ذلك إن شاء الله تعالى .
وأما كونها كثيرة فهذا القرآن ، وكله معجز ، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين سورة : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، أو آية في قدرها .
وذهب بعضهم إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة .
وزاد آخرون أن كل جملة منتظمة منه معجزة ، وإن كانت من كلمة أو كلمتين .
والحق ما ذكرناه أولاً ، لقوله تعالى :( قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ
(يونس : 38 )   فهو أقل ما تحداهم به ، مع ما ينصر هذا من نظر وتحقيق يطول بسطه .
وإذا كان هذا ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف على عدد بعضهم ، وعدد كلمات :( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ * ) عشر كلمات ، فتجزؤ القرآن على نسبة عدد( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) أزيد من سبعة آلاف جزء ، كل واحد منها معجز في نفسه .
ثم إعجازه ـ كما تقدم ـ بوجهين : طريق بلاغته ، و طريق نظمه ، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان ، فتضاعف العدد من هذا الوجه .
ثم فيه وجوه إعجاز أخر من الإخبار بعلوم الغيب ، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة الخبر عن أشياء من الغيب ، كل خبر منها بنفسه معجز ، فتضاعف العدد كرة أخرى .
ثم وجوه الإعجاز الأخر التي ذكرناها توجب التضعيف ، هذا في حق القرآن ، فلا يكاد يأخذ العد معجزاته ، ولا يحوي الحصر براهينه .

ثم الأحاديث الواردة ، والأخبار الصادرة عنه r في هذه الأبواب وعما دل على أمره مما أشرنا إلى جمله يبلغ نحواً من هذا .

الوجه الثاني : وضوح معجزاته r ، فإن معجزات الرسل كانت بقدر همم أهل زمانهم ، وبحسب الفن الذي سما فيه قرنه .فلما كان موسى غاية علم أهله السحر بعث إليهم موسى بمعجزة تُشبه ما يدعون قدرتهم عليه ، فجاءهم منها ما خرق عادتهم ، ولم يكن في قدرتهم  ، وأبطل سحرهم .
وكذلك زمن عيسى أغنى ما كان الطب ، وأوفر ما كان أهله ، فجاءهم أمر لا يقدرون عليه ، وأتاهم ما لم يحتسبوه من إحياء الميت ، وإبراء الأكمه والأبرص دون معالجة ولا طب .
وهكذا سائر معجزات الأنبياء .

ثم إن الله تعالى بعث محمداً r، وجملة معارف العرب وعلومها أربعة : البلاغة ، والشعر ، والخبر ،     والكهانة ، فأنزل عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة فصول من الفصاحة ، والإيجاز ، والبلاغة الخارجة عن نمط كلامهم ، ومن النظم الغريب ، والأسلوب العجيب الذي لم يهتدوا في المنظوم إلى طريقه ، لا علموا في أساليب الأوزان منهجه ، ومن الأخبار عن الكوائن والحوادث والأسرار والمخبآت والضمائر ، فتوجد على ما كانت ، ويعترف المخبر عنها بصحة ذلك وصدقه ، وإن كان أ'عدى العدو .
فأبطل الكهانة التي تصدق مرةً وتكذيب عشراً ، ثم اجتثها من أصلها برجم الشهب ، ورصد النجوم .
وجاء من الأخبار عن القرون السالفة ، وأنباء الأنبياء ، والأمم البائدة ، والحوادث الماضية ـ ما يعجز من تفرغ لهذا العلم عن بعضه على الوجوه التي بسطناها و بينا المعجز فيها .
ثم بقيت هذه المعجزة الجامعة لهذه الوجوه إلى الفصول الأخر التي ذكرناها في معجزات القرآن ثابتةً إلى يوم القيامة بينة الحجة لكل أمة تأتي ، لا يخفى وجوه ذلك على من نظر فيه ، وتأمل وجوه إعجازه .
إلى ما أخبر به من الغيوب على هذه السبيل ، فلا يمر عصر ولا زمن إلا يظهر فيه صدقه بظهور مخبره على ما أخبر ، فيتجدد الإيمان ، ويتظاهر البرهان ، وليس الخبر كالعيان كما قيل .
وللمشاهدة زيادة في اليقين ، والنفس أشد طمأنينة إلى عين اليقين منها إلى علم اليقين ، وإن كان كل عندها حقاً .

وسائر معجزات الرسل انقرضت بانقراضهم ، وعُدمت بعدم ذواتها ، ومعجزة نبينا r لا تبيد ولا تنقطع ، وآياته تتجدد ولا تضمحل ، ولهذا أشارr   بقوله فيما حدثنا القاضي الشهيد أبو علي ، حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو محمد ، وأبو إسحاق ، وأبو الهيثم ، قالوا : حدثنا الفربري ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا الليث ، عن سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي r قال : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أني أكثرهم تابعاً يوم القيامة .
هذا معنى الحديث عن بعضهم ، وهو الظاهر والصحيح إن شاء الله .

وذهب غير واحد من العلماء في تأويل هذا الحديث وظهور معجزة نبينا r إلى معنى آخر من ظهورها بكونها وحياً وكلاماً لا يمكن التخييل فيه ، ولا التحيل عليه ، ولا التشيبه ، فإن غيرها من معجزات الرسل قد رام المعاندون لها بأشياء طمعوا في التخييل بها على الضعفاء كإلقاء السحرة حبالهم وعصيهم  وشِبه هذا مما يخيله الساحر ، أو يتحيل فيه .
والقرآن كلام ليس للحيلة ولا للسحر ، ولا التخييل فيه عمل ، فكان من هذا الوجه عندهم أظهر من غيره من المعجزات ، كما لا يتم لشاعر ولا لخطيب أن يكون شاعراً أو خطيباً بضرب من الحيل والتمويه .
والتأويل الأول أخلص وأرضى .
وفي هذا التأويل الثاني ما يغمض عليه الجفن ، ويغضى .
ووجه ثالث على مذهب من قال بالصَّرفة ، وأن المعارضة كانت في مقدور البشر ، فصرفوا عنها ، أو على أحد مذهبي أهل السنة من أن الإتيان بمثله من جنس مقدورهم ، ولكن لم يكن ذلك قبل ، ولا يكون بعد ، لأن الله تعالى لم يقدرهم ، ولا يقدرهم عليه .
وبين المذهبين فرق بين ، وعليهما جميعاً ، فتَتْركُ العرب الإتيان بما في مقدورهم ، أو ما هو من جنس مقدورهم ، ورضاهم بالبلاء والجلاء ، والسباء والإذلال ، وتغيير الحال ، وسلب النفوس والأموال ،       والتقريع والتوبيخ ، والتعجيز والتهديد والوعيد أبين آية للعجز عن الإتيان بمثله ، والنكول عن معارضته  وأنهم منعوا عن شيء هو من جنس مقدورهم .
وإلى هذا ذهب الإمام أبو المعالي الجويني وغيره ، قال : وهذا عندنا أبلغ في خرق العادة بالأفعال البديعة في أنفسها ، كقلب العصا حيةً ونحوها ، فإنه قد يسبق إلى بال الناظر بداراً أن ذلك من اختصاص صاحب ذلك بمزية معرفة في ذلك الفن ، وفضل علم إلى أن يرد ذلك صحيح النظر .
وأما التحدي للخلائق مئين من السنين بكلام من جنس كلامهم ليأتوا بمثله فلم يأتوا ، فلم يبق بعد توفر الدواعي على المعارضة ثم عدمها إلا منع الله الخلق عنها بمثابة ما لو قال نبي : آيتي أن يمنع الله القيام عن الناس مع مقدرتهم عليه ، وارتفاع الزمانة عنهم ، فكان ذلك ، وعجزهم الله تعالى عن القيام ـ لكان ذلك من أبهر آية ، وأظهر دلالة . و بالله التوفيق .

وقد غاب عن بعض العلماء وجه ظهور آيته على سائر آيات الأنبياء ، حتى احتاج للعذر عن ذلك بدقة أفهام العرب ، وذكاء ألبابها ، ووفور عقولها ، وأنهم أدركوا المعجزة فيه بفطنتهم ، وجاءهم من ذلك بحسب إدراكهم ، وغيرهم من القبط و بني إسرائيل وغيرهم لم يكونوا بهذه السبيل ، بل كانوا من الغباوة وقلة الفطنة بحيث جوز عليهم فرعون أنه ربهم ، وجوز عليهم السامري ذلك في العجل بعد إيمانهم ،     وعبدوا المسيح مع أجماعهم على صلبه ،( َمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء  157)، فجاءتهم من الآيات الظاهرة البينة للأبصار بقدر غلظ أفهامهم ما لا يشكون فيه ، ومع هذا فقالوا( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً  ) (البقرة : 55 ) ولم يصبروا على المن والسلوى ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .

والعرب على جاهليتها أكثرها يعترف بالصانع ، وإنما كانت تتقرب بالأصنام إلى الله زلفى .
ومنهم من آمن بالله وحده من قبل الرسول
r  بدليل عقله و صفاء لبِّه .
ولما جاءهم الرسول بكتاب الله فهموا حكمته ، وتبينوا بفضل إدراكهم لأول وهلة معجزته ، فآمنوا به ،    وازدادوا كل يوم إيماناً ، ورفضوا الدنيا كلها في صحبته ، وهجروا ديارهم وأموالهم ، وقتلوا آباءهم      وأبناءهم في نصرته ، وأتى في معنى هذا بما يلوح له رونق ، ويعجب منه زبرج لو احتيج إليه وحقق ، لكنا قدمنا من بيان معجزة نبينا
r وظهورها ما يغنى عن ركوب بطون هذه المسالك وظهورها .  وبالله أستعين ـ وهو حسبي ، ونعم الوكيل ـ

 

 

القسم الثاني
فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام

مقدمة القسم الثاني:

قال القاضي أبو الفضل وفقه الله: وهذا قيم لخصنا فيه الكلام في أربعة أبواب على ما ذكرناه في أول الكتاب ومجموعها في وجوب تصديقه واتباعه في سنته وطاعته ومحبته ومناصحته وتوقيره وبره وحكم الصلاة عليه والتسليم وزيارة قبره r

الباب الأول
في فرض الإيمان به ووجوب طاعته واتباع سنته
r

ويتضمن هذا الباب 5 فصول:

1-فرض الإيمان به r

2-وجوب طاعتهr

3-وجوب اتباعه r

4- فيما ورد عن السلف والأئمة من اتباع سنته والإقتداء بهديه وسيرته  r

5- في أن مخالفة أمره  r  وتبديل سنته ضلال وبدعة

                                     الفــصــل الأول

                                         فرض الإيمان به r

إذا تقرر بما تقدم ثبوت نبوته وصحة رسالته ، وجب الإيمان به وتصديقه فيما أتى به ، قال الله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (التغابن : 8 )

وقال : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفتح : 8-9 )   .

وقال :(َآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف  158 )
فالإيمان بالنبي محمد
r  واجب متعين لا يتم إيمان إلا به ، ولا يصح إسلام إلا معه ، قال الله تعالى : (وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً) (الفتح : 13 )

*حدثنا أبو محمد الخشني الفقيه بقراءتي عليه ، حدثنا الإمام أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي  حدثنا ابن عمرويه ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا أبو الحسين ، حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا روح ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله r قال : أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقها ، وحسابُهم على الله .

قال القاضي أبوالفضل : والإيمان به _ r هو تصديق نبوته ورسالة الله له ، وتصديقه في جميع ما جاء به وما قاله ، ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان بأنه رسول الله ، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب ، والنطق بالشهادة بذلك اللسان ، ثم الإيمان به والتصديق له كما ورد في الحديث نفسه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله

وقد زاده وضوحاً في حديث جبريل ، إذقال : أخبرني عن الإسلام ، قال النبي r: أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ... وذكر أركان الإسلام .

فقد قرر أن الإيمان به محتاج إلى العقد بالجنان ، والإسلام به مضطر إلى النطق باللسان   .
وهذه الحال المحمودة التامة .

وأما الحال المذمومة فالشهادة باللسان دون تصديق القلب ، وهذا هو النفاق ،قال الله تعالى: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون ( 1 )، أي كاذبون في قولهم ذلك عن اعتقادهم وتصديقهم ، وهم لا يعتقدونه ، فلما لم تصدق ذلك ضمائرهم لم ينفعهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فخرجوا عن اسم الإيمان ، ولم يكن لهم في الآخرة حكمه ، إذ لم يكن معهم إيمان ، ولحقوا بالكافرين في الدرك الأسفل من النار ، وبقي عليهم حكم الإسلام ، بإظهار شهادة الإسلام ، في أحكام الدنيا المتعلقة بالأئمة وحكام المسلمين الذين أحكامهم على الظواهر ، بما أظهروه من علامة الإسلام ، إذ لم يجعل للبشر سبيل إلى السرائر ، ولا أمروا بالبحث عنها  بل نهى النبي r عن التحكم عليها ، وذم ذلك ، وقال : هلا شققت عن قلبه .
وللفرق بين القول والعقد ما جعل في حديث جبريل : الشهادة من الإسلام ، والتصديق من الإيمان .
وبقيت حالتان أخريان بين هذين :
إحداهما ـ أن يصدق بقلبه ثم يخترم ـ قبل اتساع وقت للشهادة بلسانه ، فاختلف فيه ، فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول والشهادة به ، ورآه بعضهم مؤمناً مستوجباً للجنة ، لقوله
r: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فلم يذكر سوى ما في القلب .
وهذا مؤمن بقلبه ، غير عاص ولا مفرط بترك غيره .
وهذا هو الصحيح في هذا الوجه .
الثانية : أن يصدق بقلبه ويطول مهله ، وعلم ما يلزمه من الشهادة ، فلم ينطق بها جملة ولا استشهد في عمره ولا مرة ، فهذا اختلف فيه أيضاً ، فقيل : هو مؤمن ، لأنه مصدق ، والشهادة من جملة الأعمال ، فهو عاص بتركها غير مخلد في النار . وقيل : ليس بمؤمن حتى يقارن عقده شهادة اللسان ، إذ الشهادة إنشاء عقد ، والتزام ايمان ، وهي مرتبطة مع العقد ، ولا يتم التصديق مع المهلة إلا بها .
وهذا هو الصحيح .
وهذا نبذ يفضي إلى متسع من الكلام في الإسلام والإيمان وأبوابهما ، وفي الزيادة فيهما والنقصان ، وهل التجزي ممتنع على مجرد التصديق لا يصح فيه جملة ، وإنما يرجع إلى ما زاد عليه من عمل ، وقد يعرض فيه لاختلاف صفاته و تباين حالاته ، من قوة يقين ، وتصميم اعتقاد ، ووضوح معرفة ، ودوام حالة ، وحضور قلب .
و في بسط هذا خروج عن غرض التأليف ، وفيما ذكرنا غنية فيما قصدنا إن شاء الله .

الفصل الثاني
فـــي وجــــوب طــاعــتـــه
r

وأما وجوب طاعته ، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته ، لأن ذلك مما أتى به .    *قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ) (الأنفال : 20)

وقال : (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 ).

وقال : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران : 132 )

وقال : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (النور : 54 )

وقال : (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء : 80 )

وقال : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر : 7 )   وقال : (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء : 69 )

وقال : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ  ) (النساء : 64 )،

فجعل تعالى طاعة رسوله طاعته ، وقرن طاعته بطاعته ، ووعد على ذلك بجزيل الثواب ، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب ، وأوجب امتثال أمره ، واجتناب نهيه .
قال المفسر ون والأئمة : طاعة الرسول التزام سنته والتسليم لما جاء به .
وقالوا : وما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه .
وقالوا من يطع الرسول في سنته يطع الله في فرائضه .
وسئل سهل بن عبد الله عن شرائع الإسلام ، فقال :  (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)  ( الحشر   7 )  .
وقال السمرقندي : يقال : أطيعوا الله في فرائضه ، والرسول في سنته . وقيل : أطيعوا الله فيما حرم عليكم ، والرسول فيما بلغكم .
ويقال : أطيعوا الله بالشهادة له بالربوبية ، والنبي بالشهادة له بالنبوة .
*حدثنا أبو محمد بن عتاب بقراءتي عليه ' حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن خلف ، حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن ـ أنه سمع أبا هريرة يقول : إن رسول الله
r قال : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، و من عصى أميري فقد عصاني .
فطاعة الرسول من طاعة الله ، إذ الله أمر بطاعته ، فطاعته امتثال لما أمر الله به ، وطاعة له .
وقد حكى الله عن الكفار في دركات جهنم : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (الأحزاب : 66 )، فتمنوا طاعته حيث لاينفعهم التمني .
وقال
r : إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عنه
r : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى . قالوا : يا رسول الله ، ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى .

وفي الحديث الأخر الصحيح ، عنه r : مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً ، فقال : يا قوم  إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنجاء ، فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا ، فانطلقوا  فانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم ، الجيش فأهلكهم واجتاحهم  فذلك مثل من أطاعني ، واتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق .

وفي الحديث الآخر في مثله : كمثل من بنى داراً وجعل فيها مأدبة ، وبعث داعياً ، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ، فالدار الجنة  والداعي محمد r، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله ، ومن عصى محمداً فقد عصى الله ، ومحمد فرق بين الناس

الفصل الثالث
في وجوب اتباعه ، وامتثال أمره ، والإقتداء بهديه

وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والإقتداء بهديه ، فقد قال تعالى : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران : 31 )

-وقال : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف : 158 )

-وقال : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء : 65 )، أي ينقادون لحكمك ، يقال : سلم ، واستسلم ، وأسلم ، إذا انقاد .

-وقال : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة : 6 )
قال محمد بن علي الترمذي : الأسوة في الرسول الإقتداء به والاتباع لسنته ، وترك مخالفته في قول أو فعل .
و قال غير واحد من المفسرين بمعناه . و قيل : هو عتاب للمتخلفين عنه .

وقال سهل ـ في قوله تعالى :( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)  الفاتحة ـ قال : بمتابعة السنة ، فأمرهم تعالى بذلك ، ووعدهم الإهداء باتباعه ، لأن الله تعالى أرسله بالهدى ودين الحق ليزكيهم الكتاب والحكمة ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ، ووعدهم محبته تعالى في الآية الأخرى ومغفرته إذا اتبعوه ، وآثروه على أهوائهم ، وما تجنح إليه نفوسهم ، وأن صحة إيمانهم بانقيادهم له ، ورضاهم بحكمه ، وترك الإعتراض عليه .

-وروى عن الحسن أن أقواماً قالوا : يا رسول الله ، إنا نحب الله . فأنزل الله تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران : 31 )

-وروي أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف وغيره ، وأنهم قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أشد حباً الله ، فانزل الله الآية .

-وقال الزجاج : معناه إن كنتم تحبون الله أن تقصدوا طاعته ، فافعلوا ماأمركم به ، إذ محبة العبد الله    ورسوله طاعته لهما ، ورضاه بما أمرا ، ومحبة الله لهم عفوه عنهم ، وإنعامه عليهم برحمته .

و قال : الحب من الله عصمة وتوفيق ، ومن العباد طاعة ، كما قال القائل :

                   تعصي الإله وأنت تظهر حبه      هذا لعمري في القياس  بديع

                   لو كـان حبك صادقاً لأطعته       إن المحب لمـن يحب مطيع

ويقال : محبة العبد الله تعظيمه له وهيبته منه ، ومحبة الله له رحمته له ، وإرادته الجميل له ، وتكون بمعنى مدحه وثنائه عليه .

قال القشيري : فإذا كان بمعنى الرحمة والإرادة والمدح كان من صفات الذات .
ويأتي بعد في ذكر محبة العبد غير هذا بحول الله تعالى .

*حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر الفقيه ، قال : حدثنا أبو الأصبغ عيسى ابن سهل ، وحدثنا أبو الحسن يونس بن مغيث الفقيه بقراءتي عليه ، قالا : حدثنا حاتم بن محمد ، قال : حدثنا أيو حفص الجهني ، حدثنا أبو بكر الآجري ، حدثنا إبراهيم بن موسى الجوزي ، حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ثور ، بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو الأسلمي ، وحجر الكلاعي ، عن العرباض بن سارية في حديثه في موعظة النبي r أنه قال : فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
زاد في حديث جابر بمعناه : وكل ضلالة في النار .

-وفي حديث أبي رافع عنه r : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري ، مما أمرت به  أو نهيت عنه ، فيقول :  لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه .

-وفي حديث عائشة رضي الله عنها : صنع رسول الله r شيئاً ترخص فيه فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي r فحمد الله ، ثم قال : ما بال قوم يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إني لأعلمهم با الله ،و أشهدهم له خشية .

-وروى عنه r أنه قال : القرآن صعب على من كرهه ، وهو الحكم ، فمن استمسك بحديثي وفهمه      وحفظه جاء مع القرآن ، ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة ، أمرت أمتي أن يأخذوا بقولي  ويطيعوا أمري ، ويتبعوا سنتي ، فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ...قال الله تعالى : (َومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر : 7 )

-وقال r: من اقتدى بي فهو مني ، ومن رغب عن سنتي فليس مني .

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي r أنه قال : إن أحسن الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ،وشر الأمور محدثاتها .

-وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال النبي r : العلم ثلاثة : فما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة .

-وعن الحسن بن أبي الحسن رضي الله عنه : قال r : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة.

-وقال r : إن الله تعالى يدخل العبد الجنة بالسنة تمسك بها .

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي r  قال : المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد .

-وقال r : إن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وإن أمتي تفترق على ثلاث وسبعين ، كلها في النار إلا  واحدة . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : الذي انا عليه اليوم و أصحابي .

-وعن أنس قال r : من أحيا سنتي فقد أحياني ،و من أحياني كان معي في الجنة .

-وعن عمرو بن عوف المزنى أن النبي r قال لبلال بن الحارث : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً .

الفصل الرابع
فيما ورد عن السلف والأئمة من اتباع سنته
والإقتداء بهديه وسيرته r

*وأما ما ورد عن السلف والأئمة من اتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته ، فحدثنا الشيخ أبو عمر أن موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد الفقيه سماعاً عليه ، قال : حدثنا أبو عمر الحافظ ، حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، ووهب بن مسرة ، قالا : حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد ـ أنه سأل عبد الله بن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ،أنا نجد صلاة الخوف تعالى و صلاة الحضر في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر ؟ فقال ابن عمر : يا بن أخي ، إن الله بعث إلينا محمداً r ، ولا نعلم شيئاً ، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل .

-وقال عمر بن عبد العزيز : سن رسول الله r ووُلاة الأمر بعده سنناً ، الأخذ بها تصديق بكتاب الله ،  واستعمال بطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغيرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها ، من اقتدى بها فهو مهتد ، ومن انتصر بها منصور ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم و ساءت مصيراً

-وقال الحسن بن أبي الحسن : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة.

-وقال ابن شهاب : بلغنا عن رجال من أهل العلم ، قالوا : الاعتصام بالسنة نجاة

 -وكتب عمر بن الخطاب إلى عماله بتعلم السنة والفرائض واللحن ، أي اللغة ، وقال : إن ناساً يجادلوكم=   يعني بالقرآن ، فخذوهم بالسنن ، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله .
وفي خبره ـ حين صلى بذي الحليفة ركعتين ، فقال : أصنع كما رأيت رسول الله r يصنع

-وعن علي ـ حين صلى فقال له عثمان : ترى أني انهي الناس عنه وتفعله ! قال : لم أكن أدع سنة رسول الله r لقول أحد من الناس

 -وعنه : ألا إني لست بنبي ولا يوحى إلي ، ولكني أعمل بكتاب الله و سنة محمد r ما استطعت

-وكان ابن مسعود يقول : القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة

-وقال ابن عمر : صلاة السفر ركعتان ، من خالف السنة كفر

-وقال أبي بن كعب : عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه ففاضت عيناه من خشية ربه ، فيعذبه الله أبداً ، وما علىالأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها ، فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة ، فتحات عنها ورقها إلا حط الله خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها ، فإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة ، وموافقة بدعة ، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً  واقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء و سنتهم.

-وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إلى عمر بحال بلده ، وكثرة لصوصه ، هل يأخذهم بالظنة أو يحملهم على البينة وما جرت عليه السنة ؟
فكتب إليه عمر : خذهم بالبينة وما جرت عليه السنة ، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله .

-وعن عطاء ـ في قوله تعالى  : (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء : 59 ): أي إلى كتاب الله وسنة رسول الله r

-وقال الشافعي : ليس في سنة رسول الله r إلا اتباعها

-وقال عمر ـ و نظر إلى الحجر الأسود : إنك حجر لا تنفع ولا  تضر ، ولولا أني رأيت رسول الله r يقبلك ما قبلتك ، ثم قبله   

-ورُئي عبد الله بن عمر يدير ناقته في مكان ، فسُئل عنه ، فقال : لا أدري إلا أني رأيت رسول الله r فعله ، ففعلته   

- وقال أبو عثمان الحيري : من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة .  

- وقال سهل التستري : أصول مذهبنا ثلاثة : الاقتداء بالنبي r  في الأخلاق والأفعال ، والأكل من الحلال  وإخلاص النية في جميع الأعمال

-وجاء في تفسير قوله تعالى :  ( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ  ) (فاطر : 10 ) ـ إنه الاقتداء برسول الله r

-وحكي عن أحمد بن حنبل : قال : كنت يوماً مع جماعة تجردوا ودخلوا الماء ، فاستعملت الحديث من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ولم أتجرد ، فرأيت تلك الليلة قائلاً لي : يا أحمد أبشر  فإن الله قد غفر لك باستعمالك السنة ، وجعلك إماماً يقتدى بك .
قلت من أنت ؟ قال : جبريل .

الفصل الخامس
في أن مخالفة أمره  
r  وتبديل سنته ضلال وبدعة

ومخالفة أمره وتبديل سنته ضلال وبدعة متوعد من الله تعالى عليه بالخذلان والعذاب ،

*قال الله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور : 63 ).

-وقال : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء : 115 )

-حدثنا أبو محمد عبد الله بن أبي جعفر ، وعبد الرحمن بن عتاب بقراءتي عليهما ، قالا : حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو الحسين بن مسرور الدباغ ، حدثنا أحمد بن أبي سليمان ، حدثنا سحنون ابن سعيد ، حدثنا ابن القاسم ، حدثنا مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ـ أن رسول الله r خرج إلى المقبرة ... و ذكر الحديث في صفة أمته ، وفيه : فَلَيُذادَنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضال ، فأناديهم : ألا هلم ، فيقال :إنهم قد بدلوا بعدك . فأقول : فسحقاً ، فسحقاً ، فسحقاً .

-وروى عن أنس أن النبي rقال : من رغب عن سنتي فليس مني .

-وقال : من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد .

-وروى ابن أبي رافع ، عن أبيه ، عن النبي r  قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه .
زاد في حديث المقدام : ألا وإن ما حرم رسول الله
r مثل ما حرم الله .

وقال r : و جيء بكتاب في كتف ـ : كفى بقوم حمقاً ـ أو قال : ضلالاً ـ أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى غير نبيهم ، أو كتاب غير كتابهم ، فنزلت : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت : 51 ).

وقال r : هلك المتنطعون .

-وقال  أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لست تاركاً شيئاً كان r  يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ .

الباب الثاني

فــــي مـــحـــبـــتــــه r

وفيه 6 قصول :

1-في لزوم محبتــه r

2- فـي ثواب محبتــه r

3- فيما روي عن السلف والأئمة من محبتهم للنبي  rوشوقهم له

4- فــي عــلامـة محبتـه r

5- في معنى المحبة للنبي r وحقيقتها

6- فـي وجـوب منا صحتـه r

                                         الفصل الأول

فــي لـــزوم مـحـبـتـهr

*قال الله تعالى : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة : 24 ).

فكفى بهذا حضاً و تنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته ، ووجوب فرضها ، وعظم خطرها ، واستحقا قه لها r ، إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله ، وأوعدهم بقوله تعالى : (فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ) (التوبة : 24 ).ثم فسقهم بتمام الآية ، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله

-حدثنا أبو علي الغساني الحافظ فيما أجازنيه ، وهو مما قرأته على غير واحد ، قال : حدثنا سراج بن عبد الله القاضي ، حدثنا أبو محمد الأصيلي تعالى حدثنا المروزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يعقوب بن أبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس رضي الله عنه ـ أن رسول الله أن رسول الله r قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده و والده و الناس أجمعين .

وعن أبي هريرة نحوه .

وعن أنس ، عنه r : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار .

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي r : لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي .فقال النبي r : لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه .
فقال عمر : والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الآن يا عمر .

قال سهل : من لم ير ولاية الرسول عليه في جميع الأحوال ، ويرى نفسه في ملكه r لا يذوق حلاوة سنته ، لأن النبي r قال: لا يؤمن أحدكم حتى يكون أحب إليه من نفسه .

الفصل الثاني
فـــي ثــــواب مـحـبـتـــه
r

حدثنا أبو محمد بن عتاب بقراءتي عليه ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن خلف ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أنس رضي الله عنه -أن رجلاً أتى النبي r فقال : متى الساعة يا رسول الله ؟ قال : ما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ، ولكني أحب الله و رسوله . قال : أنت مع من أحببت .

-وعن صفوان بن قدامة : هاجرت إلى النبي r فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، ناولني يدك أبايعك . فناولني يده ، فقلت يا رسول الله ، إني أحبك . قال : المرء مع من أحب .

-وروى هذا اللفظ عن النبي r عبد الله بن مسعود تعالى و أبو موسى ، و أنس ، وعن أبي ذر بمعناه  
وعن علي أن النبي
r أخذ بيد حسن وحسين ، فقال : من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة .

-وروي أن رجلاً أتى النبي r فقال : يا رسول الله ، لأنت أحب إلي من أهلي ومالي ، وإني لأذكرك فما أصبرحتى أجيء فأنظر إليك ، وإني ذكرت موتي وموتك تعالى فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين  وإن دخلتها لا أراك . فأنزل الله تعالى : ((وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء : 69 ) فدعا به، فقرأها عليه .

-وفي حديث آخر : كان رجل عند النبي r ينظر إليه لا يطرف ، فقال ما بالك ؟ قال : بأبي وأمي ! أتمتع من النظر إليك ، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله ، فأنزل الله الآية .
وفي حديث أنس رضي الله عنه : من أحبني كان معي في الجنة .

الفصل الثالث  
فيما روي عن السلف والأئمة من محبتهم للنبي
 rوشوقهم له

*حدثنا القاضي الشهيد ، حدثنا الرازي ، حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله   r قال : من أشد أمتي لي حباً يكونون بعدي ، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله .
ومثله عن أبي ذر .

-وقد تقدم حديث عمر رضي الله عنه ، و قوله للنبي r: لأنت أحب إلى من نفسي . وما تقدم عن الصحابة في مثله .

-وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه : ما كان أحد أحب إلي من رسول الله r

-وعن عبدة بنت خالد بن معدان ، قالت : ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول r وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يسميهم ويقول : هم أصلي وفصلي ، وإليهم يحن قلبي ، طال شوقي ، فعَجِّل رب قبضي إليك حتى يغلبه النوم .

-وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للنبي  r: والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه -يعني أباه أبا قحافة ، وذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك .

-ونحوه عن عمر بن الخطاب ، قاله للعباس رضي الله عنه : أن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، لأن ذلك أحب إلى رسول الله r .

وعن ابن إسحاق ان امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله r  ، فقالت : ما فعل رسول الله r ؟ قالوا : خيراً ، هو بحمد الله كما تحبين . قالت : أرونيه حتى أنظر إليه . فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل .

-وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف كان حبكم رسول الله r   قال : كان والله أحب إلينا  من اموالنا وأولادنا و آبائنا وأمهاتنا ، ومن الماء البارد على الظمأ .

-وعن زيد بن أسلمك : خرج عمر رضي اللله عنه ليلة يحرس الناس ، فرأى مصباحاً في بيت ، وإذا عجوز تنفش صوفاً ، و تقول :

على محمد صلاة الأبرار       صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواماً بكاً بالأسحار       يا ليت شعري والمنايا أطوار
                              هــل تـجـمـعـنـي وحـبـيـبي الـدار

تعني النبي صلى الله عليه و سلم . فجلس عمر رضي الله عنه يبكي ، و في الحكاية طول .

-وروي أن عبد الله بن عمر خدرت رجله فقيل له : اذكر أحب الناس إليك يزل عنك . فصاح : يا محمداه ! فانتشرت .

-ولما احتضر بلال رضي الله عنه نادت امرأته : واحزاناه ! فقال : واطرباه ! غداً ألقى الأحبهْ . محمداً   وحزبهْ .

 ومثله عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما  .

-ويروى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : اكشفي لي قبر رسول الله r ، فكشفته لها  فبكت حتى ماتت .

ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه قال ابو سفيان ابن حرب : أنشدك بالله يا زيد ، أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه ، وإنك في أهلك ؟
فقال زيد : والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني جالس في أهلي .
فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ! .

-وعن ابن عباس : كانت المرأة إذا أتت النبي r حلفها بالله : ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة بأرض عن ارض ، وما خرجت إلا حباً لله ورسوله .

-ووقف ابن عمر على ابن الزبير رضي الله عنهما بعد قتله  فاستغفر له ، وقال : كنت والله ما علمت صواماً قواماً تحب الله ور سوله .

                                               الفصل الرابع

                               فــي عـــلامـــة مـحـبـتـه r

اعلم أن من أحب شيئاً آثره وآثر موافقته ، وإلا لم يكن صادقاً في حبه ، وكان مدعياً . فالصادق في حب النبي r من تظهر علامة ذلك عليه ، وأولها الاقتداء به ، واستعمال سنته ، واتباع أقواله وأفعاله ،     واجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه ، وشاهد هذا قوله تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران : 31 ).
وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه  وموافقة شهوته ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر : 9 ).
و إسخاط العباد في رضا الله تعالى .

-حدثنا القاضي أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو الحسن الصيرفي ، وأبو الفضل ابن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا مسلم بن حاتم ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أبيه  عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال أنس بن مالك رضي الله عنه : قال لي رسول الله r : يا بني ، إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل .
ثم قال لي : يا بني ، و ذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ، و من أحبني كان معي في الجنة .

فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله ورسوله ، و من خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ، و لا يخرج عن اسمها .
ودليله قوله
r للذي حده في الخمر فلعنه بعضهم ، وقال : ما أكثر ما يؤتى به !
فقال النبي
r: لا تلعنه ، فإنه يحب الله و رسوله .

-ومن علامات محبة النبي r كثرة ذكره له ، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره .

-ومنها كثرة شوقه إلى لقائه ، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه .

-وفي حديث الأشعريين عند قدومهم المدينة أنهم كانوا يرتجزون : غداً نلقى الأحبهْ. محمداً وصحبهْ .
وتقدم قول بلال .

-ومثله قال عمار قبل قتله . و ما ذكرناه من قصة خالد بن معدان .

-ومن علاماته مع كثرة ذكره رسول الله تعظيمه له وتوفيره عند ذكره   وإظهار الخشوع والإنكسار مع سماع إسمه .

قال إسحاق التجيبي : كان أصحاب النبي r بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا .
وكذلك كثير من التابعين منهم من يفعل ذلك محبة له وشوقاً إليه ، ومنهم من يفعله تهيباً وتوقيراً .
ومنها محبته لمن أحب النبي
r ، ومن هو بسببه من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار ،     وعداوة من عاداهم ، وبغض من أبغضهم وسبهم ، فمن أحب شيئاً أحب من يحبه .

-وقد قال النبي r في الحسن والحسين : اللهم إني أحبُّهما فأحبَّهما .

-وفي رواية -في الحسن : اللهم إني أحبُّه فأحبَّ من يحبُّه .

-وقال : من أحبهما فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغضهما فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله .

-وقال : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه .

-وقال رسول الله r في فاطمة رضي الله عنها : إنها بضعة مني ، يغضبني ما أغضبها .

-وقال رسول اللهr   لعائشة في أسامة بن زيد : أحبيه فإني أحبه .

-وقال : آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغضهم .

-وفي حديث ابن عمر : من أحب العرب فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم .

فبالحقيقة من أحب شيئاً أحب كل شيء يحبه . وهذه سيرة السلف حتى في المباحات و شهوات النفس .

-وقد قال أنس حين رأى النبيr يتتبع الدباء من حوالي القصعة : فما زلت أحب الدباء من يومئذ .

-وهذا الحسن بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وابن جعفر ـ أتوا سلمى وسألوها أن تصنع لهم  طعاماً مما كان يعجب رسول الله r .

-وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية ، ويصبغ بالصفرة ، إذ رأى النبي r يفعل نحو ذلك .

-ومنها بغض من أبغض الله ورسوله ، ومعاداة من عاداه ، ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينه ،    واستثقاله كل أمر يخالف شريعته ، قال الله تعالى : (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة : 22 ).. وهؤلاء أصحابه r قد قتلوا أحباءهم      وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته . -وقال له عبد الله بن عبد الله بن أبي : لو شئت لأتيتك برأسه -يعني أباه .

-ومنها ان يحب القرآن الذي أتي به r ، وهدي به واهتدى ، وتخلق به حتى قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن ، وحبه للقرآن تلاوته ، والعمل به وتفهمه .
ويحب سنته ، و يقف عند حدودها .

-قال سهل بن عبد الله : علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبي r  ، وعلامة حب النبي r حب السنة ، وعلامة حب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا ألا يدخر منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة .

-وقال ابن مسعود : لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن ، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله .

-ومن علامة حبه للنبي r شفقته على أمته ، ونصحه لهم ، وسعيه في مصالحهم ، ورفع المضار عنهم  كما كان الرسول rبالمؤمنين رؤوفاً رحيماً .

-ومن علامة تمام محبته زهد مدعيها في الدنيا ، وإيثار الفقر ، واتصافه به .
وقد قال
r لأبي سعيد الخدري : إن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من أعلى الوادي ، أو الجبل إلى أسفله .

وفي حديث عبد الله بن مغفل : قال رجل للنبي r يا رسول الله ، إني أحبك .فقال : انظر ما تقول . قال : والله إني أحبك ـ ثلاث مرات . قال : إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافاً .
ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد بمعناه .

الفصل  الخامس
في معنى المحبة للنبي
r وحقيقتها

اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي r، وكثرت عباراتهم في ذلك ، وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ، ولكنها اختلاف أحوال .

-فقال سفيان : المحبة اتباع الرسول r ، كأنه التفت إلى قوله تعالى : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران : 31 ).

-وقال بعضهم : محبة الرسول r اعتقاد نصرته ، والذب عن سنته ، والانقياد لها ، وهيبة مخالفته .

-وقال بعضهم : المحبة : دوام الذكر للمحبوب .

-وقال آخر : إيثار المحبوب .

-وقال بعضهم : المحبة الشوق إلى المحبوب .

-وقال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب ، يحب ما أحب ، ويكره ما كره .

-وقال آخر : المحبة ميل القلب إلى موافق له .

-وأكثر العبارت المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها .

-وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان ، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه ، كحب الصور الجميلة ، والأصوات الحسنة ، والأطعمة والأشربة اللذيذة ، وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة ، كمحبة الصالحين والعلماء   وأهل المعروف ، والمأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم ، والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان ،    وهتك الحرم ، واحترام النفوس ، أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه ، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها .
فإذا تقرر هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه
r فعلمت أنه r جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة : أما جمال الصورة والظاهر ، وكمال الأخلاق والباطن ، فقد قررنا منها قبل فيما مر في الكتاب ما لا يحتاج إلى زيادة . وأما إحسانه وإنعامه على أمته فكذلك قد مر منه في أوصاف الله تعالى له من رأفته بهم ، ورحمته لهم ، و هدايته إياهم ، و شفقته عليهم ، و استنفاذهم به من النار ، و أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، ورحمة للعالمين ، ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، ويتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلهم الكتاب والحكمة ، ويهديهم إلى صراط مستقيم .
فأي إحسان أجل قدراً ، وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين ؟ وأي إفضال أعم منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين ، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية ، ومنقذهم من العماية ، وداعيهم إلى الفلاح ، ووسيلتهم إلى ربهم ، وشفيعهم والمتكلم عنهم ، والشاهد لهم ، والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمد  
فقد استبان لك أنه
r مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً بما قدمناه من صحيح الآثار ، وعادة وجبلةً بما ذكرناه آنفاً ، لأفاضته الإحسان ، وعمومه الإجمال ، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرةً أو مرتين معروفأً ، أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع ـ فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ، ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب .
وإذا كان يُحَبُّ بالطبع ملكٌ لحسن سيرته ، أو حاكمٌ لما يؤثر من قوام طريقته ، أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته ـ فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب ، وأولى بالميل
.

-وقد قال علي رضي الله عنه في صفته   ا r: من رآه بديهةً هابه ، ومن خالطه معرفةً أحبه .
وذكرنا عن بعض الصحابة أنه كان لايصرف بصره عنه محبةً فيه  .

الفصل السادس
فـي وجـوب منا صحتـه
r

قال الله تعالى : (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 91 )

قال أهل التفسير : إذا نصحوا لله ورسوله : إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر والعلانية .

*حدثنا القاضي الفقيه أبو الوليد بقراءتي عليه ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا يوسف بن عبد الله ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر التمار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا سهيل بن أبي صالح ، عن عطاء بن يزيد ، عن تميم الداري ، قال : قال رسول الله r : إن الدين النصيحة . إن الدين النصيحة . إن الدين النصيحة . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله و لكتابه         و لرسوله ، و أئمة المسلمين و عامتهم .

-قال أئمتنا : النصيحة لله ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم واجبة .
قال الإمام سليمان البستي : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له ، وليس يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة تحصرها . ومعناها في اللغة الإخلاص ، من قولهم : نصحت العسل ، إذا خلصته من شمعه .

وقال أبو بكر بن أبي إسحاق الخفاف : النصح فعل الشيء الذي به الصلاح والملاءمة ، مأخوذ من -النصاح ، وهو الخيط الذي يخاط به الثوب .

-وقال أبو إسحاق الزجاج نحوه .

فنصيحة الله تعالى صحة الاعتقاد له بالوحدانية ، ووصفه بما هو أهله ، وتنزيهه عما لا يجوز عليه ،     والرغبة في محابه ، والبعد من مساخطه ، والإخلاص في عبادته .
والنصيحة لكتابه الإيمان به ، والعمل بما فيه ، وتحسين تلاوته ، والتخشع عنده ، والتعظيم له ، وتفهمه والتفقه فيه ، والذب عنه من تأويل الغالين ، وطعن الملحدين .
والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه ، قاله أبو سليمان .

وقال أبو بكر : ومؤازرته ونصرته وحمايته حياً وميتاً ، وإحياء سنته بالطلب ، والذب عنها ، و نشرها ، والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجميلة .

-وقال أبو إبراهيم إسحاق التجيبي : نصيحة رسول الله r التصديق بما جاء به ، والاعتصام بسنته ،    ونشرها ، والحض عليها ، والدعوة إلى الله وإلى كتابه وإلى رسوله ، وإليها وإلى العمل بها .
-وقال أحمد بن محمد : من مفروضات القلوب اعتقاد النصيحة لرسول الله
r .

-قال أبو بكر الآجري وغيره : النصح له يقتضي نصحين : نصحاً في حياته ، ونصحاً بعد مماته ، ففي حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه ومعاداة من عاداه ، والسمع والطاعة له ، وبذل النفوس والأموال دونه ، كما قال الله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : 23 )
وقال : (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر : 8 )

-وأما نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التوقير والإجلال ، وشدة المحبة له ، والمثابرة على تعلم سنته ، والتفقه في شريعته ، ومحبة آل بيته وأصحابه ، ومجانبة من رغب عن سنته وانحرف عنها ،    وبغضه والتحذير منه ، والشفقة على أمته ، والبحث عن تعرف أخلاقه وسيره و آدابه ، والصبر على ذلك.

فعلى ما ذكره تكون النصيحة إحدى ثمرات المحبة ، وعلامة من علاماتها كما قدمنا .

-وحكى الإمام أبو القاسم القشيري أن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان ومشاهير الثوار المعرف بالصفار ـ رُئي في النوم ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، فقيل : بماذا ؟ قال : صعدت ذروة جبل يوماً فأشرفت على جنودي ، فأعجبتني كثرتهم ، فتمنيت أني حضرت رسول الله r فأعنته ونصرته  فشكر الله لي ذلك و غفر لي .

-وأما النصح لأئمة المسلمين فطاعتهم في الحق ، ومعونتهم فيه ، وأمرهم به ، وتذكيرهم إياه على أحسن وجه وتنبيههم على ما غفلوا عنه وكتم عنهم من أمور المسلمين ، وترك الخروج عليهم ، وتضريب الناس وإفساد قلوبهم عليهم .

-والنصح لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم ، ومعونتهم في أمر دينهم ودنياهم بالقول والفعل ،      وتنبيه غافلهم ، وتبصير جاهلهم ، ورفد محتاجهم ، وستر عوراتهم ، ودفع المضار عنهم ، وجلب المنافع إليهم .

الباب الثالث

في تعظيم أمره ووجوب توقيره وبره r

وفـــــــيه 7 فــصــول :

1-ما ورد في ذلك من النصوص

2- في عادة الصحابة في تعظيمه وتوقيره وإجلاله r

3- في حرمة النبي r بعد موته ، وتوقيره وتعظيمه

4- في سيرة السلف في تعظيم رواية حديث الرسول r  وسننه

5- في توقيره r، وبر آله ، وذريته ، وأمهات المؤمنين أزواجه

6- من توقيره r وبره توقير أصحابه وبرهم

7- ومن إعظامه وإكبارهr إعظام جميع أسبابه...

                                          الفصل الأول

                                   ما ورد في ذلك من النصوص

*قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * ) ( الفتح- 8-9 )
-وقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الحجرات 1 )
وقال  :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * )  ( الحجرات  2- 3)

-وقال تعالى : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً  ) (النور : 63 )

فأوجب الله تعالى تعزيزه وتوقيره ، وألزم إكرامه وتعظيمه .

-قال ابن عباس : تعزروه : تجلوه .وقال المبرد : تعزروه : تبالغوا في تعظيمه.وقال الأخفش: تنصرونه . وقال الطبري :تعينونه . وقرىء : تعززوه ـ بزايين ـ من العز . ونهي عن التقدم بين يديه بالقول ،     و سوءالأدب بسبقه بالكلام ، على قول ابن عباس وغيره ، وهو اختيار ثعلب .

-قال سهل بن عبد الله : لا تقولوا قبل أن يقول ، وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا .
ونهوا عن التقدم والتعجل بقضاء أمر قبل قضائه فيه ، وأن يفتاتوا يشيء في ذلك من قتال أو غيره من أمر دينهم ، ولا يسبقوه به .
وإلى هذا يرجع قول الحسين ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، والثوري .
ثم وعظهم وحذرهم مخالفة ذلك ، فقال : (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الحجرات 1 ).

-قال الماوردي : اتَّقُوا ـ يعني في التقدم .

-وقال السلمي : اتقوا الله في إهمال حقه وتضييع حرمته ، إنه سميع لقولكم ، عليم بفعلكم .

-ثم نهاهم عن رفع الصوت فوق صوته ،والجهر له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض ويرفع صوته .
وقيل : كما ينادي بعضهم  بعضاً باسمه .

-قال أبو محمد مكي : أي لا تسابقوه بالكلام ، وتغلظوا له بالخطاب ، ولا تنادوه باسمه نداء بعضكم بعضاً  ولكن عظموه ونادوه بأشرف ما يحب أن ينادي به : يا رسول الله، يا نبي الله .
وهذا كقوله في الآية الأخرى : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم  ) (النور : 63 ) على أحد التأويلين .

-وقال غيره لا تخاطبوه إلا مستفهمين .

-ثم خوفهم الله تعالى بحبط أعمالهم إن هم فعلوا ذلك ، وحذرهم منه .

-وقيل : نزلت الآية في وفد بني تميم ـ وقيل : في غيرهم ، أتوا r فنادوه : يا محمد ، يا محمد ، اخرج إلينا . فذمهم الله تعالى بالجهل ، ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقلون .

-وقيل : نزلت الآية في محاورة كانت بين أبي بكر وعمر بين يدي النبي r، واختلاف جرى بينهما ، حتى ارتفعت أصواتها .

-وقيل : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي r في مفاخرة بني تميم ، وكان في أذنيه صمم  فكان يرفع صوته ، فلما نزلت هذه الآية أقام في منزله ، وخشي أن يكون حبط عمله ، ثم أتى النبي r فقال : يا نبي الله ، لقد خشيت أن أكون هلكت ، نهانا الله أن نجهر بالقول ، وأنا امرؤ جهير الصوت .
فقال النبي
r : أما ترضى أن تعيش حميداً ، وتقتل شهيداً ، وتدخل الجنة ! فقتل يوم اليمامة .

-وروي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال : والله يا رسول الله ، لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار .

-وأن عمر كان إذا حدثه كأخي السرار ،ما كان يسمع رسول الله r بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، فأنزل الله تعالى فيهم : إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * )  ( الحجرات 3)

-وقيل : نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات : 4 ) ـ في غير بني تميم ، نادوه باسمه .

-وروى صفوان بن عسال : بينا النبي r في سفر إذا ناداه أعرابي بصوت له جهوري : أيا محمد . أيا محمد ، قلنا له : اغضض من صوتك ، فإنك قد نهيت عن رفع الصوت .

-وقال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة : 104 ).

-قال بعض المفسرين : هي لغة كانت في الأنصار ، نهوا عن قولها تعظيماً للنبي r ، وتبجيلا له ، لأن معناها : ارعنا نرعك ، فنهوا عن قولها ، إذ مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، بل حقه أن يرعى على كل حال .

-وقيل : كانت اليهود تعرض بها للنبي r بالرعونة ، فنهى المسلمون عن قولها ، قطعاً للذريعة ،       ومنعاً للتشبيه بهم في قولها ، لمشاركة اللفظة . وقيل غير هذا .

                                          الفصل الثاني

                       في عادة الصحابة في تعظيمه وتوقيره وإجلاله r


-حدثنا القاضي أبو علي الصدفي ، وأبو بحر الأسدي بسماعي عليهما في آخرين ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر ، حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا محمد بن مثنى ، وأبو معن الرقاشي ، وإسحاق بن منصور ، قالوا حدثنا الضحاك بن مخلد ، أخبرنا حيوة بن شريح ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة المهري ، قال : حضرنا عمر ابن العاص ...
فذكر حديثاً طويلاً فيه عن عمرو ، قال : وما كان أحد أحب إلي من رسول الله
r ، ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت ، لأني لم أكن أملا عيني منه .

-وروى الترمذي عن أنس ـ أن رسول الله r كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس ، فيهم أبو بكر ، وعمر ، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر ، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ، ويتبسمان إليه ويبتسم إليهما .

-وروى أسامة بن شريك ، قال أتيت النبي r وأصحابه حوله كأنما على رؤوسهم الطير .

-وفي حديث صفته : إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير .

-وقال عروة بن مسعود ـ حين وجهته قريش عام القضية إلى رسول الله r ، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى ، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، وكادوا يقتتلون عليه ، ولا يبصق بصاقاً ، ولا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها ، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ،وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له .
فلما رجع إلى قريش قال : يا معشر قريش ، إني جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه .
وفي رواية : إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمداً أصحابه . -وقد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً  

-وعن أنس : لقد رأيت رسول الله r والحلاق يحلقه ، وقد أطاف به أصحابه ، فما يريدون أن تقع شعره إلا في يد رجل .

-ومن هذا لما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجهه النبي r إليهم في القضية أبى، وقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله r .

-وفي حديث طلحة : إن أصحاب رسول الله r قالوا لأعرابي جاهل : سله عمّن قَضى نحْبه ـ وكانوا يهابونه ويوقرونه ، فسأله ، فأعرض عنه ، إذ طلع طلحة ، فقال رسول r : هذا ممن قضى نحْبَه .

-وفي حديث قيلة : فلما رأيت رسول الله r جالساً القرفصاء أرعدت من الفرق وذلك هيبة له وتعظيماً .

-وفي حديث المغيرة : كان أصحاب رسول الله  rيقرعون بابه بالأظافير .

وقال البراء بن عازب : لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله r عن الأمر فأؤخره سنين من هيبته .  

الفصل الثالث
في حرمة النبي
r بعد موته ، وتوقيره وتعظيمه

و اعلم أن حرمة النبي r بعد موته ، وتوقيره وتعظيمه ، لازم كما كان حال حياته ، وذلك عند ذكره r، وذكر حديثه وسنته ، وسماع اسمه وسيرته ، ومعاملة آله وعترته ، وتعظيم أهل بيته وصحابته .
وقال أبو إبراهيم التجيبي : واجب على كل مؤمن متى ذكره ، أو ذكر عنده ـ أن يخضع ويخشع ، ويتوقر ويسكن من حركته ، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ، ويتأدب بما أدبنا الله به .

-قال القاضي أبو الفضل : و هذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين رضي الله عنهم .

*حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري ، وأبو القاسم أحمد ابن بقي الحاكم ، وغير واحد ، فيما أجازونيه ، قالوا : أنبأنا أبو العباس أحمد بن عمر ابن دلهاث ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن فهر ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد ابن الفرج ، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق ابن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد ، قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله r ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله تعالى أدب قوماً فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (الحجرات : 2 ). ومدح قوماً فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات : 3 ).
وذم قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات : 4 ) وإن حرمته ميْـتاً كحرمته حياً .
فاستكان لها أبو جعفر ، وقال : يا أبا عبد الله ، أأستقبل القبلة وأدعوا أم أستقبل رسول الله
r  ؟ فقال : و لم تصرف وجهك عنه و هو وسيلتك و وسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به ، فيشفعه الله ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً) (النساء : 64 )

-وقال مالك ـ وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه :
وقال : وحج حجتين ، فكنت أرمقه ولا أسمع منه ، غير أنه كان إذا ذكر النبي
r بكى حتى أرحمه .
فلما رأيت منه ما رأيت ، و إجلاله للنبي
r كتبت عنه .

-وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي r يتغير لونه ، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له يوماً في ذلك ، فقال لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون ، ولقد كنت أرى محمد ابن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه .

ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق ، و كان كثير الدعابة والتبسم ، فإذا ذكر عنده النبي r  اصفر . وما رأيته يحدث عن رسول الله r إلا على طهارة . وقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصلياً ، وإما صامتاً ، وإما يقرأ القرآن ، ولا يتكلم فيما لا يعنيه ، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله عز و جل .

-ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي r فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم ، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله r .

-ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذ ا ذكر عنده النبي r بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع .

-ولقد رأيت الزهري ـ وكان من أهنأ الناس وأقربهم ، فإذا ذكر عنده النبي r فكأنه ما عرفك ولا عرفته .

-ولقد كنت آتي صفوان بن سليم ، وكان من المتعبدين المجتهدين ، فإذا ذكر النبي r بكى ، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه و يتركوه .

-وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل .

-ولما كثر على مالك الناس قيل له : لو جعلت مستملياً يسمعهم ؟ فقال : قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيَِّ) (الحجرات : 2 ) وحرمته حياً وميْتاً سواء .  

-وكان ابن سيرين ربما يضحك ، فإذا ذكر عنده حديث النبي  r  خشع  .

-وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي r أمرهم بالسكوت ، وقال :( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيَِّ) (الحجرات : 2 )  ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله .

الفصل   الرابع
في سيرة السلف في تعظيم رواية حديث الرسول
r  وسننه

*حدثنا الحسين بن محمد الحافظ ، حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، حدثنا أبو بكر البرقاني و غيره ، حدثنا أبو الحسن الدار قطني ، حدثنا علي بن مبشر ، حدثنا أحمد ابن سنان القطان ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا المسعودي ، عن مسلم البطين ، عن عمرو بن ميمون ، قال : اختلفت إلى ابن مسعود سنةً ، فما سمعته يقول : قال رسول الله r ، إلا أنه حدث يوماً فجرى على لسانه : قال رسول الله r ، ثم علاه كرب ، حتى رأيت العرق يتحدر عن جبهته ، ثم قال : هكذا إن شاء الله ، أو فوق ذا ، أو ما دون ذا ، أو ما هو قريب من ذا .وفي رواية : فتربد وجهه .وفي رواية : وقد تغرغرت عيناه ، وانتفخت أوداجه .

-وقال إبراهيم بن عبد الله بن قريم الأنصاري قاضي المدينة : مر مالك بن أنس على أبي حازم ، وهو يحدث ، فجازه ، وقال : إني لم أجد موضعاً أجلس فيه ، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله r  وأنا قائم .

-وقال مالك : جاء رجل إلى ابن المسيب ، فسأله عن حديث وهو مضطجع ، فجلس وحدثه ، فقال له الرجل : وددت أنك لم تتعن ، فقال : إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله r وأنا مضطجع .


-وروي عن محمد بن سيرين أنه قد يكون يضحك ، فإذا ذكر عنده حديث النبي
r خشع  .
-وقال أبو مصعب : كان مالك بن أنس لا يحدث بحديث رسول الله
r إلا وهو على وضوء ، إجلالاً له .

-وحكى مالك ذلك عن جعفر بن محمد .

-وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك بن أنس إذا حدث عن رسول الله r توضأ وتهيأ ، ولبس ثيابه ، ثم يحدث .

-قال مصعب : فسئل عن ذلك ، فقال : إنه حديث رسول الله r .

-قال مطرف : كان إذا أتى الناس مالكاً خرجت إليهم الجارية فتقول لهم : يقول لكم الشيخ : تريدون الحديث أو المسائل ؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم ، وإن قالوا الحديث دخل مغتسله ، واغتسل وتطيب ،   ولبس ثياباً جدداً ، ولبس ساجه وتعمم ، ووضع على رأسه رداء ، وتلقى له منصة ، فيجرخ فيجلس عليها  وعليه الخشوع ، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله r .
قال : ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث عن رسول الله
r.

-قال ابن أبي أويس : فقيل لمالك في ذلك ، فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله r ، ولا أحدث به إلا عن طهارة متمكناً .

-قال : و كان يكره أن يحدث في الطريق ، أو وهو قائم ، أو مستعجل .

-و قال : أحب أن أفهم حديث رسول الله r .

 -قال ضرارة بن مرة : كانوا يكرهون أن يحدثوا بحديث على غير وضوء .

-ونحوه عن قتادة .

-وكان الأعمش إذا حدث وهو على غير وضوء تيمم .

-وكان قتادة لا يحدث إلا على طهارة ، ولا يقرأ حديث النبي r إلا على وضوء  .

-قال عبد الله بن مبارك : كنت عند مالك ، وهو يحدثنا ، فلدغته عقرب ست عشرة مرةً ، وهو يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله r .فلما فرغ من المجلس ، وتفرق الناس عنه قلت له : يا أبا عبد الله ، لقد رأيت اليوم منك عجباً . قال: نعم ، لدغتني عقرب ست عشرة مرة ، وأنا صابر في جميع ذلك ، وإنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله r .

-قال ابن مهدي : مشيت يوماً مع مالك إلى العقيق ، فسألته عن حديث ، فانتهزني وقال لي : كنت في عيني أجل من أن تسأل عن حديث رسول الله r ونحن نمشي .

-وسأله جرير بن عبد الحميد القاضي عن حديث وهو قائم ، فأمر بحبسه ، فقيل له : إنه قاض . قال : القاضي أحق من أدب .

-وذكر أن هشام بن هشام بن الغازي سأل مالكاً عن حديث وهو واقف فضربه عشرين سوطاً ، ثم أشفق عليه ، فحدثه عشرين حديثاً ، فقال هشام : وددت لو زادني سياطاً ويزيدني حديثاً .

-قال عبد الله بن صالح : كان ماك والليث لا يكتبان الحديث إلا وهما طاهران .

-وكان قتادة يستحب ألا تقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم   إلا على وضوء ، ولا يحدث إلا على طهارة .

-وكان الأعمش إذا أراد أن يحدث وهو على غير وضوء تيمم .

الفصل  الخامس
في توقيره
r، وبر آله ، وذريته ، وأمهات المؤمنين أزواجه

ومن توقيره r وبره ـ بر آله وذريته وأمهات المؤمنين أزواجه ، كما حض عليه r، وسلكه السلف الصالح رضي الله عنهم .
*قال الله تعالى :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب : 33 )

-وقال تعالى : وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ  ) (الأحزاب : 6 )

-أخبرنا الشيخ أبو محمد بن أحمد العدل من كتابه ، وكتبت من أصله : حدثنا أبو الحسن المقرئ الفرغاني  حدثتني أم القاسم بنت الشيخ أبي بكر الخفاف ، قالت : حدثني أبي ، حدثنا حاتم ـ هو ابن عقيل ، حدثنا يحيى ـ هو ابن إسماعيل ، حدثنا يحيى ـ هو الحماني ، حدثنا وكيع ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله r : أنشدكم  الله أهل بيتي . . . ثلاثاً .
قلنا لزيد : من أهل بيته ؟ قال : آل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل العباس .

-وقال r : إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما .

 وقال r : معرفة آل محمد r براءة من النار ، وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب .

-قال بعض العلماء : معرفتهم هي معرفة مكانهم من النبي r وإذا عرفهم بذلك عرف وجوب حقهم     وحرمتهم بسببه .

-وعن عمر بن أبي سلمة : لما نزلت :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب : 33 ) ـ وذلك في بيت أم سلمة ـ دعا فاطمة وحسنا وحسينا ، فجللهم بكساء ، وعلي خلف ظهره فجلله بكسائه، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا .

-وعن سعد بن أبي وقاص : لما نزلت آية المباهلة دعا النبي r عليا وحسناً والحسين وفاطمة ، وقال : اللهم هؤلاء أهلي .

-وقال النبي r في علي : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه .

-وقال فيه : لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق .

-وقال للعباس : والذي نفسي بيده ، لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله . ومن آذى عمي فقد آذاني ، وإنما عم الرجل صنو أبيه .

-وقال للعباس : اغد علي يا عم مع ولدك ، فجمعهم وجللهم بملاءته ، وقال : هذا عمي وصنو أبي ،      وهؤلاء أهل بيتي ، فاسترهم من النار كستري إياهم فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت : آمين . آمين .

-وكان يأخذ أسامة بن زيد ، والحسن ، ويقول : اللهم إني أحبهما فأحبهما .

-وقال أبو بكر : ارقبوا محمداً في أهل بيته .
وقال أيضاً : والذي نفسي بيده لقرابة  رسول الله
r أحب إلي أن أصل من قرابتي .
وقال
r: أحب الله من أحب حسناً وحسيناً .

-وقال : من أحبني وأحب هذين ـ وأشار إلى حسن وحسين وأباهما وأمهما ـ كان معي في درجتي يوم القيامة .

-وقال r : من أهان قريشاً أهانه الله .

-وقال r: قدموا قريشاً ولا تقدموها .

-وقال r لأم سلمة : لا تؤذيني في عائشة .

وعن عقبة بن الحارث :رأيت أبا بكر رضي الله عنه ،وجعل الحسن على عنقه وهو يقول : بأبي شبـيهٌ بالنبي ، ليس شبـيهاً بعلي ـ وعلي رضي الله عنه يضحك .

-وروي عن عبد الله بن الحسن بن حسين ، قال : أتيت عمر بن عبد العزيز في حاجة ، فقال : لي : إذا كانت لك حاجة فأرسل إلي أو اكتب ، فإني أستحيي من الله أن يراك على بابي .

-وعن الشعبي : صلى زيد بن ثابت على جنازة أمه ، ثم قربت له بغلته ليركبها ، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه ، فقال زيد : خل عنه يا بن عم رسول الله . فقال : هكذا نفعل بالعلماء . فقبل زيد يدَ ابن عباس ، وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .

-ورأى ابن عمر محمد بن أسامة بن زيد ، فقال : ليت هذا عبدي ، فقيل له : هو محمد بن أسامة . فطأطأ ابن عمر رأسه ونقر بيده الأرض ، وقال : لو رآه رسول الله r لأحبه .

-وقال الأوزاعي : دخلت بنت أسامة بن زيد صاحب رسول الله r على عمر بن عبد العزيز ومعها مولى لها يمسك بيدها ، فقام لها عمر ، ومشى إليها حتى جعل يدها بين يديه ، ويداه في ثيابه ، ومشى بها حتى أجلسها على مجسله ، وجلس بين يديها ، وما ترك لها حاجةً إلا قضاها .

-ولما فرض عمر بن الخطاب لابنه عبد الله في ثلاثة آلاف ، ولأسامة بن زيد في ثلاثة آلاف وخمسمائة ـ قال عبد الله لأبيه : لم فضلته ، فوالله ما سبقني إلى مشهد ؟ فقال له : لأن زيداً كان أحب إلى رسول الله r من أبيك ، وأسامة أحب إليه منك ، فآثرت حب رسول الله r على حبي .

-وبلغ معاوية أن كابس بن ربيعة يشبه برسول الله r ، فلما دخل عليه من باب الدار قام عن سريره    وتلقاه وقبل بين عينيه ، وأقطعه المرغاب لشبهه صورة رسول الله r .

-وروي أن مالكاً رحمه الله لما ضربه جعفر بن سليمان ، ونال منه ما نال ، وحمل مغشياً عليه دخل عليه الناس فأفاق ، فقال : أشهدكم أني جعلت ضاربي في حل .
فسئل بعد ذلك ، فقال : خفت أن أموت ، فألقى النبي
r ، فأستحي منه أن يدخل بعض آله النار بسببي .

-وقيل : إن المنصور أقاده من جعفر ، فقال له : أعوذ بالله ! والله ما ارتفع منها سوط عن جسمي إلا     وقد جعلته في حل لقرابته من رسول الله r .

-وقال أبو بكر بن عياش : لو أتاني أبو بكر وعمر وعلي لبدأت بحاجة علي قبلهما ، لقرابته من رسول الله r ، ولأن أخِرَّ من السماء إلى الأرض أحَب إلي من أن أقدمه عليهما .

-وقيل لابن عباس : ماتت فلانة ـ لبعض أزواج النبي r ، فسجد ، فقيل له : أتسجد هذه الساعة ؟ فقال : أليس قال رسول الله r: إذا رأيتم آيةً فاسجدوا وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي r.

 -وكان أبو بكر وعمر يزوران أم أيمن مولاة النبي r ، ويقولان : كان رسول الله r يزورهما .

ولما وردت حليمة السعدية على النبي r بسط لها رداءه وقضى حاجتها ، فلما توفي وفدت على أبي بكر وعمر فصنعا بها مثل ذلك  .

الفصل السادس
من توقيره r وبره توقير أصحابه وبرهم

ومن توقيره وبره  r توقير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم ، والاقتداء بهم ، وحسن الثناء عليهم ،     والاستغفار لهم ، والإمساك عما شجر بينهم ، ومعاداة من عاداهم ، والإضراب عن أخبار المؤرخين ،     وجهلة الرواة ، وضلال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم ، وأن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات ، ويخرج لهم أصواب المخارج : إذ هم أهل ذلك ، ولا يذكر أحد منهم بسوء ، ولا يُغمَض عليه أمر ، بل تُذكر حسناتُهم وفضائلهم ، وحميد سيرتهم ، ويسكت عما وراء ذلك ، كما قال r: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .

*قال الله تعالى : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ( 29 ) (الفتح : 29 )

-وقال : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 100 ).

 -وقال: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح : 18 )

-وقال : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : 23 ).

*حدثنا القاضي أبو علي ، حدثنا أبو الحسين ، وأبو الفضل ، قالا : حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا الحسن بن الصباح ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله r : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر ، و عمر .

-وقال : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم .

-وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام ، لا يصلح الطعام إلا به .

-وقال : الله لله في اصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذ .

-وقال : لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه .

-وقال : من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً .

-وقال : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .

-وقال ـ في حديث جابر : إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلياً ، فجعلهم خير أصحابي ، وفي أصحابهم كلهم خير .

-وقال : من أحب عمر فقد أحبني ، ومن أبغض عمر فقد أبغضني .

-وقال مالك بن أنس ، وغيره : من أبغض الصحابة و سبهم فلبيس له في فيء المسلمين حق ، ونزع بآية الحشر : (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * ) (الحشر 6-10)

-وقال : من غاظه أصحاب محمد فهو كافر ، قال الله تعالى:(  لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) (الفتح : 29 )

-وقال عبد الله بن المبارك : خصلتان من كانتا فيه نجا : الصدق ، وحب أصحاب محمد r

-قال أيوب السختياني : من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور الله ، ومن أحب علياً فقد أخذ بالعروة الوثقى ، ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد r فقد برئ من النفاق ، ومن انتقص أحداً منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح ، وأخاف ألا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعاً ، ويكون قلبه سليماً .

-وفي حديث خالد بن سعيد أن النبي r قال : أيها الناس ، إني راض عن أبي بكر فاعرفوا له ذلك . أيها لناس ، إني راض عن عمر ، وعن علي ، وعن عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، فاعرفوا لهم ذلك . أيها الناس ، إن الله غفر لأهل بدر والحديبية ، أيها الناس ، احفظوني في أصحابي وأصهاري وأختاني ، لا يطالبنكم أحد منهم بمظلمة ، فإنها مظلمة لا توهب في القيامة غداً .

-وقال رجل للمعافى بن عمران : أين عمر بن عبد العزيز من معاوية ؟ قغضب وقال : لا يقاس بأصحاب النبي r أحد ، معاوية صاحبه وصهره ، وكاتبه وأمينه على وحي الله .

-وأتي النبي r بجنازة رجل فلم يصل عليه ، وقال : كان يبغض عثمان ، فأبغضه الله .

-وقال r في الأنصار : اعفوا عن مسيئهم ، واقبلوا من محسنهم .

-وقال : احفظوني في أصحابي وأصهاري ، فإنه من حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة ، ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله منه ، ومن تخلى الله منه يوشك أن يأخذه .

وعنه r : من حفظني في أصحابي كنت له حافظاً يوم القيامة .

-وقال : من حفظني في أصحابي ورد علي الحوض ، ومن لم يحفظني في أصحابي لم يرد علي الحوض ، و لم يرَني إلا من بعيد .

قال مالك ـ رحمه الله : هذا النبي r  مؤدب الخلق الذي هدانا الله به ، وجعله رحمة للعالمين ، يخرج في جوف الليل إلى البقيع فيدعوا لهم ويستغفر كالمودع لهم ، وبذلك أمره الله ، وأمر النبي بحبهم ،      وموالاتهم ، ومعاداة من عاداهم .

-وروى عن كعب : ليس أحد من أصحاب محمد r إلا له شفاعة يوم القيامة . وطلب من المغيرة بن نوفل أن يشفع له يوم القيامة .

 -قال سهل بن عبد الله التسترى : لم يؤمن بالرسول من لم يوقر أصحابه ، ولم يُعِزَّ أوامرَه .

الفصل السابع
ومن إعظامه وإكباره
r إعظام جميع أسبابه...

ومن إعظامه وإكباره إعظام جميع أسبابه ، وإكرام مشاهده وأمكنته من مكة والمدينة ، ومعاهده ، وما لمسه r، أوعُرِف به .
-روي عن صفية بنت نجدة ، قالت : كان لأبي محذورة قُصَّة في مقدم رأسه إذا قعد وأرسلها أصابت الأرض . فقيل له : ألا تحلقها ؟ فقال : لم أكن بالذي أحلقها ، وقد مسها رسول الله
r بيده .

-وكانت في قلنسوة خالد بن الوليد شعرات  من شَعره r فسقطت قلنسوته في بعض حروبه ، فشد عليها شدة أنكر عليه أصحاب النبي r كثرة من قتل فيها ، فقال : لم أفعلها بسبب القلنسوة ، بل لما تضمنتْه من شعره r لئلا أسلب بركتها وتقع في أيدي المشركين .

 ورُئي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبي r من المنبر ، ثم وضعها على وجهه .

-ولهذا كان مالك رحمه الله لا يركب بالمدينة دابة وكان يقول : أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله  rبحافر دابة .

-وروي عنه أنه وهب للشافعي كراعاً كثيراً كان عنده ، فقال له الشافعي : أمسك منها دابة . فأجابه بمثل هذا الجواب .

-وقد حكى أبو عبد الرحمن السلمي عن أحمد بن فضلويه الزاهد - وكان من الغزاة الرماة - أنه قال : ما مسست القوس بيدي إلا على طهارة منذ بلغني أن النبي r أخذ القوس بيده .

-وقد أفتى مالك فيمن قال : تربة المدينة ردية  يضرب ثلاثين درة ، وأمر بحبسه ، وكان له قدر ، وقال : ما أحوجه إلى ضرب عنقه ! تربة دفن فيها النبي r يزعم أنها غير طيبة .

-وفي الصحيح أنه r قال في المدينة : من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة     والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً .

-وحكي أن جهجاها الغفاري أخذ قضيب النبي r من يد عثمان رضي الله عنه ، وتناول ليكسره على ركبته ، فصاح به الناس ، فأخذته الأكلة في ركبته فقطعها ، ومات قبل الحول

-وقال r : من حلف على منبري كاذباً فليتبوأ مقعده من النار .

-وحُدِّثتُ أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائراً ، وقرب من بيوتها ترجل ومشى باكياً منشداً :

              ولما رأينا رسم من لم يدع لنا          فؤاداً لعرفان الرسوم و لا لباً

              نزلنا عن الأكوار نمشي كرا مةً       لمن بان عنه أن نلم به ركباً

-وحكى عن بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة الرسول r أنشد يقول متمثلاً   :

             رفع الحجاب لنا فلاح لنـــاظر          قمر تقطع دونه الأوهـــام
             وإذا المطي بنـــا بلغن محمداً          فظهورهن على الرجال  حرام
             قربننا من يخر من وطيء الثرى          ولها علينا حرمة و ذمـــام       

-وحكي عن بعض المشايخ أنه حج ماشياً ، فقيل له في ذلك ، فقال : العبد الآبق لا يأتي إلى بيت مولاه راكباً ! لو قدرت أن أمشي على رأسي ما مشيت على قدمي .

-قال القاضي : وجدير لمواطن عمرت بالوحي والتنزيل ، وتردد بها جبريل وميكائيل ، وعرجت منها الملائكة والروح ، وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح ، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر ،       وانتشر عنها من دين الله وسنة رسولهr   ما انتشر ، مدارس آيات ، ومساجد وصلوات ، ومشاهد الفضائل والخيرات ، ومعاهد البراهين والمعجزات ، ومناسك الدين ، ومشاعر المسلمين ، ومواقف سيد المرسلين ، ومتبوأ خاتم النبيين ، حيث انفجرت النبوة ، وأين فاض عبابها ، ومواطن مهبط الرسالة ،    وأول أرض مسَّ جلدَ المصطفى ترابُها ـ أن تُعظَّم عرصاتُها ، وتتنسم نفحاتُها ، وتقبل ربوعها وجدرانها :

                 يا دار خير المرسلين و من به        هدي الأنام  وخـص  بالآيـات
                عندي لأجلك لوعة و صبابــة        وتشــوق متوقـد  الجمـرات
                وعلي عهد إن ملأت محاجـري        مـن تكلم الجدران والعرصـات
                لأعفرن مصون شيبي بينــها         مـن كثرة التقبيل والرشفــات
                لولا العوادي ، والأعادي زرتها         أبدا ولـو سحباً  على الوزجنات
                لكن سأهدي مـن حفيل  تحيتي         لقطـين  تلك  الدار والحجـرات
                أزكى من المسك المفتق نفحـةً         تغشاه  بالآصال و الـبكــرات
                وتخصـه بزواكي الصلــوات         ونوامي التلسيم و البـركــات

الباب الرابع
في حكم الصلاة والتسليم على النبي
r وفرض ذلك وفضيلته

وفــــيه  10  فـــصـــــول :

1- في معنى الصلاة على النبي r

2- في حكم الصلاة التسليم على النبي  r  وفرض ذلك وفضيلته

3- في المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي r

4- في كيفية الصلاة والتسليم عليه r

5- في فضيلة الصلاة والتسليم على النبي r  والدعاء له

6- في ذم  وإثم من لم يصل على النبي r

7- في تخصيصه r  بتبليغ صلاة من صلى عليه و سلم من الأنام

8- في الاختلاف في الصلاة على غير النبي r و سائر الأنبياء عليهم السلام

9- في حكم زيارة قبره  وفضيلة من زاره وسلم عليه r

10- آداب دخول المسجد النبوي وفضله

                                       الفصل الأول

                                  في معنى الصلاة على النبي r

قال الله تعالى :( (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : 56 )

-قال ابن عباس : معناه : إن الله و ملائكته يباركون على النبي .

-وقيل : إن الله يترحم على النبي ، وملائكته يدعون له .

-قال المبرد : و أصل الصلاة الترحم ، فهي من الله رحمة ، ومن الملائكة رقة واستدعاء للرحمة من الله .

-وقد ورد في الحديث : صفة الملائكة على من جلس ينتظر الصلاة : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه.

 فهذا دعاء .

-وقال أبو بكر القشيري : الصلاة من الله تعالى لمن دون النبي  rرحمة ، و للنبي r  تشريف      وزيادة تكرمة .

-وقال أبو العالية : صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة الدعاء .

*قال القاضي أبو الفضل : وقد فرق النبي r في حديث تعليم الصلاة بين لفظ الصلاة ولفظ البركة ، فدل أنهما   بمعنيين .

-وأما التسليم الذي أمر الله تعالى به عباده فقال القاضي أبو بكر بن بكير : نزلت هذه الآية على النبي r ، فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه ، و كذلك من بعدهم أمروا أن يسلموا على النبي r عند حضورهم قبره ، وعند ذكره .

وفي معنى السلام عليه ثلاثة وجوه :أحدهما : السلامة لك ومعك ، ويكون السلام مصدراً كاللذاذ واللذاذة .
الثاني : أي السلام على حفظك ورعايتك مُتَولّ له ، وكفيل به ، ويكون هنا السلام اسم الله .
الثالث : أن السلام بمعنى المسالمة له والإنقياد ، كما قال : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء : 65 )

                           الفصل الثاني

في حكم الصلاة التسليم على النبي  r  وفرض ذلك وفضيلته

اعلم أن الصلاة على النبي r فرض على الجملة ، غير محدد بوقت ، لأمر الله تعالى بالصلاة عليه ،    وحمل الأئمة والعلماء له على الوجوب ، وأجمعوا عليه .
وحكى أبو جعفر الطبري أن محمل الآية عنده على الندب ، وادعى فيه الإجماع ، ولعله فيما زاد على مرة  والواجب منه الذي يسقط به الحرج ومأثم ترك الفرض مرة ، كالشهادة له بالنبوة ، وما عدا ذلك فمندوب مرغب فيه ، من سنن الإسلام وشعار أهله .

-قال القاضي أبو الحسن بن القصار : المشهور عن أصحابنا أن ذلك واجب في الجملة على الإنسان ،     وفرض عليه أن يأتي بها مرةً من دهره مع القدرة على ذلك .

-وقال القاضي أبو بكر بن بكير : افترض الله على خلقه أن يصلوا على نبيه r  ويسلموا تسليما ، ولم يجعل ذلك لوقت معلوم ، فالواجب أن يكثر المرء منها ، ولا يغفل عنها .
-قال القاضي أبو محمد بن نصر : الصلاة على النبي
r واجبة في الجملة .

-قال القاضي أبو عبد الله بن محمد بن سعيد : ذهب مالك وأصحابه وغيرهم من أهل العلم أن الصلاة على النبي r فرض بالجملة بعقد الأيمان ، لا تتعين في الصلاة ، وأن من صلى عليه r  مرةً واحدةً من عمره سقط الفرض عنه .

-وقال أصحاب الشافعي : الفرض منها الذي أمر الله تعالى به رسولهr  هو في الصلاة  
وقالوا :  وأما في غيرها فلا خلاف أنها غير واجبة .

-وأما في الصلاة فحكى الإمامان أبو جعفر الطبري والطحاوي وغيرهما إجماع جميع المتقدمين           والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبي r في التشهد غير واجبة .

-وشذ الشافعي في ذلك ، فقال : من لم يصل على النبي r من بعد التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة ، وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه ، ولا سلَف له في هذا القول ولا سنة يتبعها .

-وقد بالغ في إنكار هذه المسألة عليه لمخالفته فيها من تقدمه جماعةٌُ ، وشنعوا عليه الخلاف فيها ، منهم   الطبري ، و القشيري ، وغير واحد .

-وقال أبو بكر بن المنذر : يستحب ألا يصلي أحد صلاةً إلا صلى فيها على رسول الله r ، فإن ترك ذلك فصلاته مجزئة في مذهب مالك،وأهل المدينة،وسفيان الثوري،وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم .

 -وهو قول جمل أهل العلم .

-وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة ، وأن تاركها في التشهد مسيء .

-وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة ، وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان .

-وحكى أبو محمد بن أبي زيد ، عن محمد بن المواز ـ أن الصلاة على النبي r فريضة .
قال أبو محمد : يريد ليست من فرائض الصلاة ، وقاله محمد بن عبد الحكم وغيره .

-وحكى ابن القصار وعبد الوهاب ـ أن محمد بن المواز يراها فريضةً في الصلاة كقول الشافعي .

-وحكى أبو يعلى العبدي المالكي عن المذهب . فيها ثلاثة أقوال في الصلاة  :
الوجوب ، و السنة ، و الندب .

-وقد خالف الخطابي من أصحاب الشافعي وغيره ـ الشافعي في هذه المسألة ،
قال الخطابي : وليست بواجبة في الصلاة ، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ، ولا أعلم له فيها قدوةً  
والدليل على أنها ليست من فروض الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي ، وإجماعهم عليه . وقد شنع الناس عليه في هذه المسألة جداً .
وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي ، وهو الذي علمه له النبي
r ، ليس فيه الصلاة على النبي r، وكذلك كل من روى التشهد عن النبي r، كأبي هريرة ، وابن عباس ، وجابر وابن عمر ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير ... لم يذكروا فيه صلاة على النبي r

وقد قال ابن عباس ، وجابر : كان النبي r يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن . ونحوه عن أبي سعيد .-وقال ابن عمر : كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما يعلمون الصبيان في الكتاب .

-وعلمه أيضاً على المنبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

-وفي الحديث : لا صلاة لمن لم يصل علي . قال ابن القصار : معناه : كاملةً ، أو لمن لم يصل علي مرة في عمره .-وضعف أهل الحديث كلهم رواية هذا الحديث .

-وفي حديث أبي جعفر ، عن ابن مسعود ، عن النبي r: من صلى صلاةً لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه .
قال الدارقطني : الصواب أنه من قول أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين : لو صليتُ صلاةً لم أُصَل فيها على النبي
rولا على أله بيته لرأيت أ نها لا تتم .

                       الفصل الثالث

             في المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي r

من ذلك في تشهد الصلاة كما قدمناه ، وذلك بعد التشهد وقبل الدعاء :
* حدثنا القاضي أبو علي بقرائي عليه : حدثنا الإمام أبو القاسم البلخي ، قال : حدثنا الفارسي ، عن أبي القاسم الخزاعي ، عن الهيثم بن كليب ، عن أبي عيسى الحافظ ، قال : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا حيوة بن شريح ، حدثني أبو هانئ الخولاني ـ أن عمرو بن مالك الجنبي  أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول : سمع النبي
 rرجلاً يدعو في صلاته ، فلم يصل على النبي r  فقال النبي r: عجل هذا . ثم دعاه فقال له ولغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ، ثم ليدع بعد بما شاء .

-ويروى من غير هذا السند بتمجيد الله ، وهو أصح .

-وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : الدعاء والصلاة معلق بين السماء والأرض ، فلا يصعد إلى الله منه شيء حتى يصلي على النبي r.

-وعن علي ، عن النبي r بمعناه ، و قال وعلى آل محمد .

-وروي أن الدعاء محجوب حتى يصلي الداعي على النبي r.

-و عن ابن مسعود : إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئاً فليبدأ بمدحه والثناء عليه بما هو أهله ، ثم يصلي على النبي r ، ثم ليسأل ، فإنه أجدر أن ينجح .

-وعن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله r : لا تجعلوني كقدح الراكب ، فإن الراكب يملأ قدحه ثم يضعه ، ويرفع متاعه ، فإن احتاج إلى شراب شربه أو الوضوء توضأ ، وإلا هراقه ، ولكن اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه وآخره .

-وقال ابن عطاء : للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات ، فإن وافق أركانه قوي ، وإن وافق أجنحته طار في السماء ، وإن وافق مواقيته فاز ، وإن وافق أسبابه أنجح ، فأركانه حضور القلب ، والرقة ،      والإستكانة والخشوع ، وتعلق القلب بالله ، وقطعه الأسباب .
وأجنحة الصدق ، ومواقيته الأسحار ، وأسبابه الصلاة على محمد
r.

-وفي الحديث : الدعاء بين الصلاتين علي لا يرد .

-وفي حديث آخر : كل دعاء محجوب دون السماء ، فإذا جاءت الصلاة علي صعد الدعاء .

-وفي دعاء ابن عباس الذي رواه عنه حنش ، فقال في آخره : واستجب دعائي ، ثم تبدأ بالصلاة على النبي r فتقول : اللهم إني أسألك أن تصلي على محمد عبدك و نبيك و رسولك أفضل ما صليت على أحد من خلقك أجمعين آمين .

-ومن مواطن الصلاة عليه عند ذكره وسماع اسمه ، أو كتابته ، أو عند الأذان .

-وقد قال r : رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي .

-وكره ابن حبيب ذكر النبي r عند الذبح .

وكره سحنون الصلاة عليه r عند التعجب ، وقال : لا يُصَلَّى عليه إلا على طريق الاحتساب وطلب الثواب .

-قال أصبغ ، عن ابن القاسم : موطنان لا يذكر فيهما إلا الله : الذبيحة ، والعطاس ، فلا تقل فيهما بعد ذكر الله : محمد رسول الله . ولو قال بعد ذكر الله : صلى الله على محمد لم يكن تسميةً له مع الله .

-وقاله أشهب ، قال : ولا ينبغي أن تجعل الصلاة على النبي r فيه استناناً .

-وروى النسائي ، عن أوس بن أوس ، عن النبي r  الأمر بالإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة.  

-ومن مواطن الصلاة والسلام على النبي r  دخول المسجد :

 *قال أبو إسحاق بن شعبان : وينبغي لمن دخل المسجد أن يصلي على النبي r، وعلى آله ، ويترحم عليه ، وعلى آله ، ويبارك عليه وعلى آله ، ويسلم تسليماً ، ويقول : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك .وإذا خرج فعل مثل ذلك ، وجعل موضع رحمتك ـ فضلك .

-وقال عمرو بن دينار ـ في قوله تعالى :( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً  ) (النور : 61 ) ـ قال : إن لم يكن في البيت أحد فقل : السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته .

-قال ابن عباس : المراد بالبيوت هنا المساجد .

-وقال النخعي : إذا لم يكن في المسجد أحد فقل : السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا لم يكن في البيت أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

-وعن علقمة : إذا دخلت المسجد أقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، صلى الله وملائكته على محمد  r .

 ونحوه عن كعب : إذا دخل ، وإذا خرج ، ولم يذكر الصلاة .

-واحتج ابن شعبان لما ذكر بحديث فاطمة بنت رسول الله r ـ أن النبي r كان يفعله إذا دخل المسجد .

-ومثله عن أبي بكر بن عمرو بن حزم . وذكر السلام والرحمة .

-وقد ذكرنا هذا الحديث آخر القسم ، والاختلاف في ألفاظه .

**ومن مواطن الصلاة عليهr أيضاً الصلاة على الجنائز . -وذكر عن أبي أمامة أنها من السنة .

-ومن مواطن الصلاة التي مضى عليها عمل الأمة ، ولم تنكرها : الصلاة على النبي r وآله في الرسائل ، وما يكتب بعد البسملة ، ولم يكن هذا في الصدر الأول ، وأحدث عند ولاية بني هاشم ، فمضى به عمل الناس في أقطار الأرض . ومنهم من يختم به أيضاً الكتب .

-وقال r : من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب .

**ومن مواطن السلام على النبي r تشهد الصلاة :
حدثنا أبو القاسم خلف بن إبراهيم المقرىء الخطيب رحمه الله ، وغيره قال : حدثتني كريمة بنت محمد ، قالت : حدثنا أبو الهيثم ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي
r، قال : إذا صلى أحدكم فليقل : التحيات لله والصلاة  والطيبات ، السلام عل يك أيها النبي و رحمة وبركاته . السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض .
هذا أحد مواطن التسليم عليه ، وسنته أول التشهد .

-وقد روى مالك عن ابن عمر أنه كان يقول ذلك إذا فرغ من تشهده وأراد أن يسلم .

-واستحب مالك في المبسوط أن يسلم بمثل ذلك قبل السلام .

-قال محمد بن مسلمة : أراد ما جاء عن عائشة وابن عمر أنهما كانا يقولان عند سلامهما : السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته . السلام علينا و على عباد الله الصالحين . السلام عليكم .

-واستحب أهل العلم أن ينوي الإنسان حين سلامه كل عبد صالح في السماء والأرض من الملائكة وبني آدم و الجن .

-قال مالك في  المجموعة : وأحب للمأموم إذا سلم إمامه أن يقول : السلام على النبي ورحمة الله        وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . السلام عليكم ...

الفصل الرابع
في كيفية الصلاة والتسليم عليه
r

حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر الفقيه بقراءتي عليه ، حدثنا القاضي أبو الأصبغ ، حدثنا أبو عبد الله بن عتاب ، حدثنا أبو بكر بن واقد و غيره ، قالوا : حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا يحيى ، حدثنا مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه ، عن عمرو بن سليم الزرقي ـ أنه قال : أخبرني أبو حميد الساعدي ـ أنهم قالوا : يا رسول الله ، كيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك عل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .

-وفي رواية مالك ، عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : قولوا : اللهم صلي على محمد وعلى آله كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنك حميد مجيد .    والسلام -  كما قد علمتم .

-وفي رواية كعب بن عجزة : اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد و آل محمد كما باركت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد .

-وعن عقبة بن عمرو في حديثه : اللهم صل على محمد النبي الأمي  وعلى آل محمد .

-وفي رواية أبي سعيد الخدري: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك . . . و ذكر معناه .

-وحدثنا القاضي أبو عبد الله التميمي سماعاً عليه ، وأبو علي الحسن بن طريف النحوي بقراءتي عليه ، قالا : حدثنا أبو عبد الله بن سعدون الفقيه ، حدثنا أبو بكر المطوعي ،  حدثنا أبو عبد الله الحاكم ، عن أبي بكر بن أبي دارم الحافظ ، عن علي ابن أحمد العجلي ، عن حرب بن الحسن ، عن يحيى بن المساور   عن عمرو ابن خالد ، عن زيد بن علي بن الحسين ، عن أبيه علي ، عن أبيه الحسين ، عن أبيه علي بن  أبي طالب ، قال : عدهن في يدي رسول الله في كيفية الصلاة والتسليم عليه r، وقال : عدهن في يدي جبريل ، وقال : هكذا نزلت من عند رب العزة :  اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد . اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد .

-وعن أبي هريرة ، عن النبي في كيفية الصلاة والتسليم عليه r : من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل : اللهم صل على محمد النبي ، وأزواجه أمهات المؤمنين ، وذريته وأهل بيته ، كما صليت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد .

-وفي رواية زيد بن خارجة الأنصاري : سألت النبي في كيفية الصلاة والتسليم عليه r : كيف نصلي عليك ؟فقال : صلوا واجتهدوا في الدعاء ، ثم قولوا : اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد .

-وعن سلامة الكندي كان علي يعلمنا الصلاة على النبي في كيفية الصلاة والتسليم عليه r : اللهم داحي المدحوات ، وبارئ المسْموكات ، اجعل شرائف صلواتك ، ونوامي بركاتك ، ورأفة تحننك على محمد عبدك ورسولك ، الفاتح لما أغلق ، والخاتم لما سبق ، والمعلن الحق بالحق ، والدامغ لجيشات الأباطيل ، كما حمل ، فاضطلع بأمرك لطاعتك ، مستوفراً في مرضاتك ، واعياً لوحيك ، حافظاً لعهدك ، ماضياً على نفاذ أمرك ، حتى أوْرى قبساً لقابس ، آلاء الله تصل بأهله أسبابه ، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم  وأنهج موضحات الأعلام ، ونائرات الأحكام ، ومنيرات الإسلام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون ، وشهيدك يوم الدين ، وبعيثك نعمةً ، ورسولك بالحق رحمةً ، اللهم أفسح له في عدنك ،       واجْزِه مضاعفات الخير من فضلك ، مهنئات له غير مكدرات من فوز ثوابك المحلول ، وجزيل عطائك المعلول . اللهم أعْلِ على بناء الناس بناه ، وأكرم مثواه لديك ونزله ، وأتم له نوره ، واجز من ابتعاثك له مقبول الشهادة ، ومرضى المقالة ، ذا منطق عدل ، وخطة فصل ، وبرهان عظيم .

-وعنه أيضاً في الصلاة على النبي في كيفية الصلاة والتسليم عليه r : ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)   .
لبيك اللهم ربي وسعديك ، صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين ، والنبيين والصديقين ، والشهداء   والصالحين ، وما سبح لك من شيء يا رب العالمين ، على محمد بن عبد الله ، خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وإمام المتقين ، ورسول رب العالمين ، الشاهد البشير ، الداعي إليك بإذنك ، السراج المنير ، وعليه السلام .

-وعن عبد الله بن مسعود : اللهم اجعل صلواتك و بركاتك ورحمتك على سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، محمد عبدك ورسولك ، إمام الخير ، ورسول الرحمة .
اللهم ابعثه مقاماً محموداً يغبطه فيه الأولون والأخرون .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .

وكان الحسن البصري يقول : من أراد أن يشرب بالكأس الأوفى من حوض المصطفى فليقل : اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأولاده وأزواجه وذريته وأهل بيته وأصهاره وأنصاره وأشياعه ومحبيه  وأمته ، وعلينا  معهم أجمعين   يا أرحم الراحمين .

-وعن طاوس ، عن ابن عباس ـ أنه كان يقول : اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى ، وارفع درجته العليا ، وآتِه سؤله في الآخرة والأولى ، كما آتيت إبراهيم وموسى .

-وعن وهيب بن الورد أنه كان يقول في دعائه : اللهم أعط محمداً أفضل ما سألك لنفسه ، وأعط محمداً أفضل ما سألك له أحد من خلقك . وأعط محمداً أفضل ما أنت مسؤول له إلى يوم القيامة .

-وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : إذا صليتم على النبي  r  فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنكم لا تدرون ، لعل ذلك يعرض عليه ، وقولوا : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ، ورسول الرحمة . اللهم ابعثه مقاماً محموداً يغبطه فيه الأولون والآخرون ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم بارك على محمد و لى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد .

*وما يؤثر في تطويل الصلاة وتكثير الثناء على أهل البيت وغيرهم ـ كثير .

وقوله : والسلام كما قد علمتم : هو ما علمهم  في التشهد من قوله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

-وفي تشهد علي : السلام على نبي الله ، السلام على أنبياء الله ورسله ، السلام على رسول الله ، السلام على محمد بن عبد الله ، السلام علينا وعلى المؤمنين والمؤمنات ، من غاب منهم ومن شهد .
اللهم اغفر لمحمد ، وتقبل شفاعته ، واغفر لأهل بيته ، واغفر لي ولوالدي وما ولدا ، وارحمهما .
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .

-جاء في هذا الحديث عن علي : الدعاء للنبي  r  بالغفران .

 -وفي حديث الصلاة عليه r عنه أيضاً قبل : الدعاء له بالرحمة ، ولم يأت في غيره من الأحاديث المرفوعة المعروفة .

-وقد ذهب أبو عمر بن عبد البر وغيره إلى أنه لا يُدْعى للنبي  r  بالرحمة ، وإنما يُدعى له بالصلاة  والبركة التي تختص به ، ويُدعى لغيره بالرحمة والمغفرة .

-وقد ذكر أبو محمد بن أبي زيد في الصلاة على النبي  r : اللهم ارحم محمداً وآل محمد كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم .

ولم يأت هذا في حديث صحيح . وحجته قوله في السلام : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .

الفصل الخامس
في فضيلة الصلاة والتسليم على النبي
r  والدعاء له

*حدثنا أحمد بن محمد الشيخ الصالح من كتابه ، حدثنا القاضي يونس بن مغيث ، حدثنا أبو بكر بن معاوية ، حدثنا النسائي ، أخبرنا سويد بن نصر ، أخبرنا عبد الله عن حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا كعب بن علقمة ، أنه سمع عبد الرحمن بن جبير مولى نافع ـ أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله r يقول : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، و صلوا علي ، فإنه من صلى علي مرةً واحدةً صلى الله عشراً ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، و أرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة .

-وروى أنس بن مالك أن النبي r قال : من صلى علي صلاةً صلى الله عليه عشر صلوات ، وحط عنه عشر خطيئات ، ورفع له عشر درجات .

-وفي رواية : وكتب له عشر حسنات .

-وعن أنس ، عنه r: إن جبريل ناداني ، فقال : من صلى عليك صلاةً صلى الله عليه عشراً ، ورفعه عشر درجات .

-وفي رواية عبد الرحمن بن عوف ، عنه r: لقيت جبريل فقال لي : إني أبشرك أن الله تعالى يقول : من سلم عليك سلمت عليه ، و من صلى عليك صليت عليه .
ونحوه من رواية أبي هريرة ، ومالك بن أوس بن الحدثان ، وعبيد الله ابن أبي طلحة .

-وعن زيد بن الحباب : سمعت النبي r يقول : من قال : اللهم صل على محمد وأنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي .

-وعن ابن مسعود  ، عنr  : أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة .

-وعن أبي هريرة ، عنه r: من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي اسمي في ذلك الكتاب .

-وعن عامر بن ربيعة : سمعت النبي r يقول : من صل علي صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى علي ، فليقلل من ذلك عبد أو ليكثر .

-وعن أبي بن كعب : كان رسول الله r إذا ذهب ربع الليل قام فقال :  أيها الناس ، اذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه .

فقال أبي بن كعب : يا رسول الله ، إني أكثر الصلاة عليك ، فكم أجعل لك من صلاتي ؟
قال : ما شئت . قال : الربع ؟ قال :  ما شئت ، وإن زدت فهو خير  . قال الثلث ؟ قال :   ما شئت ، و إن زدت فهو خير . قال : النصف ؟ قال :  ما شئت ، و إن زدت فهو خير  .
قال : قال : الثلثين ؟ قال :  ما شئت ، و إن زادت فهو خير.قال : يا رسول الله ،فأجعل صلاتي كلها لك ؟ قال :  إذاً تُكفى ويُغفر ذنبُك  .

-وعن أبي طلحة : دخلت على النبي r فرأيت من بشره وطلاقته ما لم أره ، فسألته ، فقال : وما يمنعني وقد خرج جبريل آنفاً ، فأتاني ببشارة من ربي عز وجل : إن الله بعثني إليك أبشرك أنه ليس أحد من أمتك يصلي عليك إلا صلى عليه وملائكته بها عشراً .

-وعن جابر بن عبد الله ، قال : قال النبي r : من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ـ حلت له الشفاعة يوم القيامة .

-وعن سعد بن أبي وقاص ، من قال حين يسمع المؤذن : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده  لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، رضيت بالله رباً و بمحمد رسولا ، وبالإسلام ديناً ـ غُفر له .

-وروى ابن وهب أن النبي r قال : من سلم علي عشراً فكأنما أعتق رقبة .

-وفي بعض الآثار : لَيَرِدَنّ  عَلَيَّ أقوامٌ ما أعرفهم إلا بكثرة صلاتهم علي .

-وفي آخر : إن أنجاكم يوم القيامة من أهوالها ومواطنها أكثركم علي صلاةً .

-وعن أبي بكر : الصلاة على النبي r أمحق للذنوب من الماء البارد للنار ، والسلام عليه أفضل من عتق الرقاب .

الفصل السادس
في ذم وإثم من لم يصل على النبي
r

*حدثنا القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، وأبو الحسين الصيرفي ، قالا : حدثنا أبو يعلى ، حدثنا السنجي ، حدثنا محمد ابن محبوب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا ربعي ابن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله r:
رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ، ورغم أنف رجل دخل رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ،     ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة .
قال عبد الرحمن : و أظنه قال : أو أحدهما .

-وفي حديث آخر : أن النبي r صعد المنبر فقال : آمين  ثم صعد ، فقال :  آمين  ، فسأله معاذ عن ذلك ، فقال : إن جبريل أتاني فقال : يا محمد ، من سميت بين يديه فلم يصل عليك فمات فدخل النار ، فأبعده الله ، قل آمين ، فقلت آمين .
و قال فيمن أدرك رمضان فلم يقبل منه فمات مثل ذلك .
و من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات مثله .
-وعن علي بن أبي طالب : عنه
r أنه قال : البخيل كل البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصل علي .

-وعن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال رسول الله r: من ذكرت عنده فلم يصل علي أخطيء به طريق الجنة .

-وعن أبي هريرة قال ، قال أبو القاسم r : أيما قوم جلسوا مجلساً ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله        ويصلوا على النبي r كانت عليهم من الله ترة إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم .

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه : من نسي الصلاة علي نسي طريق الجنة .

-وعن قتادة ، عنه r : من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي علي .  

-وعن جابر ، عنه rقال : ما جلس قوم مجلساً ثم تفرقوا على غير صلاة على النبي r إلا تفرقوا على أنتن من ريح الجيفة .

-وعن أبي سعيد ، عن النبي r ، قال : لا يجلس قوم مجلساً لا يصلون فيه على النبي r إلا كان عليهم حسرةً وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب .

-وحكى أبو عيسى الترمذي ، عن بعض أهل العلم ، قال : إذا صلى الرجل على النبي r مرة في المجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس .
 

الفصل السابع
في تخصيصه
r بتبليغ صلاة من صلى عليه و سلم من الأنام

*حدثنا القاضي عبد الله التميمي ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا أبو عمر الحافظ ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، حدثنا ابن عوف ، حدثنا المقرىء ، حدثنا حيوة ، عن أبي صخر حميد بن زياد ، عن يزيد بن عبد الله ابن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال : ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام .
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله
r : من صلى علي عند قبري سمعته ، و من صلى علي نائياً بلغته .

-وعن أبي مسعود ، عنه r  : إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام .
ونحوه عن أبي هريرة .

-وعن ابن عمر : أكثروا من السلام على نبيكم كل جمعة ، فإنه يؤتي به منكم في كل جمعة .

-وفي رواية : فإن أحداً لا يصلي علي إلا عرضت صلاته علي حين يفرغ منها .

-وعن الحسن ، عنه r : حيثما كنتم فصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني .

-وعن ابن عباس : ليس أحد من أمة محمد r ، يسلم عليه ويصلي عليه إلا بلغه .

-وذكر بعضهم أن العبد إذا صلى على النبي r عرض عليه اسمه .

-وعن الحسن بن علي : إذا دخلت المسجد فسلم على النبي r فإن رسول الله r قال : لا تتخذوا بيتي عيداً ، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي حيث كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم .

-وفي حديث أوس : أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي .

-وعن سليمان بن سحيم : رأيت النبي r في النوم ، فقلت : يا رسول الله ، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك ، أتفقه سلامهم ؟ قال : نعم وأرد عليهم .

-وعن ابن شهاب : بلغنا أن رسول الله r قال : أكثروا من الصلاة علي في الليلة الزهراء ، واليوم الأزهر ، فإنهما يؤديان عنكم ، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وما من مسلم يصلي علي إلا حملها ملك حتى يؤديها إلي ويسميه حتى إنه ليقول : إن فلاناً يقول كذا و كذا .      

الفصل  الثامن
في الاختلاف في الصلاة على غير النبي
r وسائر الأنبياء عليهم السلام

-قال القاضي وفقه الله : عامة أهل العلم متفقون على جواز الصلاة على غير النبيr  .

-وروي عن إبن عباس أنه لا تجوز الصلاة على غير النبيr.  

 -وروي عنه : لا تنبغي الصلاة على أحد إلا النبيين .

-وقال سفيان : يكره أن يصلي إلا على نبي .

ووجدت بخط بعض شيوخي : مذهب مالك أنه لايجوز أن يصلي على أحد من ألأنبياء سوى محمد r ، و هذا غير معروف من مذهبه ، وقد قال مالك في المبسوطة ليحيى بن إسحاق : أكره الصلاة على غير الأنبياء ، وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به .

-وقال يحيى بن يحيى : لست آخذ بقوله ، ولا بأس بالصلاة على الأنبياء كلهم وعلى غيرهم ، واحتج بحديث ابن عمر ، وبما جاء في حديث تعليم النبي r الصلاة عليه ، و فيه : وعلى أزواجه ، وعلى آله.

-وقد جاء معلقاً عن أبي عمران القابسي : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما كراهة الصلاة على غير النبي r ، قال : وبه نقول . ولم تكن تستعمل فيما مضى .

-وقد روى عبد الرزاق عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله r : صلوا على أنبياء الله ورسله ، فإن الله بعثهم كما بعثني .

-قالوا : والأسانيد عن ابن عباس لينة ، والصلاة في لسان العرب بمعنى الترحم والدعاء ، وذلك على الإطلاق حتى يمنع منه حديث صحيح أو إجماع .

-و د قال الله تعالى :( (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب : 43 )

-وقال : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة : 103 )

-وقال : (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة : 157 ).

-وقال النبي r : اللهم صل على آل أبي أوفى ، وكان إذا أتاه قوم بصدقتهم ، قال : اللهم صل على آل فلان .

-وفي حديث الصلاة : اللهم صل على محمد ، و على أزاوجه و ذريته .

-وفي حديث آخر : وعلى آل محمد : قيل أتباعه ، وقيل : آل بيته  . وقيل : أمته . وقيل : الأتباع ،      والرهط ، والعشيرة . وقيل : آل الرجل ولده . وقيل : قومه . وقيل : أهله الذين حرمت عليهم الصدقة .

-وفي رواية أنس : سئل النبي r : من آل محمد ؟ قال : كل تقي .

-ويجي على مذهب الحسن أن المراد بآل محمد r  ـ محمدr  نفسه ، فإنه كان يقول في صلاته على النبي : اللهم اجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد ـ يريد نفسه ، لآنه كان لا يخل بالفرض ، ويأتي بالنفل ، لأن الفرض الذي أمر الله تعالى به هو الصلاة على محمد نفسه .
وهذا مثل قوله
r : لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود يريد من مزامير داود .

-وفي حديث أبي حميد الساعدي في الصلاة : اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته .

-وفي حديث ابن عمر أنه كان يصلي على النبي r، وعلى أبي بكر وعمر ـ ذكره مالك في الموطأ من رواية يحيى الأندلسي . والصحيح من رواية غيره : ويدعو لأبي بكر وعمر .

-وروى ابن وهب ، عن أنس بن مالك : كنا ندعو لأصحابنا بالغيب ، فنقول : اللهم اجعل منك على فلان صلوات قوم أبرار الذين يقومون بالليل ويصومون بالنهار .

*قال القاضي أبو الفضل : والذي ذهب إليه المحققون ، وأميل إليه ما قاله مالك وسفيان رحمهما الله ،    وروي عن ابن عباس ، واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين ـ أنه لا يصلى على غير الأنبياء عند ذكرهم ، بل هو شيء يختص به الأنبياء ، توقيراً لهم وتعزيزاً ، كما يخص الله تعالى عند ذكره بالتنزيه   والتقديس والتعظيم ، ولا يشاركه فيه غيره ، كذلك يجب تخصيص النبي r  وسائر الأنبياء بالصلاة     والتسليم ، ولا يشارك فيه سواهم ، كما أمر الله به بقوله :( صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : 56 )

-ويذكر من سواهم من الأئمة وغيرهم بالغفران والرضا ، كما قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر : 10 )

-وقال : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 100 )

-وأيضاً فهو أمر لم يكن معروفاً في الصدر الأول ، كما قال أبو عمران ، وإنما أحدثته الرافضة           والمتشيعة في بعض الأئمة ، فشاركوهم عند الذكر لهم بالصلاة ، وساووهم بالنبي r في ذلك .
وأيضاً فإن التشبيه بأهل البدع منهي عنه ، فتجب مخالفتهم فيما التزموه من ذلك .

-وذكر الصلاة على الآل والأزواج مع النبي r بحكم التبع والإضافة إليه لا على التخصيص.

 -قالوا : وصلاة النبي r على من صلى عليه مجراها مجرى الدعاء والمواجهة ، ليس فيها معنى التعظيم و التوقير .

-قالوا : وقد قال تعالى : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم) (النور : 63 )، فكذلك يجب أن يكون الدعاء له مخالفاً لدعاء الناس بعضهم لبعض .

وهذا اختيار الإمام أبي المظفر الإسفرايني من شيوخنا ،  وبه قال ابن عبد البر  .

الفصل التاسع
في حكم زيارة قبره  وفضيلة من زاره وسلم عليه
r

وزيارة قبره r سنة من سنن المسلمين مجمع عليها ، وفضيلة مرغب فيها ...

*حدثنا القاضي أبو علي ، قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، قال : حدثنا الحسن بن جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني ، قال : حدثنا القاضي المحاملي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرزاق ، قال : حدثنا موسى بن هلال ، عن عبد الله بن عمر، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : قال النبي r من زار قبري و جبت له شفاعتي .

-وعن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله r : من زارني في المدينة محتسباً كان في جواري ،      وكنت له شفيعاً يوم القيامة

-وفي حديث آخر : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي .

وكره مالك أن يقال : زرنا قبر النبي r.
وقد اختلف في معنى ذلك ، فقيل : كرامة الاسم ، لما ورد من قوله
r: لعن الله زوارات القبور .
وهذا يرده قوله : نهيتم عن زيارة القبور فزوروها .
وقوله : من زار قبري ، فقد أطلق اسم الزيارة .
وقيل لأن ذلك لما قيل إن الزائر أفضل من المزور .
وهذا أيضاً ليس بشيء، إذ ليس كل زائر بهذه الصفة ، وليس عموماً ، وقد ورد في حديث أهل الجنة : زيارتهم لربهم ، ولم يمنع هذا اللفظ في حقه تعالى .

-وقال أبو عمران رحمه الله : إنما كره مالك أن يقال : طواف الزيارة ، وزرنا قبر النبي r ، لاستعمال الناس ذلك بينهم بعضهم لبعض، فكَرِه تسوية النبي r مع الناس بهذا اللفظ ،وأحب أن يخص بأن يقال : سلمنا على النبي r.

  وأيضاً فإن الزيارة مباحة بين الناس ، وواجب شد الرحال إلى قبره ، يريد بالوجوب هنا ندب وترغيب   وتأكيد ، لا وجوب فرض .

-والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي r ، وأنه لو قال : زرت النبي لم يكرهه ، لقوله r: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد بعدي ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر ، والتشبه بفعل أولئك ، قطعاً للذريعة وحسماً للباب والله أعلم .

-قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة ، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله r، والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره ، ومجلسه ، وملامس يديه ، ومواطئ قدميه  والعمود الذي كان يستند إليه ، وينزل جبريل بالوحي فيه عليه ، وبمن عمره وقصده من الصحابة وأئمة المسلمين ، والاعتبار بذلك كله .

- وقال ابن أبي فديك : سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي r  فتلا هذه الآية :  (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : 56 ) ـ قال : صلى الله عليك يا محمد ـ من يقولها سبعين مرة ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ،     ولم تسقط له حاجة .

-وعن يزيد بن أبي سعيد المهري : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلما ودعته قال : لي إليك حاجة ، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي  r  فأقره مني السلام .

-وقال غيره : وكان يبرد إليه البريد من الشام .

-قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي r ، فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة ، فسلم على النبي r ، ثم انصرف .

-وقال مالك ـ في رواية ابن وهب : إذا سلم على النبي r، ودعا ، يقف ووجهه إلى القبر الشريف    لا إلى القبلة ، ويدنو ، ويسلم ، ولا يمس القبر بيده .

-وقال في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي r يدعو ، ولكن يسلم ويمضي .

-قال ابن أبي مليكة : من أحب أن يقوم وجاه النبي r فليجعل القنديل الذي عند القبر على رأسه .

-وقال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر ، رأيته مائة مرة وأكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي r ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، ثم ينصرف .

 ورئي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبيr من المنبر ، ثم وضعها على وجهه .

وعن ابن قسيط و العتبي : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد جسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ، ثم استقبلوا القبلة يدعون  .

-وفي الموطأ ـ من رواية  يحيى بن يحيى الليثي ـ أنه كان يقف على قبر النبي r فيصلي على النبي  وعلى أبي بكر وعمر .

-وعن ابن القاسم والقعنبي : و يدعو لأبي بكر وعمر .

-قال مالك ـ في رواية ابن وهب : يقول المسلم : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .

-قال في المبسوط : ويسلم على أبي بكر ، وعمر .

-قال القاضي أبو الوليد الباجي : وعندي أنه يدعو للنبي r بلفظ الصلاة ، ولأبي بكر ، وعمر ، كما في حديث ابن عمر من الخلاف .

-وقال ابن حبيب : وتقول إذا دخلْتَ مسجد الرسول : بسم الله ، وسلام على رسول الله عليه السلام ، السلام علينا من ربنا ، وصلى الله وملائكته على محمد .
اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك وجنتك ، واحفظني من الشيطان الرجيم ، ثم اقصِدْ إلى الروضة ، وهي ما بين القبر والمنبر فاركَعْ فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيهما وتسأله تمام ما خرجت إليه والعونَ عليه .
وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك ، وفي الروضة أفضل . -وقد قال
r : ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنة .
ثم تقف متواضعاً متوقراً ، فتصلي عليه وتثني بما يحضرك ، وتسلم على أبي بكر وعمر ، وتدعو لهما .
وأكثر من الصلاة في مسجد النبي
r بالليل والنهار،ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبورالشهداء.  

-وقال مالك  في كتاب محمد : و يسلم على النبي  r   إذا دخل وخرج ـ يعني في المدينة ـ وفيما بين ذلك .

-وقال محمد : وإذا خرج جعل آخر عهده الوقوف بالقبر ، وكذلك من خرج مسافراً .

-وروى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي r أن النبي r قال : إذا دخلت المسجد فصل على النبي r، وقل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك . وإذا خرجت فصل على النبي r ، وقل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك .

-وفي رواية أخرى : فليسلم  مكان : فليصل فيه ، ويقول إذا خرج : اللهم إني أسألك من فضلك .

-وفي أخرى : اللهم احفظني من الشيطان الرجيم .

-وعن محمد بن سيرين : كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد : صلى اللهُ وملائكتُه على محمد . السلام عليك أيها النبي ورحمة الله ، باسم الله دخلنا ، وباسم الله خرجنا ، وعلى الله توكلنا .
وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك .

-وعن فاطمة أيضاً : كان النبي r إذا دخل المسجد قال : صلى الله على محمد وسلم .

ثم ذكر مثل حديث فاطمة قبل هذا .

-وفي رواية : حمد الله وسمى ، و صلى على النبي r ، وذكر مثله .

-وفي رواية : باسم الله ،و السلام على رسول الله .

-وعن غيرها : كان رسول الله r إذا دخل المسجد قال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، ويسر لي أبواب رزقك .

-وعن أبي هريرة : إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي r، وليقل : اللهم افتح لي .

-وقال مالك في المسبوط :وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر ، وإنما ذلك للغرباء .

-وقال فيه أيضاً : لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي r ، فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر . -فقيل له : فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، ربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة ! .
فقال : لم يبلغني هذا على أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده

 -قال ابن القاسم : ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر فسلموا ، قال : وذلك رأيي .

-قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة والغرباء ، لأن الغرباء قصدوا لذلك ، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم .

-وقال r : اللهم لا تجعل قبري و ثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

-وقال : لا تجعلوا قبري عيداً .

-ومن كتاب أحمد بن سعيد الهندي ـ فيمن وقف بالقبرـ : لا يلصق به ، ولا يمسه ، ولا يقف عنده طويلاً .-وفي العتبية : يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي r ، وأحب مواضع التنقل فيه مصلى النبيr حيث العمود المخلق . وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف والتنقل فيه للغرباء أحب إلي من التنقل في البيوت ....

                                         الفصل العاشر

                                 آداب دخول المسجدالنبوي وفضله

فيما يلزم من دخل مسجد النبي r من الأدب سوى ما قدمناه وفضله وفضل الصلاة فيه وفي مسجد مكة وذكر قبره ومنبره  وفضل سكنى المدينة  ومكة . قال تعالى:(  لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة : 108 )

روي أن النبي r سئل أي مسجد هو ؟ قال: مسجدي هذا. وهو قول ابن المسيب ،وابن عمر، ومالك بن أنسةغيرهم.

وعن ابن عباس لأنه مسجد قباء = حدثنا هشام بن أحمد الفقيه  بقراءني عليه قال: حدثنا الحسين بن محمد  الحافظ ،حدثنا أبو عمر النمري ،حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ،حدجثنا أبو بكر بن داسة ،حدثنا أبو داود ،حدثنا سفيان عن الزهري عن سعسد بن المسيب عن أبي هريرة رضس الله عنه عن النبي r قال : لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد  : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى .

وقد تقدمت الآثار في الصلاة والسلام على النبي r عند دخول المسجد ...وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي r كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم..

وقال مالك رحمه الله  سمع عمر بن الخطاب صوتاً في المسجد فدعا بصاحبه فقال : ممن أنت ؟ قال : رجل من ثقيف ، قال : لو كنت من هاتين القريتين لأدبتك . إن مسجدنا لا يرفع فيه الصوت .

وقال محمد بن مسلمة : لا ينبغي لأحد أن يعتمد المسجد برفع الصوت ولا بشيء من الأذى وأن يُنزَّه عما يُكرَه .قال القاضي حكى ذلك كله القاضي إسماعيل في مبسوطه في باب فضل مسجد النبي r  والعلماء كلهم متفقون  أن حكم سائر المساجد هذا الحكم.قال القاضي إسماعيل وقال محمد بن مسلمة : ويُكره في مسجد الرسولr   الجهر على المصلين فيما يخلط عليهم صلاتهم وليس مما يخص به المساجد رفع الصوت وقدكره رفع الصوت بالتلبية في مساجد الجماعات إلا المسجد الحرام ومسجدنا .

وقال أبو هريرة رضي الله عنه ،عن النبي r : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام . 

قال القاضي : اختلف الناس في معنى هذا الإستثناء على اختلافهم في المفاضلة بين مكة والمدينة ،فذهب مالك ،في رواية أشهب عنه وقال ابن نافع صاحبه وجماعة أصحابه ،إلى أن معنى أن الصلاة في مسجد الرسول  r أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلة إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه بدون الألف واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة  فيما سواه .فتأتي فضيلة مسجد رسول اللهr  بتسعمائة وعلى غيره بألف.وهذا مبني على تقضيل المدينة على مكة على ما قدمناه  وهو قول عمر بن الخطاب ومالك وأكثر المدنيين..

وذهب أهل مكة والكوفة إلى نفضبل مكة وهو قول عطاء وابن وهب وابن حيبب من أصحاب مالك وحكاه الباجي عن الشافعي وحملوا الإستثناء في الحديث المتقدم على ظاهره وأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير عن النبي بمثال حدبث أبي هريرة وفيه :وصلاة في المسجد الحرام أقضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة .. وروى قتادة مثله فيأتي فضل الصلاة في المسجد الحرام على هذا على الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف ولا خلاف أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض ،

قال القاضي أبو الوليد الباجي : الذي يقتضيه الحديث مخالفة حكم مسجد مكة لسائر المساجد ولا يُعلم منه حكمها مع المدينة .

وذهب الطحاوي إلى أن هذا التفضيل إنما هو في صلاة الفرض .. وذهب مطرف من أصحابنا إلى أن ذلك في النافلة أيضاً.قال: وجُمعة خير من جُمعة ورمضان خيرٌ من رمضان وقد ذكر عبد الرزاق في تفضيل رمضان بالمدينة وغيرها حديثاَ نحوه وقال النبيr  :ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة .. ومثله عن أبي هريرة ، وأبي سعيد :وزاد: ومنبري على حوضي...وفي حديث آخر : منبري على ترعة من ترع الجنة...قال الطبري فيه معنيان: أحدهما أن المراد بالبيت بيت سكناه على الظاهر مع أنه رُوِيَ ما يبينه: بين حجرتي ومنبري.والثاني أن البيت هنا القبر،وهو قول زيد بن أسلم في هذا الحديث كما رُوي بين قبري ومنبري ..قال الطبري :وإذا كان قبره في بيته اتفقت معاني الروايات ولم يكن بينها خلاف لأن قبره في حجرته وهو بيته .وقولهr  : ومنبري على حوضي .قيل يحتمل أنه منبره بعينه الذي كان في الدنيا وهو أظهر ،والثاني أن يكون له هناك منبر ،والثالث أن قصد منبره والحظور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يوردُ الحوضَ ويوجب الشربَ منه . قاله الباجي. وقوله r: روضة من رياض الجنة، يحتمل معنيين : أحدهما أنه موجب لذلك وأن الدعاء والصلاة فيه يستحق ذلك من التواب كما قيل :الجنة تحت ظلال السيوف.والثاني أن تلك البقعة قد ينقلها اللهُ فتكون في الجنة بعينها. قاله الداودي .

وروى ابنُ عمر وجماعة من الصحابة أن النبي r  قال في المدينة  : لا يصبر على لأوائها وشدتها أحدٌ إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة.  وقال  r في من تحمل عن المدينة : والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون .وقال : إنما المديبة كالكير تنفي خبثها ويصنع طيبها .وقالr  :لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراَ منه.وروي عنه r: من مات في أحد الحرمين حاجاً أو معتمراً بعثه الله يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب ..وفي طريق لآخر : بعث من الآمنين يوم القيامة ..وعن ابن عمر عنه r: من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها..

وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) (آل عمران : 97+96 )

قال بعض المفسرين : آمِناً من النار . وقيل كان يأمَن مِن الطلب مَن أحدث حدثاً خارجًا عن الحرم ولجأ إليه في الجاهلية ،وهذا مثل قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً  ) (البقرة : 125 ) على قول بعضهم وحُكي أن قوماً أتوا سعدون الخولاني بالمنستير فأعلموه أن كتامة قتلوا رجلاً وأضرموا عليه النار طول الليل فلم تعمل فيه شيئاً وبقي أبيض البدن فقال: لعله حج ثلاث حجج ؟ قالوا نعم..قال : حدثتُ أن من حج حجةً أدى فرضَه ومن حج ثاتية دايَن ربَّه ومن حج ثلاث حجج حرم اللهُ شعرَه وبشرَه على النار...ولما نظر رسول الله  rإلى الكعبة قال : مرحباً بك من بيت  ، ما أعظمك وأعظم حرمتك. وفي الحديث عنهr : ما من أحد يدعو الله تعالى عند الركن الأسود إلا استجاب الله له...وكذلك عند الميزاب وعنه r: من صلى خلف المقام ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وحُشر يوم القيامة من الآمنين...

قال الفقيه القاضي أبو الفضل قرأت على القاضي الحافظ أبي علي ،حدتنا أبو العباس العذري قال،حدثنا أبو أسامة محمد بن أحمد بن محمد الهروي ،حدتنا الحسن بن رفيق ،سمعت أبا الحسن محمد بن الحسن بن راشد ،سمعت أبا بكرمحمد بن إدريس ،سمعت الحميدي قال :سمعت سفيان بن عيينة قال:سمعت عمرو بن دينار ،قال : سمعت ابن عباس يقول : سمعت رسول الله r يقول : ما دعا أحد بشيء في هذا الملتزم إلا استجيب له ..قال ابن عباس : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من رسول اللهr إلا استجيب لي.وقال عمرو بن دينار : وأنا فما دعوت الله  بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من ابن عباس إلا استجيب لي ...وقال سفيان : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من عمرو إلا استجيب لي ..وقال الحميدي :وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا  الملتزم منذ سمعت هذا من سفيان إلا استجيب لي ..وقال محمد بن إدريس :وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحميدي إلا استجيب لي ..وقال أبو الحسن محمد بن الحسن : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من محمد بن إدريس إلا استجيب لي .قال أبو أسامة :وما أذكر الحسن بن رشيق قال فيه شيئاً،وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحسن بن رشيق إلا استجيب لي من أمر الدنيا وأنا أرجو أن يستجاب لي من أمر الآخرة..قال العذري:وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من أبي أسامة إلا استجيب لي ..قال أبو علي :وأنا فقد دعوت الله فيه بأشياء كثيرة استجيب لي بعضها وأنا أرجو من سعة فضله أن يستجيب لي بقيتها..

*قال القاضي أبو الفضل :ذكرنا نبذاً من هذه النكتفي هذا الفصل وإن لم تكن من الباب لتعلقها بالفصل الذي قبله حرصاً على تمام الفائدة...والله الموفق للصواب برحمته.
              القسم الثالث

فيما يجب للنبيr  ، وما يستحيل في حقه ، وما يجوز عليه  ، وما يمتنع  ويصح من الأحوال البشرية أن يضاف إليه .

مقدمة القسم الثالث

قال الله تعالى:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران : 144 )

وقال: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المائدة : 75 )

وقال: (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (الفرقان : 20 )

وقال : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف : 110 )

فمحمدr  وسائر الأنبياء من البشر ولولا ذلك أطاق الناس مقاومتهم والقبول عنهم ومخاطبتهم  . قال الله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) (الأنعام : 9 )أي لما كان إلا في صورة البشر الذين يمكنهم مخالطتهم .إذ لا يطيقون مقاومة الملك ومخاطبته ورؤيته إذا كان على صورته .وقال الله تعالى: (قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً) (الإسراء : 95 ) أي لا يمكن في سنة الله إرسال الملك إلا لمن هو من جنسه أو من خصه الله تعالى واصطفاه  وقواه  على مقاومته كالأتبياء  والرسل... فالأنبياء والرسل عليهم السلام وسائط بين الله تعالى وبين خلقه يبلغونهم أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ويعرفونهم بما لم يعلموه من أمره وخلقه وجلاله وسلطانه وجبروته وملكوته فظواهرهم وأجسادهم وبنيتهم متصفة بأوصاف البشر طاريء عليها ما يطرأ على البشر من الأعراض والأسقام والموت والفناء ونعوت الإنسانية ،وأرواحهم وبواطنهم متصفة بأعلى من أوصاف البشر متعلقة باملأ الأعلى متشبهة بأوصاف الملائكة  سليمة من التغير والآفات لا ياحقها غالبا عجز البشرية ولا ضعف الإنسانية إذ لو كانت بواطنهم خالصة للبشرية كظواهرهم لما أطاقوا الأخذ عن الملائكة ورؤيتهم ومخاطبتهم ومخالَّتهم كما لا يطيقه غيرهم من البشر ولو كانت أجسادهم وظواهرهم متسمة بنعوت  الملائكة وبخلاف صفات البشر لما أطاق البشر ومن أُرسلوا إليه مخالطتهم  كما تقدم من قول الله تعالى فجُعلوا من جهة الأجسام والظواهر مع البشر ومن جهة الأرواح والبواطن مع الملائكة ،كما قال r : لو كنت متخذا من أمتي  خليلا  لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ،لكن صاحبكم خليل الرحمن. وكما قال r : تنام عيناي ولا ينام قلبي ،إني لست كهيأتكم أظل يطعمني ربي ويسقيني . فبواطنهم منزهة عن الآفات مطهرة عن النقائص والإعتلالات،وهذه جملة لن يكتفي بمضمونها  كل ذي همة بل الأكثر يحتاج إلى بسط وتفصيل على ما نأتي به بعد هذا في البابين بعون الله تعالى وهو حسبي ونعم الوكيل..

                                        البــــــاب الأول

فيما يختص بالأمور الدينية والكلام في عصمة نبينا r وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين

ويشتمل على تمهيد و 16  فصلا :

1- عصمة النبي r في أقواله وأفعاله

2- في عصمة الأنبياء عليهم السلام  قبل النبوة

3- في كون قلوب الأنبياء عليهم السلام احتوت على المعرفة والعلم بأمور الدين والدنيا...

4- في عصمة النبيr   من الشيطان وكفايته منه ...

5- في صدق أقوالهr

6- سؤالات لبعض الطاعنين

7- حاله   r   في أخبار الدنيا

8- في حديث السهو

9- في عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات

10- في عصمة الأنبياء قبل النبوة

11- حكم السهو والنسيان في الأفعال

12- في الكلام على الأحاديث المذكور فيها السهو منه r

13- في الرد على من أجاز عليهم الصغائر

14- حا ل الأنبياء في الخوف والإستغفا ر

15-في تنزيه النبيr  عما لا يجب أن يضاف إليه

16- في القول في عصمة الملائكة 

تـــــمـــهـــــــيـــد

قال القاضي أبو الفضل وفَّقه الله : اعلم أن الطواريء من التغيرات والآفات على آحاد البشر لا يخلو أن تطرأ على جسمه أو على حواسه بغير قصد واختيار كالأمراض والأسقام أو تطرأ بقصد واختيار ،وكله في الحقيقة عمل وفعل ولكن جرى رسم المشايخ بتفصيله إلى ثلاثة أنواع :عقد بالقلب ،وقول باللسان، وعمل بالجوارح ، وجميع البشر تطرأ عليهم الآافات والتغيرات بالإختيار وبغير الإختيار في هذه الوجوه كلها والنبيr وإن كان من البشر ويجوز على جبلته ما يجوز على جبلة البشر فقد قامت البراهين القاطعة وتمت كلمة الإجماع على خروجه عنهم وتنزيهه عن كثير من الآفات التي تقع على الإختيار وعلى غير الإختيار كما سنبينُه إن شاء الله تعالى فيما نأتي به من التفاصيل.

الفصل  الأول
عصمة النبي
r في أقواله وأفعاله

اعلم ـ منحنا الله وإياك توفيقه ـ أن ما تعلق منه بطريق التوحيد والعلم  بالله وصفاته والإيمان به وبما أُوحي إليه فعلى غاية المعرفة ووضوح العلم واليقين والإنتفاء عن الجهل بالشيء من ذلك والشك أو الريب فيه والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك واليقين ،هذا ومع إجماع المسلمين عليه  ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه ولا يعترض على هذا بقول إبراهيم عليه السلام : (قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (البقرة : 260 ).إذ لم يشك إبراهيم في إخبار الله تعالى له بإحياء الموتى ولكن أراد طمأنينة القلب وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء  فحصل له العلم الأول بوقوعه وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته.وهذا وجه أول.

 الوجه الثاني أن إبراهيم عليه السلام إنما أراد اختبار منزلته عند رله وعلم إجابته دعوته بسؤال ذلك من ربه ويكون قوله تعالى :( أَوَلَمْ تُؤْمِن) (البقرة : 260 ) أي تصدق بمنزلتك مني وخُلتك واصطفائك ...

الوجه الثالث أنه سأل زيادة اليقين وقوة طمأنينة وإن لم يكن في الأول شك إذ العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل في قوتها وطريان الشكوك على الضروريات ممتنع ومُجوَّز في النظريات فأراد الإنتقال من النظر أو الخبر إلى المشاهدة  والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين ،فليس الخبر كالمعاينة ولهذا قال سهل بن عبد الله : سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكناً في حاله.

الوجه الرابع أنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيي ويميت طلب ذلك من ربه ليصح احتجاجه عياناً.

الوجه الخامس قول بعضهم هو سؤال على طريق الأدب ،والمراد : أقدرني على إحياء الموتى .، وقوله (لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) عن هذه الأمنية.

الوجه السادس أنه رأى من نفسه الشك وما شك ليجاوب فيزداد قربه ، وقول نبينا r: نحن أحق بالشك من إ إبراهيم  نفي لأن يكون إبراهيم شك وإبعاد للخواطر الضعيفة أن تظن هذا بإبراهيم ، أي نحن موقنون بالبعث وإحياء الله الموتى ، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه إما على طريق الأدب أو يريد أمته الذين يجوز عليهم الشك أو على طريق التواضع والإشفاق أن حملت قصة إبراهيم على اختبار حاله أو زيادة يقينه.

فإن قلت ما معنى قوله تعالى : (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ  * َولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)  (يونس 94+95 ) ؟ فاحذر ـ ثبت الله قلبك ـ أن يخطر ببالك ما ذكره فيه بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره  من إثبات شك  للنبي فيما أُحي إليه وأنه من البشر ،فمثل هذا لا يجوز عليه جملة بل قد قال ابن عباس : لم يشك النبي rولم يسأل ، ونحوه عن ابن جبير ، والحسن . وحكى قتادة أن النبي   rقال : ما أشك ولا أسأل ... وعامة المفسرين على هذا واختلفوا في معنى الآية ،فقيل المراد : قل يا محمد للشاكّ :(فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) (يونس 94)  قالوا وفي السورة نفسها  ما دل على هذا التأويل ، قوله تعالى : ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس : 104 ) ...وقيل المراد بالخطاب العرب وغير النبيr كما قال تعالى :( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)   (الزمر : 65 ) الخطاب له والمراد غيره ، ومثله قوله تعالى :( فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ) (هود : 109 ) ونظيره كثير .قال بكر بن العلاء ألا تراه بقول : (وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (يونس : 95 ) ، وهوr  كان المكذَّب فيما يدعو إليه، فكيف يكون ممن كذَّب به ؟ فهذا كله يدل على أن المراد بالخطاب غيره . ومثل هذه الآية قوله تعالى :(الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً )(الفرقان59 )، المأمور ها هنا غير النبيr ليسأل النبي rهو الخبير المسؤول لا المستخبر السائل ،وقال أن هذا الشك الذي أمر به غير النبي بسؤال الذين يقرؤون الكتاب ،إنما هو فيما قصه الله من أخبار الأمم لا فيما دعا إليه من التوحيد والشريعة ومثل هذا قوله تعالى : (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف : 45 ) المراد به المشركون والخطاب مواجهة للنبيr ،قاله القتيبي...وقيل معناه :سلْنا عمن أرسلنا من قبلك فحُذف الخافظ وتم الكلام ثم ابتدأ (أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) على طريق الإنكار ،أي ما جعلنا ..حكاه مكي .وقيل أُمر النبي  rأن يسأل الأنبياء ليلة الإسراء عن ذلك فكان أشد يقيناً من أن يحتاج إلى السؤال .فرُويَ أنه قال : لا أسأل قد اكتفيت  ...قاله ابن زيد. وقيل : سلْ أممَ من أرسلنا هل جاؤوهم بغير التوحيد؟ وهومعنى قول مجاهد، والسدي ،والضحاك، وقتادة .. والمراد بهذا والذي قبله إعلامه  rبما بُعَِت به الرسل وأنه تعالى لم يأذن في عبادة غيره لأحد رداً على مشركي العرب وغيرهم في قولهم :  (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى  ) (الزمر : 3 ) ،وكذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام : 114 ) ،أي في علمهم بأنك رسول الله وإن لم يقروا بذلك وليس المراد به شكه فيما ذُكر في أول الآية ، وقد يكون أيضاً عللى مثل ما تقدم ،أي قل يا محمد لمن امترى في ذلك : لاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ...بدليل قوله أول الآية :  (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ) (الأنعام : 114 ) وأن النبي r يخاطب بذلك غيره ،وقيل هو تقرير كقوله تعالى:(  أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ  ) (المائدة : 116 ) ،وقد علم أنه لم يقلْ ، وقيل معناه ما كنتَ في شك فاسأل تزددْ طمأنينة وعلماً إلى علمك ويقينك ،وقيل إن كنتَ تشك فيما شرفناك وفضلناك به فاسألهم عن صفتك في الكتب ،ونشر فضائلك...وحكي عن أبي عبيدة أن المراد : إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا .. فإن قيل فما معنى قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف : 110 )  على قراءة التخفيف ؟ قلنا المعنى في ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها : معاذ الله أن تظن ذلك الرسل بربها وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم  وعلى هذا أكثر المفسرين : وقبل أن ضمير =ظنوا= عائد على الأنبياء والرسل وهو قول ابن عباس ،والنخعي ، وابن جبير ،وجماعة من العلماء وبهذا المعنى قرأ مجاهد =كذبوا = بالفتح فلا تشعل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء فكيف الانبياء ،وكذلك ما ورد في حديث السيرة ومبدإ الوحي من قوله  r لخديجة : لقد خشيت على نفسي ... ليس معناه الشك فيما أتاه الله بعد رؤية الملَك، ولكن لعله خشي أن لا تحتمل قوته مقاومة الملَك وأعباء الوحي  فينخلع قلبه أو تزهق نفسه ..هذا على ما ورد في الصحيح أنه قاله بعد لقائه الملك أو يكون ذلك قبل لقائه وإعلام الله تعالى لهr بالنبوة لأول ما عرضت عليه من العجائب وسلم عليه الحجر والشجر وبدأته المنامت والتباشير كما رُوي في بعض طرق هذا الحديث أن ذلك كان أولاًَ في المنام ثم أُري في اليقظة مثل ذلك تأنيساً له لئلا يفجأه الأمر مشاهدة ومشافهة فلا يحتمله لأول حالة بنية البشرية .

وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : أول ما بدىء به رسول الله r من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: (ما أنا بقارىء). قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * ) ( العلق 1-5)... فرجع بها رسول الله r يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: (زملوني ...زملوني). فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي). فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله
r خبر ما رأى، فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله r : (أومخرجي هم). قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي...

وعن ابن عباس رضي الله عنهما مكث النبي r بمكة خمس عشرة ينة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئاً وثمان سنين يوحى إليه  ...وقد روى ابن إسحاق عن بعضهم أن النبيr  ذكر جواره بعار حراء قال : فجاءني وأنا نائم فقال :أقراْ . فقلت : ما أقرأ ؟ ...وذكر نحو حديث عائشة في غطِّه له وإقرائه له  :( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)..قال : فانصرف عني وهببْت من نومي كأنما صُوِّرَت في قلبي ولم يكن أبغض إلي من شاعر أو مجنون ..قلت :لا تَحَدَّثُ عني قريش بهذا أبداً لأعْمدنَّ إلى حالق من الجبل فلأطرَحنَّ نفسي منه فلأقتلنَّها ،فبينا أنا عامد لذلك إذ سمعت مناديا ينادي من السماء : يا محمد ،أنت رسول الله وأنا جبريل ، فرفعت رأسي فإذا جبريل على صورة رجل.ـ وذكر الحديث...فقد بيَّنr في هذا أن قوله لما قال وقصده لما قصد إنما كان قبل لقاء جبريل عليه السلام . وقبل إعلام الله تعالى لهr بالنبوة وإظهاره واصطفائه له بالرسالة .

ومثله حديث عمرو بن شرحبيل أنه r قال لخديجة رضي الله عنها : إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد خشيت والله أن يكون هذا لأمر ..ومن رواية حماد بن سلمة  أن النبيr   قال لخديجة :إني لأسمع صوتاً وأرى ضوءً وأخشى أن يكون بي جنون... وعلى هذا يُتأوَّل لو صح قوله في بعض هذه الأحاديث إن الأبعد شاعر أو مجنون وألفاظاً يُقهم منها معاني الشك في تصحيح ما رآه وأنه كان كله في ابتدلء أمره وقبل لقاء الملَك له وإعلام الله له أنه رسوله :فكيف وبعض هذه الألفاظ لا تصح طرقها ؟ وأما بعد إعلام الله تعالى لهr  ولقائه الملَك فلا يصح فيه ريب ولا يجوز فيه شك فيما ألقى إليه ..وقد روى ابن إسحاق عن شيوخه أن رسول الله r كان يرقى بمكة من العين قبل أن ينزل عليه ، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه ،فقالت له خديجة : أوجِّه لك من يرقيك..قال : أما الآن فلا . ، وحديث خديجة واختبارها  أمر جبريل بكشف رأسها ، إنما ذلك في حق خديجة لتتحقق صحة نبوة رسول الله r  وأن الذي يأتيه ملَك ويزول الشك عنها لأنها فعلت ذلك للنبيr  وليختبر هو حاله بذلك ، بل قد ورد في حديث عبد الله بن محمد بن يحيىبن عروة عن هشام عن أبيه عن عائشة  أن ورقة أمر خديجة أن تخبُر الأمر بذلك ، وفي حديث إسماعيل بن أبي حكيم أنها قالت لرسول اللهr  : يا ابن عم ،هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك ؟  قال : نعم .فلما جاء جبريل أخبرها ،فقالت له : اجلِس إلى شقِّي ... وذكر الحديث إلى آخره وفيه ، فقالت : ما هذا بشيطان ،هذا الملَك يا ابن عم ، فاثبُتْ وأبشِر..وآمنت به . فهذا يدل على أنها مسثـتبِتة بما فعلته لنفسها ومستظهرة لإيمانها لا للنبي r..وقول معمر في فترة الوحي : حزن النبيr   فيما بلغنا حزناًَ غدا منه مراراً كي يتردى من شواهق الجبال ،لا يقدح في هذا الأصل لقول معمر عنه  فيما بلغنا ولم يُسنده ولا ذكر رواته ولا من حدث به ولا أن النبي r  قاله ولا يُعرف مثل هذا إلا من جهة النبي r مع أنه قد يُحمل على أنه كان أول ألامر كما ذكرناه أو أنه فعل ذلك لما أخرجه من تكذيب من بلغه كما قال تعالى:(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(الكهف  6 ويصحح معنى هذا التأويل حديث رواه شريك عن عبد الله بن محمد  بن عقيل عن جابر بن عبد الله أن المشركين لما اجتمعوا بدار التدوة للتشاور في شأن النبي r واتفق رأيهم على أن يقولوا إنه ساحر اشتد ذلك عليه وتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل فقال : (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (المزّمِّل : 1 ) و (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (المدّثر : 1 ) أو خاف أن الفترة لأمرٍ أو سببٍ منهr فخشي أن تكون عقوبة من ربه ففعل ذلك بنفسه ولم يرِد بعدُ شرع بالنهي عن ذلك فيعترض به ونحو هذا فرار يونس عليه السلام خشيةَ تكذيب قومه له لما وعدهم به من العذلب وقول الله تعالى في يونس : (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : 87 ) معناه أن لن نُضيِّق عليه ،قال مكي طمع في رحمة الله وأن لا يضيق عليه مسلكه في خروجه ، وقبل حسن ظنَّه بمولاه أنه لا يقضي عليه العقوبة :وقيل نقدر عليه ما أصابه ، وقد قُريء ،ُقَدِّرُ عليه بالتشديد ،وقبل نؤاخذه بغضبه وذهابه ، وقال ابن زيدون معناه أفظن أن لن نقدر عليه ؟ على الإستفهام ولا يليق أن يُظن بنبي أن يجهل صفة من صفات ربه ،وكذلك قوله تعالى : (ِإذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً ) نالصحيح مغاضبا لقومه لكفرهم وهو قول ابن عباس ،والضحاك وغيرهما :لا  لربه عز وجل .إذ مغاضبة الله معاداة له ،ومعاداة الله كفر لا يليق بالمؤمنين فكيف بالأتبياء ؟ وقيل مستحيِياً  من قومه أن يَسِموه بالكذب أو يقنلوه كما ورد في الخبر .وقيل مغاضباََ لبعض الملوك فيما أمرهم به من التوجُّه إلى أمرٍ أمَرَهم اللهُ به على لسان نبي آخر فقال له يونس : غيري أقولى عليه مني فعزم عليه فخرج لذلك مغاضباََ ..وقد رُوي عن ابن عباس أن إرسال يونس ونبوته إنما كان بعد أن نبذه الحوت واستدل من الآية بقوله تعالى :(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ  )( الصافات 145-147 ) ويستدل بقوله تعالى:(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )(القلم  48 ) .وذكر القصة ثم قال : (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )( القلم 50 ) . فتكون هذه القصة إذاً قبل نبوَّته ،فإن قيل فما معنى قوله r: إنه ليُغان على قلبي فأستغفر الله كل يوم مائة مرة . وفي طريق آخر : في اليوم أكثر من سبعين مرة .؟ فاحذر أن يقع ببالك أن يكون هذا الغين وسوسة أو ريباَ وقع في قلبه r ،بل أصل الغين في هذا ما يتغشى القلب أو يغطيه، قاله أبو عبيد ،وأصله من غيت السماء  وهو إطباق الغيم عليها  ..وقال غيره : الغين شيء يغشي القلب  ولا يغطيه كل التغطية كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء فلا يمنع ضوء الشمس ،وكذلك لا يُفهم من  الحديث أنه يُغان على قلبه مائة مرة أو أكثر من سبعين في اليوم إذ ليس يقتضيه لفظه الذي ذكرناه.وهو اكثر الروايات وإنما هذا عدد للإستعفار لا للغين فيكون المراد بهذا الغين إشارة غلافات قلبه وفترات نفسهr وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان دفع إليه من مقاساة البشر في سياسة الأمة ومعاناة الأهل  ومقاومة الولي والعدو ومصلحة التفس ،وكلفه من أعباء أداء الرسالة وحمل الأمانة وهوr  في كل هذا في طاعة ربه وعبادة خالقه : ولكن لما كان أرفع الخلق عند الله مكانة وأعلاهم درجة وأتمهم به معرفة  وكانت حاله عند خلوص قلبه وخلو همه وتفرده بربه وإقباله بكليته عليه ومقامه هنالك أرفع حاليه رأى r  حال فترته عنها وشغله  بسواها  غضاًمن عليِّ حاله وخفظاً من رفيع مقامه فاستغفر الله من ذلك :هذا أولى وجوه الحديث وأشهرها وإلى معنى ما أشرنا به مال كثير من الناس وحام حوله فقارب ولم يرد وقد قررنا غامض معناه وكشفنا للمستفيد مُحيَّاه  وهومبني على جواز الفترات والغفلات والسهو في غير طريق البلاغ على ما سيأتي ..وذهبت طائفة من أرباب القلوب ومشيخة المتصوفة ممن قال  بتنْزيه النبيr  عن هذا جملة وأجله أن يُجوِّز عليه في حال سهو أو فترة إلى  أن معنى الحديث ما يهم خاطره ويغم فكره من أمر أمتهr لإهتمامه بهم وكثرة شفقته عليهم فيستغفر لهم .. قالوا وقد يكون الغين هنا على قلبه السكينة تتغشاه لقوله تعالى : (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ  عَلَيْهِ) (التوبة : 40 ) ويكون استغفاره  عندها إظهاراََ للعبودية والإفتقار..قال ابن عطاء : اسنغفاره وفعله هذا تعريف للأمة يحملهم على الإستغفار..وقال غيره : ويستشعرون الحذر ولا يركنون إلى الأمن ..وقد يحتمل أن تكون هذه الإعانة حالة خشية وإعظام تغشى قلبه فيستغفر حينئذ شكراً لله وملازمة لعبوديته  كما قال في ملازمة العبادة : أفلا أكون عبداً شكوراً..وعلى هذه الوجوه يحمل ما رُوي في بعض طُرق هذا الحديث عنه r   أنه ليُغان على قلبي في اليوم أكثر من سبعين مرة فأستغفر الله ...فإن قلت فما معنى قوله تعالى  لمحمدr   : (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (الأنعام : 35 ) وقوله لنوح عليه السلام :( (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود : 46 ) .؟ فاعلم أنه لا يُلتفت في ذلك إلى قول من قال في آية نبينا r لا يكوننَّ ممن يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى، وفي آية نوح لا تكوننَّ ممن يجهل أن وعد الله حق .لقوله: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود : 45 ) إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله وذلك لا يجوز عللى الأنبياء والمقصود وعظهم أن لا يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين كما قال : (إِنِّي أَعِظُكَ) وليس في آية منها دليل على كونه على تلك الصفة ،نهاهم عن الكون عليها فكيف وآية نوح قبلها (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ) فحمل ما بعدها على ما قبلها أوْلى لإن مثل هذا قد يحتاج إلى إذن وقد تجوز إباحة السؤال فيه ابتداءً فنهاه الله أن يسأله عما طوى عنه علمَه وأكنَّه من غيبه من السبب الموجب لهلاك ابنه ثم أكمل الله تعالى نعمته عليه بإعلامه ذلك بقوله تعالى :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (هود : 46 ) ...حكى معناه مكي . كذلك أمر نبيناr في الآية الأخرى بالتزام الصبر على إعراض قومه ولا يحرج عند ذلك ،فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر .حكاه أبو بكر بن فورك..وقيل معنى الخطاب لأمة محمدr،أي فلا تكونوا من الجاهلين .حكاه أبو محمد مكي وقال مثله في القرآن كثير .فبهذا الفضل وجب القولُ بعصمة الأنبياء  منه بعد النبوة قطعاً ... فإن قلت : فإذا قررتَ عصمتهم من هذا وأنه لا يجوز عليهم شيء من ذلك : فما معنى إذاً وعيد الله لنبيناr  على ذلك إن فعله وتحذيره منه كقوله تعالى : (  وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 65 )) (الزمر : 65 ).. وقوله تعالى : (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ) (يونس : 106 ) وقوله تعالى: (إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) (الإسراء : 75 )..   (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (الحاقة : 45 )... وقوله تعالى:( وإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (الأنعام : 116 ) .. وقوله تعالى:( فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ  ) (الشورى : 24 ) .. وقوله تعالى:( (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة : 67 ) .. وقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الأحزاب : 1 )

فاعلم  ـ وفقنا الله وإياك  ـ أنه لا يصح ولا يجوز عليه أن لا يبلغ ،ولا أن يخالف أمر ربه ،ولا أن يشرك به... ولا يتقول على الله ما لا يجب أو يفتري عليه،أو يضل ،أو يُختَم على قلبه ،أو يطيع الكافرين ...لكن يسَّر أمرَه بالمكاشفة والبيان في البلاغ للمخالفين وأن إبلاغه إن لم يكن بهذه السبيل فكأنه ما بلغ و طيب نفسه وقوى قلبه بقوله تعالى :( َاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )(المائدة : 67 ).كما قال تعالى لموسى وهارون : (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه : 46 ).لتشتدَّ بصائرهم في الإبلاغ وإظهار دين الله  ويُذهب عنهم خوف العدو المضعف للنفس.

وأما قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ *) ( الحاقّة44-47)... وقوله تعالى: إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) (الإسراء  75 )..فمعناه أن هذا جزاء من فعل هذا وجزاؤك لو كنت ممن يفعله ،وهو لا يفعله ..,وكذلك قوله تعالى :( وإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (الأنعام : 116 ) ..فالمراد غيره كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) (آل عمران : 149 ).. وقوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  (الشورى : 24 ) وقوله تعالى: (  وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 65 )) (الزمر : 65 )..وما أشبهه فالمراد غيره وأن هذه حال من أشرك ، والنبي لا يجوز عليه هذا .. وقوله تعالى: :(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الأحزاب : 1 ) فليس فيه أنه أطاعهم ، والله ينهاه عما يشاء ويأمره بما يشاء كما قال تعالى : (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام : 52 ) وما كان طردهم  ولا كان من الظالمين.

الفصل الثاني

في عصمة الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة

وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللنلس فيه خلاف. والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل  بالله وصفاته والتشكك بشيء من ذلك وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن ا|لأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ وُلدوا ،ونشأتهم على التوحيد والإيمان  بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة كما نبَّهنا عليه في الباب الثاني من القسم الأول  من كتابنا هذا ،ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحداََ نُبِّيءَ واصطُفِيَ ممن عُرِف  بكفر وإشراك قبل ذلك ...ومستند هذا الباب النقل وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله ، وأنا أقول :إن قريشاً قد رمت نبيناr  بكل ما افترته ، وعيَّر كفار الأمم أنبياءهم بكل ما أمكنها واختلقته مما نص الله تعالى عليه أو نقلته إلينا الرواة ولم نجد في شيء من ذلك تعييراًَ لواحد منهم  برفضه آلهته و تقريعه بذمِّه بترك ما كان قد جامعهم عليه ،ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين وبتلوُّنه في معبوده مُحتجّين ولكان توبيخهم له بنَهْيِهم عما كان يعبُد قبلُ أفظع وأقطع قي الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل ...ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلاً إليه إذ لو كان لنُقِل وما سكتوا عنه   كما لم يسكتوا عند تحويل القبلة وقالوا  ( َما وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ) (البقرة : 142 ) كما حكاه الله عنهم  ...وقد استدل القاضي القشيري على تنزيه الأنبياء بقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) (الأحزاب : 7 )..وبقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ) (آل عمران  81 ) ...فال : وطهره الله في الميثاقوبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه ثم يأخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب،،هذا ما لا يُجوِّزه إلا ملحد ،هذا معنى كلمه.وكيف يكون ذلك وقد أتله جبريل علسه السلام وشقَّ قلبه صغيرا واستخرج منه علقة وقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله وملأه حكمةً وإيماناً  كما تظاهرت به أخبار المبدإ ..ول يُشَبَّه عليك بقول عليه السلام في الكوكب والقمر والشمس : (هَـذَا رَبِّي  ) (الأنعام : 76 ). فإنه قد قيل كان هذا في سن الطفولية والإستدلالوقبل لزوم التكليف ، وذهب معظم الحداق من العلماء والمفسرين  إلى أنه إنما قال ذلك مبكِّتاً لقومه ومستدِلّاً عليهم  وقيل معناه الإستفهام الوارد مورد الإنكار.والمراد فهذا ربي ...قال الزجاج : قوله (هذا ربي) ،أي على قولكم كما قال :(أَيْنَ شُرَكَاءِيَ)(القصص 74) أي عندكم ويدل على أنه لم يعبد شيئاً من ذلك ولا أشرك قط بالله طرفة عين.قول الله عز وجل عنه :(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ)(الشعراء : 70 ) ثم قال :( قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * ) (الشعراء 75-77) وقال: (إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات : 84 ) أي من الشرك، وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم : 35 ) ..فإن قلت فما معنى قوله :( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام : 77) قيل أنه إن لم يؤيدْني بمعونته أكن مثلكم في ضلالتكم وعبادتكم على معنى الإشفاق والحذر وإلا فهو معصوم في الأزل من الضلال ،فإن قلت فما معنى قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (إبراهيم : 13 ) ؟ ثم قال بعد عن الرسل : (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا ) (الأعراف : 89 ) فلا يشكل عليك لفظة العود وأنها تقتضي أنهم إنما يعودون إلى ما كانوا فيه من ملتهم ،فقد تأتي هذه اللفظة في كلام العرب لغير ما ليس له ابتداء بمعنى الصيرورة كما جاء في حديث الجهنَّميين : عادوا حمماً ولم يكونوا قبل كذلك .. ومثله قول الشاعر :  

           تلك المكارم لا قعبان من لبن           شيبا بماء فعاد بعد أبوالا

وماكان قبل كذلك.. فإن قلت فما معنى قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى )(الضحى 7) ؟ فليس هو من الضلال الذي هو الكفر،قيل ضالا عن النبوة قهداك إليها ،فاله الطبري :وقيل وجدك بين أهل الضلال فعصمك من ذلك وهداك بالإيمان وإلى إرشادهم ونحوه ..عن السدي  وغير واحد ،وقيل ضالا عن شريعتك أي لا تعرفها فهداك إليها والضلال ها هنا التحيُّر ولهذا كانr  يخلو بغار حرا ء  في طلب ما يتوجه به إلى ربه ويتسرع به حتى هداه الله إلى الإسلام قال معناه  القشيري ،وقيل لا تعرف الحق فهداك إليه ، وهذا مثل قوله تعالى:( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء : 113 ) قاله علي بن عيسى ، قال ابن عباس : لم تكن له ضلالة معصية ،وقيل هدى أي بين امرك بالبراهين ،وقيل  (وَوَجَدَكَ ضَالّا )(الضحى 7) بين مكة والمدينة فهداك إلى المدينة ،وقيل المعنى وجدك فهدى بك ضالاًّ... وعن جعفر بن محمد  (وَوَجَدَكَ ضَالّا ) عن محبتي لك في الأزل أي لا نعرفها فمننت عليك بمعرفتي ، وقرأ الحسن بن علي : (وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى )(الضحى 7) أي اهتُديَ بك ، وقال ابن عطاء : (وَوَجَدَكَ ضَالّا ) أي محباً لمعرفتي وضال المحب كما قال : (  إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ) (يوسف : 95 ) أي محبتك القديمة ولم يريدوا ها هنا في الدين إذ لو قالوا ذلك في نبي الله كفروا  :ومثله عند هذا قوله :( إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (يوسف : 30 ) أي محبة بينة ، وقال الجنيد : ووجدك متحيراً في بيان ما أنزل إليك فهداك لبيانه  لقوله تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ  ) (النحل : 44 ) ،وقيل ووجدك لم يعرفك أحد بالنبوة حتى أظهرك فهدى بك السعداء ولا أعلم أحداً قال من المفسرين فيها ضالاًّ عن إلإيمان ، وكذلك في قصة موسى عليه السلام قوله : (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (الشعراء : 20 ) أي من المخطئين الفاعلين شيئا بغير قصد ..قاله ابن عرفة ، وقال الأزهري : معناه من الناسين ، وقد قيل ذلك في قوله تعالى:(وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى )(الضحى 7)أي ناسياً كما قال  تعالى: (أنْ تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا ) (البقرة  282 )..فإن قلت فما معنى قوله تعالى : (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ )  (الشورى : 52 ) ؟ فالجواب :أن السمرقندي فال : معناه ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان ، وقال ابو بكر القاضي نحوه ؛ قال ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام ، قال : وكان قبل مؤمناً  بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل فزاد بالتكليف إيمانا وهو أحسن وجوهه ؛ فإن قلت فما معنى قوله تعالى :( وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) ( يوسف 3 ) ؟ فاعلم أنه ليس بمعنى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) (يونس : 7 ) ،بل حكى أبو عبد الله الهروي أن معناه لمن الغافلين عن قصة يوسف إذ لم تعلمها إلا بوحينا وكذلك الحديث الذي يرويه عثمان بن أبي شيبة بسنده عن جابر رضي الله عنه إن النبيr قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه :اذهب ختى تقوم خلفه .فقال الاخر :كيف أقوم خلفه وعهده باستيلام الأصنام ؟ فلم يشهدهم بعد ،فهذا حديث أنكره أحمد بن حنبل جداً وقال : هو موضوع أو شبيه بالموضوع ، وقال الدارقطني : يقال إن عثمان وهِم في إسناده ، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يُلتفتُ إليه، والمعوف عن النبي r خلافه عند أهل العلم من قوله :بُغِّضَت إليَّ الأصنام  ؛ وقوله في الحديث الآخر الذي روته أم أيمن  حين كلَّمه عمُّه وآلُه في حضور بعض أعيادهم وعزموا عليه بعد كراهته لذلك فخرج معهم ورجع مرعوباً فقال: كلما دنوت منها من صنم تمثل لي شخص أبيض طويل يصيح بي : وراءك لا تمسه ! فما شهد بعد لهم عيداً؛ وقوله في قصة بحيرَا حين استحلف النبي r  باللآت والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي ورأى فيه علامات النبوة فاختبره بذلك فقال له النبيr : لا تسألني بهما فوالله ما أبعضت شيئا قط بغضهما ..فقال له بحيرَا : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ، فقال : سلْ عما بدا لك .وكذلك المعروف من سيرته وتوفيق الله له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج فكان يقف هو بعرفة لأنه كان موقف إبراهيم عليه السلام...

                            الفصل   الثالث

    في كون قلوب الأنبياء عليهم السلام احتوت على المعرفة والعلم بأمور الدين والدنيا...

قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : قد بان بما قدمنا عقود الأنبياء في التوحيد والإيمان  والوحي وعصمتهم في ذلك على ما بيناه ، فأما ما عدا هذا الباب من عقود قلوبهم فجماعها أنها مملوءة علماً ويقيناً على الجملة وأنها قد احتوت من المعرفة والعلم بأمور الدين والدنيا ما لا شيء فوقه ...ومن طالع الأخبار واعتنى بالحديث وتأمل ما قلناه وجده ،وقد قدمنا منه في حق نبيناr  في الباب الرابع أول قسم من هذا الكتاب  ما ينبِّه على ما وراءه إلا أن أحوالهم في هذه المعارف تختلف؛ فأما ما تعلق منها بأمور الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اتقادها على خلاف ما هي عليه ولا وَصْمَ عليهم فيه إذ هِمَمُهم متعلقة بالآخرة وأنبائها وأمور الشريعة وقوانينها ؛ وأمور الدنيا تضادها بخلاف غيرهم من أهل الدنيا الذين (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم : 7 ) كما سنبين هذا في الباب الثاني إن شاء الله ولكنه لايقال إنهم لا يعلمون شيئاً من أمور الدنيا فإن ذلك يؤدي إلى الغفلة والبله ،وهم المنزهون عن ذلك؛ بل قد أرسلوا إلى أهل الدنيا وقُلِّدوا سيايتهم وهدايتهم والنظر في مصالح دينهم ودنياهم ؛ وهذا لا يكون مع عدم العلم بأمور الدنيا بالكلية ، وأحوال الأنبياء وسيَرهم في هذا الباب معلومة ومعرفتهم بذلك كله مشهورة ؛وأما إن كان هذا العقد مما يتعلق بالدين فلا يصح من النبيr إلا العلم به ولا يجوز عليه جهله جملة لأنه لا يخلو أن يكون حصل عنده ذلك عن وحي من الله فهو ما لا يصح الشك منه فيه على ما قدمناه فكيف الجهل ؟..بل حصل له العلم اليقين أو يكون فعل  ذلك باجتهاده في ما لم ينزل عليه فيه شيء على القول بتجويز وقوع الإجتهاد منه في ذلك على قول المحققين وعلى مقتضى حديث أم سلمة الذي قال فيهr : إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء... خرجه التقاة ؛ وكقصة أسرى بدر والإذن للمتخلفين على رأي بعضهم فلا يكون أيضاً لا يعتقده مما يثمره اجتهاده إلا حقاً وصحيحاً؛ هذا هو الحق الذي لا يُلتفت إلى خلاف من خالف فيه ممن أجاز عليه الخطأ في الإجتهاد لا على القول بتصويب المجتهدين الذي هو الحق والصواب عندنا ، ولا على القول الآخر بأن الحق في طرف واحد لعصمة النبي r  من الخطإ في الإجتهاد في الشرعيات ولأن القول في تخطئة المجتهدين إنما هو بعد استقرار الشرع ونظر النبيr  واجتهاده إنما هو في ما لم ينزل عليه فيه شيء ولم يشرع له قبل ، هذا فيما  عقد عليه النبي قلبه ؛ فاما ما لم يعقد عليه قلبه من أمور النوازل الشرعية فقد كان لا يعلم منها أوّلاً إلا ما علمه الله شيئاً شيئاً  حتى استقر علم جملتها  عنده rإما بوحي من الله أو إذْنٍ أن يُشرِّع في ذلك ويحكُم بما أراه الله وقد كانr ينتظر الوحي في كثير منها ولكنه لم يمُت r حتى استفرغ علم جميعها عنده وتقررت معارفها لديه على التحقيق ورفع الشك والريب  وانتفاء الجهل ؛وبالجملة فلا يصح منه الجهل بشيء من تفاصيل الشرع الذي  أُمِر r بالدعوة إليه إذ لا تصح دعوته إلى ما لا يعلمه ؛ وأما ما يتعلق بعقده من ملكوت السماوات والأرض وخلق الله وتعيين أسمائه الحسنى وآياته الكبرى  وأمور الآخرة وأشراط الساعة وأحوال السعداء والأشقياء وعلم ما كان وما يكون مما لم يعلمه إى بوحي فعلى ما تقدم من أنه معصوم فيه لا يأخذه فيما أعلم منه شك ولا ريب بل هو فيه على غاية اليقين لكنه لا يشترط له العلم بجميع تفاصيل ذلك وإن كان عنده من علم ذلك ما ليس عند جميع البشر لقولهr : إني لا أعلم إلا ما علمني ربي  ...ولقولهr : ولا خطر على قلب بشر ...ولقوله تعالى : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة : 17 ) وقول موسى عليه السلام للخضر : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف : 66 ) ؛وقولهr : أسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم ...وقولهr : أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أوأنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدا من خلقك ،أو استأثرت به في علم الغيب عندك ...وقد قال الله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف : 76 )

قال زيد بن أسلم وغيره حتى ينتهي العلم إلى الله ؛وهذا ما لا خفاء به إذ معلوماته تعالى لا يحاط بها ولامنتهى لها ؛ هذا حكم عقد النبي r في التوحيد والشرع والمعارف والأمور الدينية...

                                          الفصل  الرابع

                            في عصمة النبي r  من الشيطان وكفايته منه ...

واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي r من الشيطان وكفايته منه لا في جسمه بأنواع الأذى ولا على خاطره بالوسواس ،وقد أخبرنا القاضي الحافظ أبو علي رحمه الله قال : حدثنا أبو الفضل بن ،  خيرون العدل ،حدثنا أبو بكر البرقاني وغيره ، حدثنا أبو الحسن الدارقطني ، حدثنا إسماعيل الصفار ، حدثنا عباس الترقفي ،حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان، عن منصور ،عن سالم بن أبي الجعد ،عن مسروق ،عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :قال رسول الله r : ما منكم من أحد إلا وُكِّلَ به قرينُه من الجن وقرينُه من الملائكة...قالوا وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي ولكن الله تعالى أعانني عليه فأسلم. .. زاد غيره عن منصور : فلا يأمرني إلا بخير .وعن عائشة بمعناه ،رُويَ فأسلمُ بضم الميم أي فأسلمُ أنا منه وصحح بعضهم هذه الرواية ورجحها . ورُوي فأسلمَ يعني أن القرين انتقل عن حال كفره إلى الإسلام فصار لا يأمر إلا بخير كالمـلَك ، وهو ظاهر الحديث ، ورواه بعضهم : فاستسلم ؛

*قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : فإذا كان هذا حكم شيطانه وقرينه المسلط على بني آدم ، فكيف بمن بعُد منه ولم يلزم صحبتَه ولا أُقدِر على الدنُوّ منه ؟ وقد جاءت الآثار بتصدي الشياطين له في غير موطن رغبة في إطفاء نوره وإماتة نفسه وإدخال شغل عليه إذ يئسوا من إغوائه فاتقلبوا خاسرين ،كتعرضه له في صلاته لفأخذه النبيr وأسره..

ففي الصحاح عنأبي هريرة رضي الله عنه أن النبيr قال  :إن الشيطان عرض لي ...قال عبد الرزاق : في صورة هر فشد عليَّ يقطع عليَّ الصلاة فأمكنني الله منه فذعته :ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا تنظرون إليه :فذكرت قول أخي سليمان: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (صـ : 35 ) فردَّه اللهُ خاسئاً...

وفي حديث أبي الدرداء عنه r: إن عدو الله إبليس جاءني بشهاب من نار ليجعله في وجهي ، والنبيr في الصلاة ،وذكر تعوُّذَه بالله منه ولعنَه له.... ثم أردت أخذه . وذكر نحوه وقال :لأصبح موثقاً يتلاعب به ولدان أهل المدينة ... وكذلك في حديثه في الإسراء : وطلبِ عفريتٍ له بشعلة نار فعلمه جبريل ما يتعوذ به منه .ذكر في الموطإ . ولما لم يقدر على أذاه بمباشرته تسبب بالتوسط إلى عداه كقضيته مع قريش في الإئتمار بقتل النبي r وتصوره في صورة الشيخ النجدي ؛ ومرة أخرى في غزوة يوم بدر في صورة سراقة بن مالك ؛وهو قول الله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال : 48 ) ؛ ومرة ينذر بشأنه عند بيعة العقبة .. وكل هذا فقد كفاه الله أمره وعصمه ضرَّه وشرَّه وقد قالr : إن عيسى عليه السلام كفي من لمسه فجاء ليطعن بيده في خاصرته حين وُلد فطعن في الحجاب.. وقالr ـ حين لد في مرضه وقيل له خشينا أن يكون بك ذات الجنب ـ إنها من الشيطان،ولم يكن الله ليسلطه عليَّ.. فإن قيل فما معنى قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأعراف : 200 ) ؟ فقد قال بعض المفسرين إنها راجعة إلى قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف : 199 ) ثم قال : (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ) أي يستخفَّك  غضب يحملك على ترك الإعراض عنهم فاستعذ بالله ، وقيل : النزغ هنا الفساد كما قال :( مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي  ) (يوسف : 100 ) ، وقيل :( يَنزَغَنَّكَ)  أي  يُغرينَّك ويُحرِّكنَّك ، والنزغ أدنى الوسوسة ، فأمره الله تعالى أنه متى تحرك عليه غصب على عدوِّه أو رام الشيطان من إغوائه به وخواطر أدنى وساوسه ما لم يجعل له سبيل إليه أن يستعيذ منه فيُكفى أمرَه ويكون سبب تمام عصمته إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له ولم يُجعل له قدرة عليه وقد قيل في هذه الآية غير هذا ؛ وكذلك لا يصحأن يتصور له الشيطان في صورة الملك ويُلَبِّس عليه لا في أول الرسالة ولا بعدها ،والإعتماد في ذلك دليل المعجزة ،بل لا يشك النبي r أن ما يأتيه من الله الملكُ ورسولُه حقيقة إما بعلم ضروري يخلُقه الله له أو ببرهان يُظهره لديه لتتمَّ  (  كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام : 115 ) ..فإن قيل فما معنى قةله تعالى :( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج : 52 )؟فاعلم أن للناس في معنى هذه الآية أقاويل  : منها السهل والوعر، والغث والسمين ،وأولى ما يقال فيها ما عليه الجمهور من المفسرين أن التمني هاهنا التلاوة وإلقاء الشيطان فيها إشغاله بخواطر وأذكار من أمور الدنيا لِلَّيـالي حتى يُدخِل عليه الوهم والنسيان فيما تلاه أو يُدخِل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله وينسخه ويكشف لبسه ويحكم آياته وسيأتي الكلام على هذه الآية بعد بأشبع من هذا إن شاء الله  ؛ وقد حكى السمرقندي إنكار قول من قال بتسلط الشيطان على مُلك سليمان  وغلبته عليه وأن مثل هذا لا يصح وقد ذكرنا قصة سليمان مبينة بعد هذا ومن قال إن الجسد الذي أُلقي على كرسيه هو الولد الذي وُلد له ، وقال أبو محمد مكي في قصة أيوب ،وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (صـ : 41 ) : إنه لا يجوز لأحد أن يتأول أن الشيطان هو الذي أمرضه وألقى الضر في بدنه ، ولا يكون ذلك إلا بفعل الله وأمره ليبتليه ويتيبه ...وقيل إن الذي أصابه الشيطان ما وسوس به إلى أهله ؛ فإن قلت : فما معنى قوله تعالى : (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ) (الكهف : 63 ) ، وقوله عن يوسف : (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ  ) (يوسف : 42 ) ، وقول نبينا r حين نام عن الصلاة يوم الوادي : إن هذا واد به شيطان ؛ وقول موسى عليه السلام في وكزته :( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) (القصص : 15 ) ، فاعلم أن هذا الكلام قد يرد في جميع هذا على مورد مستمر كلام العرب في وصفهم كل قبح من شخص أو فعل  بالشيطان أو فعله كما قال تعالى : (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) (الصافات : 65 ) ؛ وقالr  : إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه ،وليدرأه ما استطاع ، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان ..وأيضاً فإن قول يوشع لا يلزمنا الجواب عنه إذ لم يثبن له في ذلك الوقت نبوة مع موسى عليه السلام ، قال الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ) (الكهف : 60 ) والمروي أنه إنما نُيِّيءَ بعد موت موسى، وقيل قبيل موته وقول مو؛سى عليه السلام كان قبل نبوَّته بدليل القرآن... وقصةُ يوسف عليه السلام  قد ذُكر أنها كانت قبل نبوَّته ؛ وقد قال المفسرون في قوله تعالى :( فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف : 42 )) (يوسف : 42 ) قولين : أحدهما أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هوأحد صاحبي السجن وربه الملِك ؛ أي أنساه أت يذكر للملك شأن يوسف عليه السلام  وأيضاً فإن مثل هذا من فعل الشيطان ليس فيه تسلط على يوسف ويوشع بوساوسَ ونزغ وإنما هو بشغل خواطرهما بأمور أُخر وتذكيرهما من أُمورهما ما يُنسيهما ما نسيا؛ وأما قوله r :إن هذا واد به شيطان ؛ فليس فيه ذكر تسلطه عليه ولا وسوسته له بل إن كان بمقتضى ظاهره فقد بيَّن أمر ذلك الشيطان بقوله : إن الشيطان أتى بلالاً فلم يزل يهدؤُه، كما يُهَدَّأُ الصبيُّ، حتى نام...فاعلم أن تسلط الشيطان في ذلك الوادي إنما كان على بلال الوكَّل بكلاءة الفجر، هذا إن جعلنا قوله  r :إن هذا واد به شيطان...تنبيهاً على سبب النوم عن الصلاة .وأما إن جعلناه تنبيهاً على سبب الرحيل عن الوادي وعلة لترك الصلاة به وهو دليل مساق حديث زيد بن أسلم فى اعتراض به في هذا الباب لبيانه وارتفاع إشكاله .

الفصل  الخامس

في صدق أقوالهr

*وأما أقواله  rفقامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه ، وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به ، لا قصداً                             وعمداً ، ولا سهواً وغلطاً .أما تعمد الخلف في ذلك فمنتفٍ ، بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله فيما قال اتفاقا ، و بإطباق أهل الملة إجماعاً .
وأما وقوعه على جهة الغلط في ذلك فبهذه السبيل عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني ومن قال بقوله ،    ومن جهة الإجماع فقط ، وورود الشرع بانتقاء ذلك ، وعصمة النبي
r لا من مقتضى المعجزة نفسها عند القاضي أبي بكر الباقلاني ومن وافقه لاختلاف بينهم في مقتضى دليل المعجزة لا نطول بذكره ، فنخرج عن غرض الكتاب ، فلنعتمد على ما وقع عليه إجماع المسلمين أنه لا يجوز عليه خلف في القول في إبلاغ الشريعة ، والإعلام بما أخبر به عن ربه ، وما أوحاه إليه من وحيه ، لا على وجه العمد ، ولا على غير عمد ، ولا في حالي الرضا والسخط ، والصحة والمرض .

-وفي حديث عبد الله بن عمرو : قلت يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال :  نعم  . قلت : في الرضا والغضب ؟ قال :  نعم ، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا  .

*ولنزد ما أشرنا إليه من دليل المعجزة عليه بياناً ، فنقول :
إذا قامت المعجزة على صدقه ، وأنه لا يقول إلا حقا ، ولا يبلغ عن الله إلا صدقاً ، وأن المعجزة قائمة مقام قول الله له : صدقت فيما تذكره عني ، وهو يقول : إني رسول الله إليكم لأبلغكم ما أرسلت به إليكم ،     وأبين لكم ما نزل عليكم ، (
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * )(النجم 3- 4 )   و(  قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ ) (النساء : 170 ) و (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا  ) (الحشر : 7 )، فلا يصح أن يوجد منه في هذا الباب خبر بخلاف مخبره على أي وجه كان .
ولو جوزنا عليه الغلط والسهو لما تميز لنا من غيره ، ولا اختلط الحق بالباطل ، فالمعجزة مشتملة على تصديقه جملة واحدة من غير خصوص ، فتنزيه النبي
r عن ذلك كله واجب برهاناً وإجماعاً كما قاله أبو إسحاق .

الفصل السادس
 سؤالات لبعض الطاعنين

وقد توجهت هنا لبعض الطاعنين سؤالات ، منها :
-ما روي من أن النبي r لما قرأ والنجم ،وقال :(فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى *)   النجم 19-20)- قال : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتها لترتجى  و يروى : ترتضى . وفي رواية : إن شفاعتها لترتجي ، وإنها لمع الغرانيق العلا.
وفي أخرى : والغرانقة العلا ، تلك للشفاعة ترتجى
فلما ختم السورة سجد ، وسجد معه المسلمون والكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم.
وما وقع في بعض الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه ، وأن النبي r كان تمنى أن لو نزل عليه شيء يقارب بينه و بين قومه .
وفي رواية أخرى : ألا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه ، وذكر هذه القصة ، وأن جبريل عليه السلام جاء فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين قال له : ما جئتك بهاتين . فحزن لذلك النبي r فأنزل الله تعالى تسلية له :(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج : 52 )
وقوله : (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً  * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (الإسراء :   73 ، 74).
فاعلم ـ أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين :
أحدهما : في توهين أصله ، والثاني على تسليمه .
أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ،   وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب  المتلقفون من الصحف كل صحيح      وسقيم.
وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء  التفسير ، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه في الصلاة ، وآخر يقول : قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة ، وآخر يقول : قالها و قد أصابته سنة ، وآخر يقول : بل حدث نفسه فسها ، وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه ، وإن النبي صلى الله عليه و سلم لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، و آخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي r قرأها ، فلما بلغ النبي r ذلك قال : والله ما هكذا نزلت ـ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة .
ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ، ولا رفعها إلى صاحب ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ، والمرفوع فيه حديث شعبة : عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال فيما أحسب ـ الشك في الحديث ـ أن النبي r كان بمكة ... وذكر القصة.

-قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي r بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير ، وإنما يعرف عن الكلبي ، ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا .
و فيه من الضعف ما نبَّه عليه مع وقوع الشك فيه ، كما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ، ولا حقيقة معه .
وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشارإليه البراز : رحمه الله   
والذي منه في الصحيح أن النبي r قرأ : والنجم ـ وهو بمكة ، فسجد معه المسلمون والمشركون و الجن والإنس .
هذا توهينه من طريق النقل فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة ، وأجمعت الأمة على عصمته rو نزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله ، وهو كفر ، أو أن يتسور عليه الشيطان ، ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، و يعتقد النبي صلى الله عليه و سلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام ، وذلك كله ممتنع في حقه r، أو يقول ذلك النبي r من قيل نفسه عمداً ، وذلك كفر ، أو سهواً ، وهو معصوم من هذا كله .
وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته r من جريان الكفر على قلبه أو لسانه ، لا عمداً ولا سهواً ، أو أن يشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان ، أو يكون للشيطان عليه سبيل ، أو أن يتقول على الله ، لا عمداً ولا سهواً ، ما لم ينزل عليه ، وقد قال الله تعالى : وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ *  الحاقة   44 -47  )
وقال تعالى : (إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) (الإسراء : 75 )
ووجه ثان ، وهو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً ، وذلك أن هذا الكلام لو كان ـ كما روي لكان بعيد الالتئام ، لكونه متناقص الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف والنظم . ولما كان النبي  r    ولا من بحضرته من المسلمين ، وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك ، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل  فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه .
ووجه ثالث أنه علم من عادة المنافقين ، ومعاندي المشركين ، وضعفة القلوب ، والجهلة من المسلمين ـ نفورهم لأول وهلة ، وتخليط العدو على النبي  r  لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين ، والشماتة بهم الفينة بعد الفينة ، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل ، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة ، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة ، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة ، وكذلك ما روى في قصة القضية ، ولا فتنة أعظم من هذه البينة لو وجدت ، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت ، فما روى عن معاند فيها كلمة ، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة ، فدل على بطلها و اجتثاث أصلها       
ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين   
ووجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت : (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً  * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (الإسراء :  73 ، 74)
وهاتان الآيتان يردان الخبر الذي رووه ، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ، وأنه لولا ثبته لكاد يركن إليهم .
فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً ، فكيف كثيراً  وهم يروون أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والإفتراء بمدح آلهتهم و أنه قال  r  : افتريت على الله ، وقلت ما لم يقل ، و هذا ضد مفهوم الآية ، وهي تضعف الحديث لو صح ، فكيف ولا صحة له .
وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء : 113 )
وقد روي عن ابن عباس : كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون ، قال الله تعالى: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) (النور : 43 )، ولم يذهب . و (إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) (طه : 15 ) ، و لم يفعل .


-قال القشيري القاضي : ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ووعدوه الإيمان به إن فعل ، فما فعل ، ولا كان ليفعل .


-قال ابن الأنباري : ما قارب الرسول و لا ركن

 
وقد ذكرت في معنى هذه الآية تفاسير أخر ما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله يرد سفسافها ، فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته مما كاده به الكفار ، وراموا من فتنته ،  ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته r ، وهو مفهوم الآية .
وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح ، وقد أعاذنا الله من صحته ، ولكن على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ، منها الغث والسمين ، فمنها ما روى قتادة ومقاتل ـ أن النبي r أصابته سنة عند قراءته هذه السورة فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم .
وهذا لا يصح ، إذ لا يجوز على النبيr مثله في حالة من أحواله ، ولا يخلقه الله علىلسانه ، ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو .
وفي قول الكلبي : إن النبي r حدث نفسه ، فقال ذلك الشيطان على لسانه .
وفي رواية ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، قال : وسها ، فلما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان . وكل هذا لا يصح أن يقوله النبي r لا سهواً ولا قصداً ، ولا يتقوله الشيطان على لسانه .
وقيل : لعل النبيr قال في أثناء تلاوته على تقدير التقرير و لتوبيخ للكفار ، كقول إبراهيم عليه السلام : ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) (الأنعام : 76 ) على أحد التأويلات . وكقوله :( (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) (الأنبياء : 63 ) بعد السكت   وبيان الفصل بين الكلامين ، ثم رجع إلى تلاوته .وهذا  ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد ،    وأنه ليس من المتلوّ ، وهو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر .
ولا يعترض على هذا بما روي أنه كان في الصلاة ، فقد كان الكلام قبل فيها غير ممنوع .
والذي يظهر ويترجح في تأويله عنده وعند غيره من المحققين على تسليمه أن النبي r كما أمره ربه ـ يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته ، كما رواه الثقات عنه ، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكياً نغمة النبي r بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار  فظنوها من قول النبي r،  وأشاعوها ، ولم يقدح ذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله وتحققهم من حال النبي rفي ذم الأوثان وعيبها على ما عرف منه . وقد حكى موسى بن عقبة في مغازيه نحو هذا ، وقال : إن المسلمين لم يسمعوها ،  إنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين وقلوبهم ، ويكون ما روي من حزن النبي rلهذه الإشاعة والشبهة ، وسبب هذه الفتنة .
وقد قال الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج : 52 ) ، فمعنى تمنى : تلا ، قال الله تعالى : لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، أي تلاوة .
و قوله : (فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) ، أي يذهبه ، ويزيل اللبس به ، ويحكم آياته .
وقيل : معنى الآية هو ما يقع للنبي r من السهو إذا قرأ فينتبه لذلك ويرجع عنه .
وهذا نحو قول الكلبي في الآية : إنه حدث نفسه ، وقال : إذا تمنى ، أي حدث نفسه .
وفي رواية أبي بكر بن عبد الرحمن نحوه. وهذا السهو في القراءة إنما يصح فيما ليس طريقه تغيير المعاني ، وتبديل الألفاظ ، وزيادة ما ليس من القرآن ، بل السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة ، ولكنه لا يقر على هذا السهو ، بل ينبه عليه ، ويذكر به للحين على ما سنذكره في حكم ما يجوز عليه من السهو وما لا يجوز .
ومما يظهر في تأويله أيضاً أن مجاهداً روى هذه القصة : والغرانقة العلا ، فإن سلمنا القصة قلنا : لا يبعد أن هذا كان قرآناً ، والمراد بالغرانقة العلا ، وأن شفاعتهن لترتجى : الملائكة على هذه الرواية .
وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة ، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثان والملائكة بنات الله ، كما حكى عنهم ورد عليهم في هذه السورة بقوله (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى) (النجم : 21 )، فأنكر الله هذا من قولهم ، ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح ، فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ،   ولبس عليهم الشيطان ذلك ،  زيَّنه في قلوبهم وألقاه إليهم نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم آياته ،     ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للإلباس ، كما نسخ كثير من القرآن ورفعت تلاوته ، وكان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة ، وفي نسخه حكمة ، ليُضل به من يشاء ويهْدي من يشاء ، (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) (البقرة : 26 )) ، و  (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (الحج : 53 ) * (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الحج : 54
وقيل : إن النبي r لما قرأ هذه السورة ، وبلغ ذكر اللات  العزى ومناة الثالثة الأخرى خاف الكفار أن يأتي بشيء من ذمها فسبقوا إلى مدحها بتلك الكلمتين ليخلطوا في تلاوة النبي r ويشغبوا عليه على عادتهم وقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت : 26 )
ونسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه ، وأشاعوا ذلك وأذاعوه ، وأن النبي r  قاله ، فحزن لذلك من كذبهم وافترائهم عليه .فسلاه الله تعالى بقوله :      
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج : 52 )، وبين للناس الحق من ذلك من الباطل ، وحفظ القرآن  وأحكم آياته ، ودفع ما لبس به العدو ، كما ضمنه تعالى من قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر : 9 )

-ومن ذلك ما روي من قصة يونس عليه السلام ـ وأنه وعد قومه بالعذاب عن ربه ، فلما تابوا كشف عنهم العذاب ، فقال : لا أرجع كذاباً أبداً ، فذهب مغاضباً .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن ليس في خبر من الأخبار الواردة في هذا الكتاب أن يونس ـ عليه السلام ـ قال لهم : إن الله مهلككم ، وإنما فيه أنه دعا عليهم بالهلاك ، والدعاء ليس بخبر يطلب صدقة من كذبه ، لكنه قال لهم : إن العذاب مصبحكم وقت كذا ، فكان ذلك ، كما قال ، ثم رفع الله تعالى عنهم العذاب وتداركهم ، قال الله تعالى : ((فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس : 98 )

-وروي في الأخبار انهم رأوا دلائل العذاب و مخايله ، قاله ابن مسعود .
-وقال سعيد بن جبير : غشاهم العذاب كما يغشى الثواب القبر .
فإن قلت : فما معنى ما روي من أن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول
r، ثم ارتد مشركاً ، وصار إلى قريش فقال لهم : إني كنت أصرف محمداً حيث أريد ، كان يملى على = عزيزحكيم = فأقول أو = عليم حكيم= ؟ فيقول : نعم ، كل صواب .

-وفي حديث أخر : فيقول له النبي r: اكتب كذا فيقول : أكتب كذا ؟ فيقول : اكتب كيف شئت ويقول : اكتب عليماً حكيماً ، فيقول أكتب : سيمعاً بصيراً ، فيقول له : اكتب كيف شئت .

-وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه ـ أن نصرانياً كان يكتب للنبي r بعد ما أسلم ثم ارتد ، وكان يقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له .

فاعلم ـ ثبتنا الله وإياك على الحق ، ولا جعل للشيطان وتلبيسه الحق بالباطل إلينا سبيلاً ـ أن مثل هذه الحكاية أولاً لا توقِع في قلب مؤمن ريناً ، إذ هي حكاية عمن ارتد وكفر بالله ، ونحن لا نقبل خبر المسلم المتهم ، فكيف بكافر افترى هو ومثله على الله ورسله ما هو أعظم من هذا ! .
والعجب لسليم العقل يشغل بمثل  هذه الحكاية سره ، وقد صدرت من عدو كافر مبغض للدين ، مفتر على الله ورسوله ، ولم ترد عن أحد من المسلمين ، ولا ذكر أحد من الصحابة أنه شاهد ما قاله وافتراه على نبي الله
r، و((إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل : 105 ).
 وما وقع من ذكرها في حديث أنس رضي الله عنه وظاهر حكايتها ، فليس فيه ما يدل على أنه شاهدها ، ولعله حكى ما سمع .
وقد علل البزار حديثه ذلك ، وقال : رواه ثابت عنه ، ولم يتابع عليه ، ورواه حميد عن أنس ، قال :      وأظن إنما سمعه من ثابت .


*قال القاضي أبو الفضل ـ وفقه الله : ولهذا ، والله أعلم ، لم يخرج أهل الصحيح حديث ثابت ولا حميد . والصحيح حديث عبد العزيز بن رفيع عن أنس رضي الله عنه الذي خرجه أهل الصحة وذكرناه ، وليس فيه عن أنس قول شيء من ذلك من قبل نفسه إلا من حكايته عن المرتد النصراني  ، ولو كانت صحيحة لما كان فيها قدح ولا توهيم للنبي
r فيما أوحي إليه ، ولا جواز للنسيان والغلط عليه والتحريف فيما    بلغه ولا طعن في نظم القرآن ، وأنه من عند الله ، إذ ليس فيه لو صح ـ أكثر من أن الكاتب قال له : عليم حكيم ـ وكتبه ، فقال له النبي r : كذلك هو ، فسبقه لسانه أو قلمه لكلمة أو كلمتين مما نزل على الرسول قبل إظهار الرسول لها ، إذ كان ما تقدم مما أملاه الرسول يدل عليها ويقتضي وقوعها بقوة قدرة الكاتب على الكلام ومعرفته به ، وجودة حسه وفطنته ، كما يتفق ذلك للعارف إذا سمع البيت أن يسبق إلى قافيته ، أومبتدأ الكلام الحسن إلى ما يتم به ، ولا يتفق في جملة الكلام ، كما لا يتفق ذلك في آية ولا سورة .

وكذلك قوله r : كل صواب إن صح ، فقد يكون هذا فيما كان فيه من مقاطع الآي وجهان وقراءتان أنزلتا جميعاً على النبي r ، فأملى إحداها ، وتوصل الكاتب بفطنته ومعرفته بمقتضى الكلام إلى الأخرى ، فذكرها للنبي r كما قدمناه ، فصوبها له النبي r، ثم أحكم الله من ذلك ما أحكم ، ونسخ ما نسخ كما قد وجد ذلك في بعض مقاطع الآي ، مثل قوله تعالى : (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة : 118 ) و هذه قراءة الجمهور و قد قرأ جماعة : [  فإنك أنت الغفور الحكيم ] . وليست من المصحف .
وكذلك كلمات جاءت على وجهين في غير المقاطع ، قرأ بهما جميعاً الجمهور ،وثبتنا في المصحف ، مثل : َانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا) (البقرة  259 ) و( نَنْشُرُهَا) و(يقتضي الحق) و(يَقُصُّ الْحَقَّ) (الأنعام  57  
وكل هذا لا يوجب ريناً ، و لا ينسب للنبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ غلطة ولا وهماً .
وقد قيل : إن هذا يحتمل أن يكون فيما يكتبه عن النبي
r إلى الناس غير القرآن ، فيصف الله ويسميه في ذلك كيف يشاء .

الفصل  السابع
حاله   r   في أخبار الدنيا

هذا القول فيما طريقه البلاغ ، وأما ما ليس سبيله من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ، ولا أخبار المعاد ، ولا تضاف إلى وحي ، بل في أمور الدنيا وأحوال نفسه ـ فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي r أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره ، لا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً ، وأنه معصوم من ذلك في حال رضاه وفي سخطه ، وجده ومزحه، وصحته ومرضه .
ودليل ذلك اتفاق السلف وإجماعهم عليه ، وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله ، و الثقة بجميع أخباره في أي باب كانت ، وعن أي شيء وقعت ، وأنه لم يكن لهم توقف  ولا تردد في شيء منها ، ولا استثبات عن حاله عند ذلك ، هل وقع فيها سهو أم لا ؟
و لما  احتج ابن أبي الحقيق اليهودي على عمر حين أجلاهم من خيبر بإقرار رسول الله
 r، واحتج عليه عمر رضي الله عنه بقوله  r: كيف بك إذا أخرجت من خيبر ؟ فقال اليهودي : كانت هزيلة من أبي القاسم . فقال عمر : كذبت يا عدو الله .


وأيضاً فإن أخباره وآثاره وسيره وشمائله معتنى بها مستقصى تفاصيلها ، ولم يرد في شيء منها استدراكه
 rلغلط في قول قاله ، أو اعترافه بوهم في شيء أخبربه ، ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته  rفي رجوعه  rعما أشار به على الأنصار في تلقيح النخل ـ و كان ذلك رأياً لا خبرا ، وغير ذلك من الأمور التي ليست من هذا الباب ، كقوله  r: والله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي حلفت عليه وكفرت عن يميني .
وقوله
  r : إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض. وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه. فإنما أقطع له قطعة من النار. يأتي بها يوم القيامة ..   

وقوله  r : اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر ... كما سنبين كل ما في هذا من مشكل ما  في هذا الباب   والذي بعده إن شاء الله ، مع أشباهها .

-وأيضاً فإن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار بخلاف ما هو على أي وجه كان استريب بخيره ، واتُّهم في حديثه ، ولم يقع قوله في النفوس موقعاً ، ولهذا  ترك المحدثون والعلماء الحديث عمن عرف بالوهم والغفلة وسوء الحفظ ، وكثرة الغلط للمروءة ، مع ثقة .
وأيضاً فإن تعمد الكذب في أمور الدنيا معصية ، والإكثار منه كبيرة بإجماع ، مسقط للمروءة .
وكل هذا مما يُنَزَّه عنه منصب النبوة ، والمرة الواحدة منه فيا يستبشع ويستشنع ويشيع مما يخل بصاحبها ، ويزري بقائلها لا حقة بذلك .

-وأما فيما لا يقع هذا الموقع فإن عددناها من الصغائر فهل يجري على حكمها في الخلاف فيها ؟ مختلف فيه . والصواب تنزيه النبوة عن قليله وكثيره ، سهوه وعمده ، إذ عمدة النبوة البلاغ والإعلام والتبين ، وتصديق ما جاء به النبي r . وتجويز شيء من هذا قادح في ذلك ، ومشكك فيه ، مناقض للمعجزة ، فلنقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف في القول في وجه من الوجوه ، لا بقصد ولا بغير قصد ، ولا تتسامح مع من سامح في تجويز ذلك عليهم حال السهو مما ليس طريقه البلاغ ، نعم ، و بأنه لا يجوز عليهم الكذب قبل النبوة ، ولا الاتسام به في أمورهم وأحوال دنياهم ، لأن ذلك كان يزري ويريب ، وينفر القلوب عن تصديقهم بعد .

وانظر أحوال أهل عصر النبي r من قريش و غيرها من الأمم وسؤالهم عن حاله في صدق لسانه ، وما عرفوا به من ذلك واعترفوا به مما عرف ، واتفق النقل على عصمة نبينا r منه قبل وبعد ، وقد ذكرنا من الآثار فيه في الباب الثاني أول الكتاب ما يبين لك صحة ما أشرنا إليه .

الفصل الثامن
في حديث السهو

فإن قلت : فما معنى قوله r في حديث السهو الذي حدثنا به الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر حدثنا القاضي أبو الأصبغ بن سهل ، حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عبد الله بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا يحيى ، عن مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أنه قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : صلى رسول الله r صلاة العصر ، فسلم في ركعتين ، فقام ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي r : كل ذلك لم يكن .
وفي الرواية الآخرى : ما قصرت وما نسيت .. الحديث بقصته ، فأخبره بنفي الحالتين ، وأنها لم تكن ،  وقد كان أحد ذلك كما قال ذو اليدين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله ...
فاعلم ـ وفقنا لله وإياك ـ أن للعلماء في ذلك أجوبة ، بعضها بصدد الإنصاف ، ومنها ما هو بنية التعسف والاعتساف ، وها أنا أقول :
أما على القول بتجويز الوهم والغلط فيما ليس طريقه من القول البلاغ ، وهو الذي زيفناه من القولين ـ فلا اعتراض بهذا الحديث وشبهه .
وأما على مذهب من يمنع السهو في أفعاله جملة ، ويرى أنه في مثل هذا عامد لصورة النسيان ليسن ، فهو صادق في خبره ، لأنه لم ينس ولا قصرت ، ولكنه على هذا القول تعمد هذا الفعل في هذه الصورة لمن اعتراه مثله ، وهو قول مرغوب عنه ونذكره في موضعه
وأما على إحالة السهو عليه في الأقوال وتجويز السهو عليه فيما ليس طريقه القول ـ كما سنذكره ـ ففيه أجوبة ، منها :
أن النبي
r أخبر عن اعتقاده وضميره ، أما إنكار القصر فحق وصدق باطناً وظاهراً . وأما النسيان فأخبر r عن اعتقاده ، وأنه لم ينس في ظنه ، فكأنه قصد الخبر عن ظنه وإن لم ينطق به ، وهذا صدق أيضاً .
ووجه ثاني : أن قوله : ولم أنس ـ راجع إلى السلام ، أي إني سلمت قصداً ، وسهوت عن العدد ، أي لم أسه في نفس السلام ، وهذا محتمل ، وفيه بعد .
ووجه ثالث ـ وهو أبعدهما ـ ما ذهب إليه بعضهم ، وإن احتمله اللفظ من قوله : كل ذلك لم يكن : أي لم يجتمع القصر والنسيان ، بل كان أحدهما . ومفهوم اللفظ خلافه مع الرواية الأخرى الصحيحة ، وهو قوله
r: ما قصرت الصلاة و ما نسيت .
هذا ما رأيت فيه لأئمتنا ، وكل من هذه الوجوه محتمل للفظ على بعد بعضها وتعسف الآخر منها .

-قال القاضي أبو الفضل رحمه الله : و الذي أقول ـ ويظهر لي أنه أقرب من هذه الوجوه كلها ـ أن قوله r: لم أنس إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه ، وأنكره على غيره بقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا و كذا ، و لكنه نُسي .
وبقوله في بعض روايات الحديث الآخر : لست أنسى ، ولكن أنسى . فلما قال له السائل : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ أنكر قصرها كما كان ، ونسيانه هو من قبل نفسه ، وإنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره ، فتحقق أنه نسي ، وأجرى عليه ذلك  ليسن ، فقوله على هذا : لم أنس ولم تقتصر ،    و كل ذلك لم يكن ـ صدق وحق ، لم تقصر ، ولم ينس حقيقة ، ولكنه نسي .
ووجه آخر استثَرْتـُه من كلام بعض المشايخ ، وذلك أنه قال : إن النبي
r كان يسهو ولا ينسى ،       ولذلك نفى عن نفسه النسيان ، قال : لأن النسيان غفلة وآفة ، والسهو إنما هو شغل بال ، قال : فكان النبي r يسهو في صلاته ولا يغفل عنها ، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلاً بها لا غفلة عنها .
فهذا إن تحقق على هذا المعنى لم يكن في قوله : ما قصرت ولا نسيت خلف في قول .
 وعندي أن قوله : ما قصرت الصلاة وما نسيت بمعنى الترك الذي هو أحد وجهي النسيان ، أراد ـ و الله أعلم ـ أني لم أسلم من ركعتين تاركاً لإكمال الصلاة ، ولكني نسيت ، ولم يكن من تلقاء نفسي .
والدليل على ذلك قوله
r في الحديث الصحيح : إني لأَنسى أو أُنسى لأسن  .
وأما قصة كلمات إبراهيم المذكورة في الحديث أنها كذباته الثلاث المنصوصة في القرآن منها اثنتان : قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ) (الصافات : 89 )) . وقوله : ((قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) (الأنبياء :  62-63 ). وقوله للملِك عن زوجته : إنها أختي ـ فاعلم ـ أكرمك الله أن هذه كلها خارجة عن الكذب ، لا في القصد ولا في غيره ، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب .
أما قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ)   ـ فقال الحسن وغيره : معناه سأسقم ، أي إن كل مخلوق معرض لذلك ، فاعتذر لقومه من الخروج معهم إلى عيدهم بهذا .وقيل : بل سقيم بما قدر علي من الموت .
وقيل : سقيم القلب بما أشاهده من كفركم وعنادكم .
وقيل : بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم ، فلما رآه اعتذر بعادته .
وكل هذا ليس فيه كذب ، بل هو خبر صحيح صدق .
وقيل : بل عرض بسقم حجته عليهم ، وضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها ، وأنه أثناء نظره في ذلك ، وقبل استقامة حجته عليهم في حال سقم ومرض حال ، مع أنه لم يشك هو ولا ضعف إيمانه ، ولكنه ضعف في استدلاله عليهم وسقم نظره ، كما يقال : حجة سقيمة ، ونظر معلول ، حتى ألهمه الله باستدلاله وصحة حجته عليهم بالكواكب والشمس والقمر ـ ما نصه الله تعالى ، وقد قدمنا بيانه . وأما قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ)  ـ فإنه علق خبره بشرط نطقه ، كأنه قال : إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه . وهذا صدق أيضاً ، ولا خلف فيه .
وأما قوله : أختي ـ فقد بين في الحديث ، وقال : فإنك أختي في الإسلام ، وهو صدق ، والله تعالى يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  ) (الحجرات : 10 )
فإن قلت : فهذا النبي
r قد سماها كذبات ، وقال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وقال ـ في حديث الشفاعة : ويذكر كذباته فمعناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب وإن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات .
ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مؤاخذته بها .

-وأما الحديث : كان النبي r إذا أراد غزوة ورى بغيرها ـ فليس فيه خلف في القول ، إنما هو ستر مقصده ، لئلا يأخذ عدوه حذره ، وكتم وجه ذهابه بذكر السؤال عن موضع آخر والبحث عن أخباره       والتعريض بذكره ، لا أنه يقول : تجهزوا إلى غزوة كذا ، أو وجهتنا إلى موضع كذا خلاف مقصده ، فهذا لم يكن ، والأول ليس فيه خبر يدخله الخلف .
فإن قلت : فما معنى قول موسى عليه السلام ـ وقد سئل : أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا أعلم ، فعتب الله عليه ذلك ، إذ يرد العلم إليه ـ الحديث ، و فيه قال : بل عبدٌ لنا بمجمع البحرين أعلمُ منك .
وهذا خبر قد أنبأنا الله أنه ليس كذلك .
فاعلم أنه قد وقع في هذا الحديث من بعض طرقه الصحيحة ، عن ابن عباس : هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ .
فإذا كان جوابه على علمه فهو خبر حق وصدق لا خلف فيه ولا شبهة .
وعلى الطريق الآخر فمحمله على ظنه ومعتقده ، كما لو صرح به ، لأن حاله في النبوة والاصطفاء يقتضي ذلك ، فيكون إخباره بذلك أيضاً عن اعتقاده وحسب انه صدقاً لا خلف فيه .
وقد يريد بقوله : أنا أعلم بما تقتضيه وظائف النبوة من علوم التوحيد ، وأمور الشريعة ، وسياسة الأمة ، ويكون الخضر أعلم منه بأمور أخر مما لا يعلمه أحد إلا بإعلام الله من علوم غيبه ، كالقصص المذكورة في خبرهما ، فكان موسى عليه السلام أعلم على الجملة بما تقدم . وهذا أعلم على الخصوص بما أُعلِم .
ويدل عليه قوله تعالى : (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً) (الكهف : 65 ).
وعتب الله ذلك عليه ـ فيما قاله العلماء ـ إنكار هذا القول عليه ، لأنه لم يرد العلم إليه ، كما قالت الملائكة : (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا  ) (البقرة : 32)، أو لأنه لم يرض قوله شرعاً ، وذلك ـ والله أعلم ـ لئلا يقتدي به فيه من لم يبلغ كماله في تزكية نفسه وعلو درجته من أمته ، فيهلك لما تضمنه من مدح الإنسان نفسه ، ويورثه ذلك من الكبر والعجب والتعاطي والدعوى ، وإن نزه عن هذه الرذائل الأنبياء فغيرهم بمدرجة سبيلها ودرك ليلها إلا من عصمه الله ، فالتحفظ أولى لنفسه ، وليقتدى به ، ولذا قال
r  تحفظاً من مثل هذا مما قد أعلم به : أنا سيد ولد آدم ولا فخر .
وهذا الحديث إحدى حجج القائلين بنبوة الخضر ، لقوله فيه : أنا أعلم من موسى . ولا يكون الولي أعلم من النبي . وأما الأنبياء فيتفاضلون في المعارف .

وبقوله : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (الكهف : 82 )، فدل أنه بوحي . ومن قال : إنه ليس بنبي قال : يحتمل أن يكون فعله بأمر نبي آخر . وهذا يضعف ، لأنه ما علمنا أنه كان في زمن موسى نبي غيره إلا أخاه هارون ، وما نقل أحد من أهل الأخبار في ذلك شيئاً يعول عليه .
وإذا جعلنا = أعلم منك = ليس على العموم ، وإنما هو على الخصوص ، وفي قضايا معينة ـ لم يحتج إلى إثبات نبوة الخضر ، ولهذا قال بعض الشيوخ : كان موسى أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله ،       والخضر أعلم فيما رفع إليه من موسى .
وقال آخر : إنما أُلجيء موسى إلى الخضر للتأديب لا للتعليم .

الفصل التاسع
في عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات

وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال ، ولا يخرج من جملتها القول باللسان فيما عدا الخبر الذي وقع فيه الكلام والاعتماد بالقلب فيما عدا التوحيد ، وما قدمناه من معارفه المختصة به ـ فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات .ومستند الجمهور في ذلك الإجماع الذي ذكرناه .
وهو مذهب القاضي أبي بكر ، ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع ، وهو قول الكافة واختاره الأستاذ أبو اسحاق .
وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ ، لأن كل ذلك تقتضي العصمة منه المعجزة ، مع الإجماع على ذلك من الكافة .
والجمهور قائلون بأنهم معصومون من ذلك من قبل الله معتصمون باختيارهم وكسبهم إلا حسيناً النجار ، فإنه قال : لا قدرة لهم على المعاصي أصلاً .
وأما الصغائر فجوزها جماعة من السلف وغيرهم على الأنبياء ، وهو مذهب أبي جعفر الطبري وغيره من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين . وسنورد بعد هذا ما احتجوا به .
وذهب طائفة أخرى إلى الوقف ، وقالوا : العقل لا يحيل وقوعها منهم ، ولم يأت في الشرع قاطع بأحد الوجهين .
وذهبت طائفة أخرى من المحققيبن و المتكلمين إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر ، قالوا : لا ختلاف الناس في الصغائر وتعيينها من الكبائر وإشكال ذلك ، وقول ابن عباس وغيره : إن كل ما عصي الله به فهو كبيرة ، وأنه إنما سمي منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ، ومخالفة الباري في أمر كان يجب كونه كبيرة .
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال : إن في معاصي الله صغيرة إلا على معنى أنها تغتفر باجتناب الكبائر ، ولا يكون لها حكم مع ذلك بخلاف الكبائر إذا لم يتب منها فلا يحبطها شيء . والمشيئة في العفو عنها إلى الله تعالى ، وهو قول القاضي أبي بكر وجماعة أئمة الأشعرية وكثير من أئمة الفقهاء .
قال القاضي رحمه الله : وقال بعض أئمتنا : ولا يجب على القولين أن يختلف أنهم معصومون عن تكرار الصغائر وكثرتها ، إذ يلحقها ذلك بالكبائر ، ولا في صغيرة أدت إلى إزالة الحشمة ، وأسقطت المروءة ،  وأوجبت الازراء والخساسة ، فهذا أيضاً مما يعصم عنه الأنبياء إجماعاً ، لأن مثل هذا يحط منصبه المتسم به ، ويزري بصاحبه ، وينفر القلوب عنه ، والأنبياء منزهون عن ذلك بل يلحق بهذا ما كان من قبل المباح ، فأدى إلى مثله ، لخروجه بما أدى إليه عن اسم المباح إلى الحظر .
وقد ذهب بعضهم إلى عصمتهم من مواقعه المكروه قصداً .
وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم ، واتباع آثارهم وسيرهم مطلقاً .
وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة من غير التزام قرينة ، بل مطلقاً عند بعضهم ، وإن اختلفوا في حكم ذلك .
وحكى ابن خويز منذاذ وأبو الفرج ، عن مالك ، التزام ذلك وجوباً ، وهو قول الأبهري وابن القصار      وأكثر أصحابنا .
وقول أكثر أهل العراق وابن سريج والإصطخري ، وابن خيران من الشافعية .
وأثر الشافعية على أن ذلك ندب .
وذهب طائفة إلى الإباحة .
وقيد بعضهم الاتباع فيما كان من الأمور الدينية و علم به مقصد القربة .
و من قال بالإباحة في أفعاله لم يقيد . قال : فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم ، إذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده  من القربة أو الإباحة ، أو الخطر ، أو المعصية . ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى من الأصوليين تقديم الفعل على القول إذا تعارضا.
ونزيد هذا حجة بأن نقول : من جوز الصغائر ومن نفاها عن نبينا
 r   مجمعون على أنه لا يقر على منكر من قول أو فعل ، و أنه متى رأى شيئاً فسكت عنه  r دل على جوازه ، فكيف يكون هذا حاله في حق غيره ، ثم يجوز وقوعه منه في نفسه .
وعلى هذا المأخذ تجب عصمتهم من مواقعه المكروه ، كما قيل . وإذ الحظر أو الندب على الاقتداء بفعله ينافي الزجر والنهي عن فعل المكروه .
وأيضاً فقد علم من دين الصحابة قطعاً الاقتداء بأفعال النبي
r كيف توجهت ، ومن كل فن كالاقتداء باقواله ، فقد نبذوا خواتيمهم حين نبذ خاتمه ، وخلعوا نعالهم حين خلع ، واحتجاجهم برؤية ابن عمر إياه جالساً لقضاء حاجته مستقبلاً بيت المقدس .
واحتج غير واحد منهم في غير شيء مما بابه العبادة أو العادة بقوله : رأيت رسول الله
r  وقال : هلا خبرتيها أني أقبل وأنا صائم ! وقالت عائشة ، مُحتجة : كنت أفعله أنا و رسول الله r.
وغضب رسول الله
r على الذي أخبر بمثل هذا عنه ، وقال : يحل الله لرسوله ما يشاء : إني لأخشاكم الله و أعلمكم بحدوده .

والآثار في هذا أكثر من أن نحيط عليها ، لكنه يعلم من مجموعها على القطع اتباعهم أفعاله واقتداؤهم بها ولو جوزوا عليه المخالفة في شيء منها لما اتسق هذا ، وليُقل عنهم وظهر بحثهم عن ذلك ، ولما أنكر r على الآخر قوله واعتذاره بما ذكرناه .
وأما المباحات فجائز وقوعها منهم ، إذ ليس فيها قدح ، بل هي مأذون فيها ، وأيديهم كأيدي غيرهم مسلطة عليها ،إلا أنهم بما خصوا به من رفيع المنزلة ، وشرحت له صدورهم من أنوار المعرفة ،        واصطفوا به من تعلق هممهم بالله والدار الآخرة ـ لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات مما يتقوون به على سلوك طريقهم ، وصلاح دينهم ، وضرورة دنياهم ، وما أخذ على هذه السبيل التحق طاعة ، وصار قربة ،كما بينا منه أول الكتاب طرفاً في نبينا
r، فبَان لك عظيم فضل لله على نبيناr وعلى سائر أنبيائه عليهم السلام بأن جعل أفعالهم قربات وطاعات بعيدة عن وجه المخالفة ورسم المعصية .

الفصل  العاشر
في عصمة الأنبياء قبل النبوة

وقد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة ، فمنعها قوم ، وجوزها آخرون . والصحيح أن شاء الله تنزيههم من كل عيب ، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف والمسألة تصورها كالممتنع ، فإن المعاصي والنواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع .
وقد اختلف الناس في حال نبينا
r قبل أن يوحى إليه ، هل كان متبعاً لشرع  قبله أم لا ؟ فقال جماعة : لم يكن متبعاً لشيء ، وهذا قول الجمهور ، فالمعاصي على هذا القول غير موجودة ولا معتبرة في حقه حينئذ ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر والنواهي وتقرر الشريعة .
ثم اختلف حجج القائلين بهذه المقالة عليها ، فذهب سيف السنة ، ومقتدى فرق الأمة القاضي أبو بكر إلى أن طريق العلم بذلك النقل وموارد الخبر من طريق السمع ، وحجته أنه لو كان ذلك لنقل ، ولما أمكن كتمه وستره في العادة ، إذ كان من مهم أمره ، وأولى ما اهتبل به سيرته ، ولفخر به أهل تلك الشريعة ، ولا احتجوا به عليه ، ولم يؤْثر شيء من ذلك جملة .
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلاً ، قالوا : لأنه يبعد أن يكون متبوعاً من عرف تابعاً ، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح ، وهي طريقة غير سديدة ، واستناد ذلك إلى النقل كما تقدم للقاضي أبي بكر أولى       وأظهر .
وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره
r وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك ، إذ لم يحل أحد الوجهين منها العقل ، ولا استبان في أحدهما طريق النقل ، وهو مذهب أبي المعالي .
وقالت فرقة ثالثة : إنه كان عاملاً بشرع من قبله ، ثم اختلفوا : هل يتعين ذلك الشرع أم لا ؟ فوقف بعضهم عن تعيينه وأحجم . وجسر بعضهم على التعيين وصمم . ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع ، فقيل نوح ، وقيل إبراهيم ، وقيل موسى ، وقيل عيسى صلوات الله عليهم . فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة .
والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر ، وأبعدها مذاهب المعينين ، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل كما قدمنا ، ولم يخف جملة ، ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء ، فلزمت شريعته من جاء بعدها ، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى ، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا
r ، ولا حجة أيضاً للآخر  في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل : 123 )        ولا للآخرين في قوله تعالى : شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) (الشورى : 13 ).
وقد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث،ولم تكن له شريعة تخصه ، كيوسف بن يعقوب على قول من يقول : إنه ليس برسول .
وقد سمى الله تعالى جماعة منهم في هذه الآية شرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، فدل أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد و عبادة الله تعالى .
وبعد هذا فهل يلزم من قال بمنع الاتباع هذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا
r ، أو يخالفون نبيهم ؟ .
أما من منع الاتباع عقلاً فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية . وأما من مال إلى النقل فأينما تصور له     وتقرر اتبعه .
ومن قال بالوقف فعلى أصله . ومن قال بوجوب الاتباع لمن قبله فيلتزمه بمساق حجته في كل نبي .

                                        الفصل الحادي عشر

                         حكم السهو والنسيان في الأفعال

هذا حكم ما تكون المخالفة فيه من الأعمال على قصد وهو ما يسمى معصية ويدخل تحت التكليف ، وأما  ما يكون بغير قصد وتعمُّد كالسهو والنسيان في الوظائف الشرعية مما تقرر الشرع بعدم  نعلق الخطاب به وترك المؤاخذة عليه فأحوال الأنبياء في ترك المؤاخذة به وكونه ليس بمعصية لهم مع أممهم سواء ، ثم ذلك على نوعين : ما طريقه البلاغ وتقرير الشرع وتعلق الأحكام وتعليم الأمة بالفعل وأخذهم بانباعه فيه وما هو خارج عن هذا مما يختص بنفسه ،أما الأول فحكمه عند جماعة  من العلماء حكم السهو في القول في هذا الباب ، وقد ذكرنا الإتفاق على امتناع ذلك في حق النبي r  وعصمته من جوازه عليه قصدا أو سهواً،فكذلك قالوا : الأفعال في هذا الباب لا يجوز طروُّ المخالفة فيها لا عمداً ولا سهوا لأنها بمعنى القول من جهة التبليغ والأداء ، وطروُّ هذه العوارض عليها يوجب التشكيك و يسبب المطاعن ، واعتذروا عن أحاديث السهو بتوجيهات نذكرها بعد هذا ،وإلى هذا مال أبو إسحاق ،وذهب الأكثر من الفقهاء والمتكلمين إلى أن المخالفة في الأفعال البلاغية والأحكام الشرعية  سهواً وعن غير قصد منه جائز عليه كما تقرر من أحاديث السهو في الصلاة وفرقوا بين ذلك وبين الأقوال البلاغية لقيام المعجزة على الصدق في القول؛ ومخالفة ذلك تُناقضها ..وأما السهو في الأفعال فغير مناقض لها ولا قادح في النبوة بل علطات الفعل وغفلات القلب من سمات البشر كما قالr  : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ،فإذا نسيتُ فذكِّروني...نعم؛بل حالة النسيان والسهو هنا في حقه سبب إفادة علم وتقرير شرع كما قالr  : إني لأَنسى أو أُنسى لأسنَّ ..بل قد رُوي عنه أيضلً : لست أنسى ولكن اُنسىلأسنَّ...وهذه الحالة زيادة له في التبليغ وتمام عليه في النعمة بعيدة عن سمات النقص وأغراض الطعن ؛فإن القاءلين بتجويز ذلك يشترطون أن الرسل لا تقر على السهو والغلط بل ينبهون عليه ويعرفون حكمه بالفور على قول بعضهم وهو الصحيح وقبل انقراضهم على قول الآخرين ؛وأما ما ليس طريقه البلاغ ولا بيان الأحكام من أفعاله r وما يختص به من أمور دينه وأذكار قلبه مما لم يفعله ليُتَّبَع فيه فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها ولحوق الفترات والغفلات بقلبه وذلك بما كُلِّفهr  من مقاساة الخلق وسياسات الأمة ومعاناة الأهل وملاحظة الأعداء ،ولكن ليس على سبيل التكرار ولا الإتصال بل على سبيل الندور كما قالr  : إنه ليغان على قلبي فأستعفر الله ،وليس في هذا شيء يحُط من رتبته ويناقص معجزته ..وذهبت طائفة إلى منع السهو والنسيان والغفلات والفترات في حقه r جملة وهو مذهب جماعة المتصوفة وأصحاب علم القلوب والمقامات ولهم في هذه الأحاديث مذاهب نذكرها بعد إن شاء الله..  

                        الفصل الثاني عشر

                      في الكلام على الأحاديث المذكور فيها السهو منه r

 وقد قدمنا في الفصول قبل هذا ما يجوز فيه السهو عليه  rوما يمتنع ، وأحلناه في الأخبار جملة ،      وفي الأقوال الدينية قطعاً ، وأجزنا وقوعه في الأفعال الدينية على الوجه الذي رتبناه ، وأشرنا إلى ما ورد في ذلك ، ونحن نبسط القول فيه ونقول : الصحيح من الأحاديث الواردة في سهوه r في الصلاة ثلاثة أحاديث : أولها : حديث ذي اليدين في السلام من اثنتين .الثاني : حديث ابن بحينة في القيام من اثنتين .
الثالث : حديث ابن مسعود رضي الله عنه : أن النبي
r  صلى الظهر خمساً .

وهذه الأحاديث مبنية على السهو في الفعل الذي قررناه ، وحكمة الله فيه ليستن به ، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول ، وأرفع للاحتمال ، وشرطه ألا يقر على السهو ، بل يشعر به ليرتفع الالتباس ، وتظهر فائدة الحكمة فيه كما قدمناه ، فإن النسيان والسهو في الفعل في حقه r غير مضاد للمعجزة ، ولا قادح في التصديق ، وقد قال r : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني .
وقال
r : رحم الله فلاناً ، لقد أذكرني كذا و كذا آية كنت أُسقطهن ـ و يروى : أُنسيهتن .
وقال
r : إني لأَنسى ، أو أُنسى ، لأَسُنَّ .
قيل : هذا اللفظ شك من الراوي . وقد روى : إني لا أنسى ، و لكن أنسى لأسن .
وذهب ابن نافع ، وعيسى بن دينار أنه ليس بشك ، فإن معناه التقسيم ، أي أنسى أنا ، أو ينسيني الله .
قال القاضي أبو الوليد الباجي : يحتمل ما قالاه أن يريد أني أنسى في اليقظة ، وأنسى في النوم ، أو أنسى على سبيل عادة البشر من الذهول عن الشيء والسهو ، وأنسى مع إقبالي عليه وتفرغي له ، فأضاف أحد النسيانين إلى نفسه ، إذ كان له بعض السبب فيه ، ونفى الآخر عن نفسه ، إذ هو فيه كالمضطر .
وذهبت طائفة من أصحاب المعاني والكلام على الحديث إلى أن النبي
r كان يسهو في الصلاة ولا ينسى ، لأن النسيان ذهول وغفلة وآفة ، قال : و النبي r منزه عنها ، والسهو شغل ، فكان النبي r يسهو في صلاته ، ويشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلاً بها لا غفلة عنها .
واحتج بقوله في الرواية الأخرى : إني لا أنسى .
وذهبت طائفة إلى منع هذا كله عنه ، وقالوا : إن سهوه
r كان عمداً وقصداً ليَسُنَّ .
وهذا قول مرغوب عنه ، متناقض المقاصد ، لا يُحلى منه بطائل ، لأنه كيف يكون معتمداً ساهياً في حال . ولا حجة لهم في قولهم : إنه أمر بتعمد صورة النسيان ليسن ، لقوله : إني لأنسى أو أنسى . وقد أثبت أحد الوصفين ، ونفى مناقضة التعمد والقصد ، وقال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ،   فإذا نسيت فذكروني .

وقد مال إلى هذا عظيم من المحققين من أئمتنا ، وهو أبو المظفر الإسفرايني ، ولم يرتضه غيره منهم ،  ولا أرتضيه ، ولا حجة لهاتين الطائفتين في قوله : إني لا أنَسى ، ولكن أُنسى ، إذ ليس فيه نفي حكم النسيان بالجملة ، وإنما فيه نفي لفظه وكراهة لقبه ، كقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا ، ولكنه نسي ، أونفي الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الصلاة عن قلبه ، لكن شغل بها عنها ، ونسي بعضها ببعضها ، كما ترك الصلاة يوم الخندق حتى خرج وقتها ، وشغل بالتحرز من العدو عنها ، فشغل بطاعة عن طاعة .
و قيل : إن الذي ترك يوم الخندق أربع صلوات : الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، وبه احتج من ذهب إلى جواز تأخير الصلاة في الخوف ، إذا لم يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن ، وهو مذهب الشاميين
والصحيح أن حكم الصلاة الخوف كان بعد هذا ، فهو ناسخ له .
فإن قلت : فما تقول في نومه
r عن الصلاة يوم الوادي ، وقد قال : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي .
فاعلم أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها : أن المراد بأن هذا حكم قلبه عند نومه وعينيه في غالب الأوقات  وقد يندر منه غير ذلك ، كما يندر منة غيره خلاف عادته .
ويصحح هذا التأويل قوله
r في الحديث نفسه : إن الله قبض أرواحنا .
وقول بلال فيه : ما ألقيت علي نومه مثلها قط ، ولكن مثل هذا إنما يكون منه لأمر يريده الله من إثبات حكم ، وتأسيس سُنة ، وإظهار شرع ، كما قال في الحديث الآخر : لو شاء الله لأيقظنا ، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم .
الثاني ـ أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه ، لما روي أنه كان محروساً ، وأنه كان ينام حتى ينفخ ، وحتى يسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوصأ .
وحديث ابن عباس المذكور فيه وضوءه عند قيامه من النوم ، فيه نومه مع أهله ، فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه بمجرد النوم إذ لعل ذلك لملامسته الأهل أو لحدث آخر ، فكيف وفي آخر الحديث نفسه : ثم نام حتى سمعت غطيطه ، ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يتوضأ .
وقيل : لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه في النوم ، وليس في قصة الوادي إلا نوم عينه عن رؤية الشمس . وليس هذا من فعل القلب ، وقد قال
r: إن الله قبض أرواحنا و لو شاء لردها إلينا في حين غير هذا .
فإن قيل : فلولا عادته من استغراق النوم لما قال لبلال : اِكْلَأْ لنا الصبح .
فقيل في الجواب : إنه كان من شأنه   
r  التغليس بالصبح ، ومراعاة أول الفجر لا تصح ممن نامت عينه ، إذ هو ظاهر يدرك بالجوارح ، فوكل بلالاً بمراعاة أوله ليعلمه بذلك ، كما لو شغل بشغل غير النوم عن مراعاته .
فإن قيل : فما معنى نهيه
r عن القول : نسيت ، و قد قال r : إني أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني .... وقال :لقد أذكرني كذا و كذا آية كنت أنسيتها .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أنه لا تعارض في هذه الألفاظ ، أما نهيه عن أن يقال نسيت آية كذا فمحمول على ما نسخ حفظه من القرآن ، أي إن الغفلة في هذا لم تكن منه ، ولكن الله تعالى اضطره إليها ليمحو ما يشاء ويثبت . وما كان من سهو أو غفلة من  قبله تذكرها صلح أن يقال فيه : أنسى .
وقد قيل : إن هذه منه
r على طريق الاستحباب أن يضيف الفعل إلى خالقه ، والآخر على طريق الجواز لاكتساب العبد فيه ، وإسقاطه  rلما أسقط من هذه الآيات جائز عليه بعد بلاغ ما أمر ببلاغه ، وتوصيله إلى عباده ، ثم يستذكرها من أمته ، أو من قبل نفسه ، إلا ما قضى الله نسخه ومحوه من القلوب وترك استذكاره .

وقد يجوز أن ينسى النبي r ما هذا سبيله كرَّة ، و يجوز أن ينسيه منه قبل البلاغ ما لا يغير نظماً ، ولا يخلط حكماً ، مما لا يدخل خللاً في الخبر ، ثم يذكره إياه و يستحيل دوام نسيانه له ، لحفظ الله كتابه ،     وتكليفه بلاغه .

الفصل الثالث عشر
في الرد على من أجاز عليهم الصغائر

اعلم أن المجوزين للصغائر على الأنبياء من الفقهاء والمحدثين ومن شايعهم على ذلك من المتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة من القرآن والحديث إن التزموا ظواهرها أفضت بهم إلى تجويز الكبائر    وخرق الإجماع ، وهو ما لا يقول به مسلم ، فكيف وكل ما احتجوا به مما اختلف المفسرون في معناه ،   وتقابلت الاحتمالات في مقتضاه ، وجاءت أقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك ، فإذا لم يكن مذهبهم إجماعاً ، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديماً ، وقامت الدلالة على خطأ قولهم ، وصحة غيره وجب تركه ، والمصير إلى ما صح .

و ها نحن نأخذ في النظر فيها إن شاء الله .

فمن ذلك قوله تعالى لنبينا محمد r (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) (الفتح : 2 )
وقوله:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد : 19 ).
وقوله :( وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ *) (  الشرح   2 ، 3 ) .

وقوله : (عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة : 43 ).

وقوله : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ) (الأنفال 67 -68).

و قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى*)(عبس 1-2)

وما قص من قصص غيره من الأنبياء ، كقوله : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (طه : 121 )

 وقوله :  (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الأعراف : 190 ).

وقوله : (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف : 23 )

وقوله ـ عن يونس : (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : 87 ) .

وما ذكر من قصته وقصة داود ، وقوله :( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( 24 ) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 ) ص-

وقوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف : 24 )،

وما قص من قصته مع إخوته .

وقوله ـ عن موسى : (َوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) (القصص : 15)

-وقول النبي r في دعائه : اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت

 ونحوه من أدعيته r. و كر الأنبياء في الموقف ذنوبهم في حديث الشفاعة .
و وله : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله .
وفي حديث أبي هريرة : إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة .

-وقوله تعالى ـ عن نوح : (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) (هود : 47 ).
و قد كان قال الله له : (وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) (هود : 37 )

-وقال ـ عن إبراهيم : ((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء : 82 )] .

-وقوله ـ عن موسى :( فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف : 143 ).

-وقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) (صـ : 34 )... إلى ما أشبه هذه الظواهر .

*قال القاضي رحمه الله : فأما احتجاجهم بقوله تعالى :( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) : فهذا قد اختلف فيه المفسرون ، فقيل : المراد ما كان قبل النبوة وبعدها .
وقيل : المراد ما وقع لك من ذنب وما لم يقع ـ أعلمه أنه مغفور له .
وقيل : المتقدم ما كان قبل النبوة ، والمتأخر عصمتك بعدها ، حكاه أحمد بن نصر .
وقيل : المراد بذلك أمته .
وقيل : المراد ما كان عن سهو وغفلة ، وتأويل ، حكاه الطبري ، واختاره القشيري .
وقيل : ما تقدم لأبيك آدم ، وما تأخر من ذنوب أمتك ، حكاه السمرقندي والسلمي عن ابن عطاء .
وبمثله والذي قبله يتأول قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)،
قال مكي : مخاطبة النبي
r ها هنا هي مخاطبة لأمته .
و قيل : إن النبي
r لما أمر أن يقول : (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (الأحقاف : 9 ) ـ سر بذلك الكفار ، فأنزل الله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) (الفتح : 2 )
وبمآل المؤمنين في الآية الأخرى بعدها ، قاله ابن عباس ، فمقصد الآية : إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب إن لو كان . قال بعضهم : المغفرة ها هنا تبرئة من العيوب .

وأما قوله : :( وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ *) (  الشرح   2 ، 3 ) .، فقيل : ما سلف من ذنبك قبل النبوة ، وهو قول ابن زيد والحسن ، ومعنى قول قتادة .
وقيل : معناه أنه حفظ قبل نبوته منها ، وعصم ، ولولا ذلك لأثقلت ظهره ، حكى معناه السمرقندي .
وقيل : المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى تبلغها ، حكاه الماوردي ، والسلمي .
وقيل : حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية ، حكاه مكي .
وقيل : ثقل شغل سرك وحيرتك وطلب شريعتك حتى شرعنا ذلك لك ، حكى معناه القشيري .
وقيل المعنى : خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت ، وحفظ عليك .
ومعنى أنقض ظهرك ، أي كاد ينقضه ، فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة ـ اهتمام النبي
r بأمور فعلها قبل نبوته ، وحرمت عليه بعد النبوة ، فعدها أوزار ، وثقلت عليه ، وأشفق منها .
أو يكون الوضع عصمة الله له وكفايته من ذنوب لو كانت لأنقضت ظهره .
أو يكون من ثقل الرسالة ، أو ما ثقل عليه وشغل قلبه من أمور الجاهلية ، وإعلام الله تعالى له بحفظ ما استحفظه من وحيه .

وأما قوله : (عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة : 43 ).فأمر لم يتقدم للنبي r  من الله تعالى نهي فيعد معصية ، ولا عده الله تعالى عليه معصية ، بل لم يعده أهل العلم معاتبة . وغلَّطوا من ذهب إلى ذلك ، قال نفطويه : و قد حاشاه الله تعالى من ذلك ، بل كان مخيراً في أمرين ، قالوا : وقد كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي ، فكيف وقد قال الله تعالى : (فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ  ) (النور : 62 ). فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس( عفا )هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبي r : عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق . ولم تجب عليهم قط ، أي لم يلزمكم ذلك .
و نحوه للقشيري ، قال : وإنما يقول العفو : لا يكون إلا عن ذنب  من لم يعرف كلام العرب ، ومعنى عفا الله عنك ـ أي لم يلزمك ذنباً .قال الداودي : روي أنها تكرمة .وقال مكي : هو استفتاح كلام ، مثل أصلحك الله و أعزك . و حكى السمرقندي أن معناه عفاك الله .

-وأما قوله في أسارى بدر : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ) (الأنفال 67 -68) فليس فيه إلزام ذنب للنبي r ، بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء ، فكأنه قال : ما كان هذا لنبي غيرك ، كما قال r: أحلت لي الغنائم ، و لم تحل لنبي قبلي .
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى :( الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )   
قيل : المعنى بالخطاب لمن أراد ذلك منهم ، و تجرد غرضه لعرض الدنيا وحده ، و الاستكثار منها ، و ليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه و سلم ، و لا عليه أصحابه ، بل قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر ، واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال ، حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو .
ثم قال تعالى :( لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فاختلف المفسرون في معنى الآية  فقيل : معناها لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهي لعذبتكم .
فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية .
و قيل : المعنى لولا إيمانكم بالقرآن ، وهو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصفح ـ
لعوقبتم على الغنائم .
و يزاد هذا القول تفسيراً وبياناً بأن يقال : لولا ما كنتم مؤمنين بالقرآن ، وكنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم ، كما عوقب من تعدى .
وقيل : لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم .
فهذا كله ينفي الذنب والمعصية ، لأن من فعل ما أحل له لم يعص ، قال الله تعالى : (فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنفال : 69 )
وقيل : بل كان
r قد خير في ذلك ، وقد روي عن علي رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي  rيوم بدر ، فقال : خير أصحابك في الأساري ، إن شاءوا القتل ، وإن شاءوا الفداء ، على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم . فقالوا : الفداء و يقتل منا . وهذا دليل على صحة ما قلناه ، وأنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه ، ولكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان      والقتل ، فعوتبوا على ذلك ، وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم ،، وكلهم غير عصاة  ولا مذنبين ، وإلى نحو هذا أشار الطبري .

-وقوله ـ r في هذه القضية : لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر . إشارة إلى هذا من تصويب رأيه ورأي من أخذ بمأخذه ، في إعزاز الدين وإظهار كلمته ، وإبادة عدوه ، وأن هذه القضية لو استوجبت عذاباً نجا منه عمر ومثله ، وعين عمر لأنه أول من أشار بقتلهم ، ولكن الله لم يقدر عليهم في ذلك عذاباً لحله لهم فيما سبق .

وقال الداودي : والخبر بهذا لا يثبت ، ولو ثبت لما جاز أن يظن أن النبي r حكم لما لا نص فيه ولا دليل من نص ، ولا جعل الأمر فيه إليه ، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك .

وقال القاضي بكر بن العلاء : أخبر الله تعالى نبيهr في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم والفداء ، وقد كان قبل هذا فادَوا في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان وصاحبه ، فما عتب الله ذلك عليهم ، وذلك قبل بدر بأزيد من عام .
فهذا كله يدل على أن فعل النبي
r في شأن الأسرى كان على تأويل و بصيرة ، وعلى ما تقدم قبل مثله ، فلم ينكره الله تعالى عليهم ، لكن الله تعالى أراد ـ لعظم أمر بدر وكثرة أسراها ، والله أعلم ـ إظها ر نعمته ، وتأكيد منته ، بتعريفهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم ، لا على وجه عتاب وإنكار   وتذنيب . هذا معنى كلامه .

-وأما قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى*)(عبس 1-2)
فليس له إثبات ذنب له
r، بل إعلام الله أن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى ، وان الصواب والأولى ـ لو كشف لك حال الرجلين الإقبال على الأعمى .
وفعل النبي
r لما فعل ، وتصديه لذلك الكافر ، كان طاعة لله وتبليغاً عنه واستئلافاً له ، كما شرعه الله له ، لا معصية ، ولا مخالفة له .
وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين وتوهين أمر الكافر عنده والإشارة إلى الإعراض عنه ، بقوله : (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (عبس  7 ).
و قيل : أراد بـ ( عبس ) ، و ( تولى ) ـ الكافر الذي كان مع النبي
r ، قاله أبو تمام .

-وأما قصة آدم عليه السلام ، وقوله تعالى :( (فَأَكَلَا مِنْهَا)(طه 121) ـ بعد قوله :( وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ) (البقرة : 35 )(الأعراف 19) . وقوله(أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) ( الأعراف 22)، و تصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله تعالى : (َوعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (طه : 121 )) ، أي جهل . وقيل أخطأ ، فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله :(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طه : 115 )، قال ابن زيد : نسي عداوة إبليس له ، وما عهد الله إليه من ذلك بقوله : (إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طه : 117 ).
وقيل : نسي ذلك بما أظهر لهما . وقال ابن عباس : إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي .
وقيل : لم يقصد المخالفة استحلالاً لها ، ولكنهما اغتراً بحلف إبليس لهما :( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف : 21 ) ، و توهما أن أحداً لا يحلف بالله حانثاً .
وقد روي عذر آدم بمثل هذا في بعض الآثار .وقال ابن جبير : حلف بالله لهما حتى غرهما ، والمؤمن يخدع .وقد قيل : نسي ، ولم ينو المخالفة ، فلذلك قال :( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طه : 115 ) ، أي قصداً  للمخالفة . وأكثر المفسرين على أن العزم هنا الجزم والصبر .
وقيل : كان عند أكله سكران ، وهذا فيه ضعف ، لأن الله تعالى وصف خمر الجنة أنها لا تسكر ، فإذا كان ناسياً لم تكن معصية ، وكذلك إن كان ملبساً عليه غالطاً ، إذ الاتفاق على خروج الناسي والساهي عن حكم التكليف .

قال الشيخ أبو بكر بن فورك وغيره : إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة ، ودليل ذلك قوله تعالى : (َوعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (طه : 121- 122) ، فذكر أن الاجتباء      والهداية كانا بعد العصيان .وقيل : بل أكلها متأولاً ، وهو يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها ، لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس ، ولهذا قيل : إنما كانت التوبة من ترك التحفظ ، لا من المخالفة . وقيل : تأول أن الله لم ينهه عنها نهي تحريم .
فإن قيل : فعلى كل حال فقد قال الله تعالى :( وعصى آدم ربه )، و قال : (فتاب عليه وهدى) .

-وقوله في حديث الشفاعة : ويذكر ذنبه ، وقال : إني نهيت عن أكل الشجرة فعصيت ، فسيأتي الجواب عنه وعن أشباهه مجملاً آخر الفصل إن شاء الله .

-وأما قصة يونس فقد مضى الكلام على بعضها آنفاً ، وليس في قصة يونس نص على ذنب ، وإنما فيها أبق وذهب مغاضباً وقد تكلمنا عليه .وقيل : إنما نقم الله عليه خروجه عن قومه فاراً من نزول العذاب .
وقيل : بل لما وعدهم العذاب ثم عفا الله عنهم قال : و الله لا ألقاهم بوجه كذاب أبداً .
وقيل : بل كانوا يقتلون من كذب فخاف ذلك .
وقيل : ضعف عن حمل أعباء الرسالة . وقد يقدم الكلام أنه لم يكذبهم .
وهذا كله ليس فيه نص على معصية إلا على قول مرغوب عنه .وقوله : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (الصافات : 140 )  قال المفسرون تباعد .
وأما قوله : (إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : 87 ) ، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه ، فهذا اعتراف منه عند بعضهم بذنبه ، فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه ، أو لضعفه عما حمله ، أو لدعائه بالعذاب على قومه . وقد دعا نوح بهلاك قومه فلم يؤاخذ .
وقال الواسطي في معناه : نزه ربه عن الظلم ، وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافاً واستحقاقاً . ومثل هذا قول آدم وحواء : (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف : 23 ))، إذ كانا السبب في وضعهما غير الموضع الذي أنزلا فيه ، واخراجهما من الجنة ، وإنزالهما إلى الأرض .

-وأما قصة داود عليه السلام فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيه الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين . ولم ينص الله على شيء من ذلك ، ولا ورد في حديث صحيح . والذي نص عليه قوله : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ *فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ *) ( ص   24-25) وقوله فيه : (أَوّاب) .
فمعنى(فَتَنَّاهُ): اختبرناه . و( أَوَّاب) : قال قتادة : مطيع . وهذا التفسير أولى .
وقال ابن عباس ، وابن مسعود : ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها ، فعاتبه الله على ذلك ، ونبهه عليه ، وأنكر عليه  شغله بالدنيا ، وهذا الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره .
وقيل : خطبها على خطبته . وقيل : بل أحب بقلبه أن تستشهد .
وحكى السمرقندي أن ذنبه الذي استغفر منه قوله لأحد الخصمين :( لَقَدْ ظَلَمَك) ، فظلمه بقول خصمه .
وقيل : بل لما خشي على نفسه ، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا .
وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ـ ذهب أحمد بن نصر ، وأبو تمام ، وغيرهما من المحققين . وقال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم .
 وقيل : إن الخصمين اللذين اختصما إليه رجلان في نعاج غنم ، على ظاهر الآية  .

-وأما قصة يوسف وإخوته فليس على يوسف فيها تعقب ، وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم فليزم الكلام على أفعالهم . وذكر الأسباط وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحاً في كونهم من أهل الأنبياء .
قال المفسرون : يريد من نبئ من أبْـناء الأسباط .
وقد قيل : إنهم كانوا حين فعلوا بيوسف ما فعلوه صغار الأسنان ، ولهذا لم يميزوا يوسف حين اجتمعوا به ولهذا قالوا :( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف : 12 )   وإن ثبتت لهم نبوة فبعد هذا ، و الله أعلم .
و أما قول الله تعالى فيه : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ  ) (يوسف : 24 ))ـ فعلى طريق كثير من الفقهاء المحدثين أن همَّ النفس لا يؤاخذ به ، وليس سيئة ، لقوله
r ـ عن ربه : إذا همَّ عبدي بسيئة فلم يعلمها كتبت له حسنة   ، فلا معصية في همِّه إذاً .
وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين فإن الهمَّ إذا وطنت عليه النفس سيئة . وأما ما لم توطن عليه النفس من همومها وخواطرها فهو المعفو عنه .
هذا هو الحق ، فيكون ـ إن شاء الله ـ همّ يوسف من هذا ، ويكون قوله : (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (يوسف : 53 )
أي ما أبرئها من هذا الهم ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والإعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل وبرىء ، فكيف وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة ـ أن يوسف لم يهمّ ، وان الكلام فيه تقديم وتأخير ، أي  ولقد همت به ، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، وقد قال الله تعالى ـ عن المرأة ـ :( وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ  ) (يوسف : 32 )) . و قال تعالى :( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف : 24 ) . وقال تعالى : (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف : 23 ).
قيل في ربي الله تعالى . و قيل : الملك . وقيل : هم بها ، أي بزجرها ووعظها .وقيل هم بها ، أي غمها امتناعه عنها .وقيل هم بها : نظر إليها . وقيل هم بضربها ودفعها . وقيل هذا كله كان قبل نبوته . وقد ذكر بعضهم : ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله ، فألقى عليه هيبة النبوة ، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه .

-وأما خبر موسى عليه السلام مع قتيله الذي وكزه فقد نص الله تعالى أنه من عدوه ، قال : كان من القبط الذين على دين فرعون .ودليل السورة في هذا كله أنه قبل نبوة موسى . وقال قتادة : وكزه بالعصا ، ولم يتعمد قتله ، فعلى هذا لا معصية في ذلك . وقوله : (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) (القصص : 15 )). وقوله :(  رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) (القصص : 16 )ـ قال ابن جريح : قال ذلك من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر .
وقال النقاش : لم يقتله عن عمد مريداً للقتل ، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمة ، قال : وقد قيل : إن هذا كان قبل النبوة ، وهو مقتضى التلاوة .
وقوله تعالى ـ في قصته : : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً  ) (طه : 40 ) ، أي ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء . قيل في هذه القصة وما جرى له مع فرعون . وقيل : إلقاؤه في التابوت والْيَمّ ، وغيرذلك .
وقيل : معناه أخلصناك إخلاصاً ، قاله ابن جبير ومجاهد ، من قولهم : فتنت الفضة في النار إذا خلصتها . وأصل الفتنة معنى الاختبار ، وإظهار ما بطن ، إلا أنه استعمل في عرف الشرع في اختبار أدى إلى ما يكره .
وكذلك ما روي في الخبر الصحيح ، من ان ملك الموت جاءه فلطم عينه ففقأها . . .
الحديث .. ليس فيه ما يحكم به على موسى بالتعدي وفعل ما لايجب له ، إذ هو ظاهر الأمر ، بين الوجه ، جائز الفعل ، لأن موسى دافع عن نفسه من أتاه لإتلافها ، وقد تصور به في صورة آدمي ، ولا يمكن أنه علم حينئذ أنه ملك الموت ، فدافعه عن نفسه مدافعة أدت إلى ذهاب عين تلك الصور التي تصور له فيها الملك امتحاناً من الله ، فلما جاءه بعد ، وأعلمه الله تعالى أنه رسوله إليه استسلم .
وللمتقدمين والمتأخرين على هذا الحديث أجوبة هذا أسدُّها عندي ، وهو تأويل شيخنا الإمام أبي عبد الله المازري . وقد تأوله قديماً ابن عائشة و يره على صكه ولطمه بالحجة ، وفقء عين حجته ، وهو كلام مستعمل في هذا الباب في اللغة معروف .

-وأما قصة سليمان وما حكى فيها أهل التفاسير من ذنبه وقوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) (صـ : 34 )، فمعناه ابتلينا ، وابتلاؤه : ما حكي عن النبي  r أنه قال : لأطوفن الليلة على مائة امراة أو تسع وتسعين كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل . فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . قال النبي r: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله   
قال أصحاب المعاني : والشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه ، وهي عقوبته ومحنته 
وقيل بل مات فألقي على كرسيه ميتاً . وقيل : ذنبه حرصه على ذلك و تمنيه . وقيل : لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص ، وغلب عليه من التمني . وقيل : عقوبته أن سلب ملكه ، وذنبه أن احب بقلبه أن يكون الحق لأختانه على خصمهم . وقيل : أوخذ بذنب قارفه بعض نسائه . ولا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به ، وتسلطه على ملكه تعالى وتصرفه في أمته بالجور في حكمه ، لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا ، وقد عصم الانبياء من مثله   .
وإن سئل : لم لم يقل سليمان في القصة المذكورة : إن شاء الله ـ فعنه أجوبة :
أحدها : ما روي في الحديث الصحيح أنه نسى أن يقولها ، وذلك لينفذ مراد الله تعالى .
والثاني : أنه لم يسمع صاحبه و شغل عنه .وقوله : ((قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (صـ : 35 )) . لم يفعل هذا سليمان غيرةً على الدنيا ولا نفاسة بها ، ولكن مقصده في ذلك ـ على ما ذكره المفسرون ـ ألا يسلط عليه أحد كما سلط عليه الشيطان الذي سلبه إياه مدة امتحانه على قول من قال ذلك . وقيل : بل أراد أن يكون له من الله فضيلة وخاصة يختص بها كاختصاص غيره من أنبياء الله ورسله بخواص منه .
وقيل : ليكون ذلك دليلاً وحجة على نبوته ، كإلانة الحديد لأبيه ، وإحياء الموتى لعيسى ، واختصاص محمد
r بالشفاعة ، ونحو هذا .

-وأما قصة نوح عليه السلام فظاهرة العذر ، وإنه أخذ فيها بالتأويل وظاهر اللفظ ، لقوله تعالى:      (وَأَهْلَكَ  ) (هود : 40 )  فطلب مقتضى هذا اللفظ ، وأراد علم ما طوي عليه من ذلك ، لا أنه شك في وعد الله تعالى ، فبيـَّن اللهُ عليه أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم لكفره وعمله الذي هو غير صالح وقد أعلمه أنه مُغرِق الذين ظلموا ، ونهاه عن مخاطبته فيهم ، فووخِذ بهذا التأويل ، وعتب عليه ،        وأشفق هو من إقدامه على ربه لسؤاله ما لم يؤذن له في السؤال فيه ، وكان نوح ـ فيما حكاه النقاش ـ لا يعلم بكفر ابنه .وقيل في الآية غير هذا ، وكل هذا لا يقضي على نوح بمعصية سوى ما ذكرنا من تأويله وإقدامه بالسؤال فيما لم يؤْذن له فيه ، ولا نُهِيَ عنه .
وما روي في الصحيح من أن نبياً قرصته نملة فحرق قرية النمل ، فأوحى الله إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح ... فليس في هذا الحديث أن هذا الذي أتى معصية ، بل فعل ما رآه مصلحة    وصواباً بقتل من يؤذي جنسه ، ويمنع المنفعة مما أباح الله .
ألا ترى أن هذا النبي كان نازلاً تحت الشجرة ، فلما آذته النملة تحول برجله عنها مخافة تكرار الأذى عليه وليس فيما أوحى الله إليه ما يوجب معصية ، بل ندبه إلى احتمال الصبر وترك التشفي ، كما قال تعالى : (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) (النحل : 126 )) ، إذ ظاهر فعله إنما كان لأجل أنها آذته هو في خاصته ، فكان انتقاماً لنفسه ، وقطع مضرة يتوقعها من بقية النمل هناك ، ولم يأت في كل هذا أمراً نُهِيَ عنه ، فيعصى به ، ولا نص فيما أوحى الله إليه بذلك ، ولا بالتوبة والاستغفار منه . والله أعلم .
فإن قيل : فما معنى قوله عليه السلام : ما من أحد إلا ألمَّ بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا ، أو كما قال النبي
r. فالجواب عنه : كما تقدم من ذنوب الأنبياء التي وقعت عن غير قصد وعن سهو وغفلة  .

الفصل الرابع عشر
حا ل الأنبياء في الخوف والإستغفا ر

فإن قلت : فإذا نفيت عنهم صلوات الله عليهم الذنوب والمعاصي بما ذكرته من اختلاف المفسرين وتأويل المحققين ـ فما معنى قوله تعالى :( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (طه : 121 )، وما تكرر في القرآن         والحديث الصحيح من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم   ، وبكائهم على ما سلف منهم ، وإشفاقهم. وهل يُشفَق ويُتاب و يُستغفَر مِن لا شيء ؟ .
فاعلم ـ و فقنا الله وإياك ـ أن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله ، وسنته في عباده وعظم سلطانه ، وقوة بطشه ، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله ، والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم ، وأنهم ـ في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ،ولا أمروا بها ، ثم أخذوا عليها ، وعوتبوا بسببها ، أو حذروا من المؤاخذة بها ، وأتوها على وجه التأويل أو السهو ، أو تزيد من أمور الدنيا المباحة ـ خائفون وجلون ، وهي ذنوب بالإضافة إلى علي منصبهم ، ومعاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم ، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم ، فإن الذنب مأخوذ من الشيء الدني الرذل ، ومنه ذنب كل شيء أي آخره .     وأذناب الناس رذالهم ، فكأن هذه أدنى أفعالهم ، وأسوأ ما يجري من أحوالهم لتطهيرهم وتنزيههم ،      وعمارة بواطنهم وظواهرهم بالعمل الصالح ، والكلم الطيب ، والذكر الظاهر الخفي ، والخشية لله ،       وإعظامه في السر والعلانية ، وغيرهم يتلوث من الكبائر والقبائح والفواحش ما تكون بالإضافة إليه هذه الهنات في حقه كالحسنات ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أي يرونها بالإضافة إلى عَلِيِّ أحوالهم كالسيئات .
وكذلك العصيان الترك والمخالفة ، فعلى مقتضى اللفظة كيفما كانت من سهو أو تأويل فهي مخالفة وترك 
قوله تعالى :( غَوَى) ، أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نُهي عنها ،والغي : الجهل .
وقيل : أخطأ ما طلب من الخلود ، إذ أكلها وخابت أمنيته .
وهذا يوسف عليه السلام قد أوخذ بقوله لأحد صاحبي السجن :(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف : 42 )
قيل : أُنسِي يوسفُ ذكرَ الله .
وقيل : أُنسي صاحبُه أن يذكره لسيده الملك ، قال النبي
r: لولا كلمة يوسف ما لبث في السجن ما لبث .
قال ابن دينار : لما قال ذلك يوسف قيل له : اتخذت من دوني وكيلا ، لأطيلن حبسك . فقال : يارب ، أنسى قلبي كثر ة البلوى .

وقال بعضهم : يؤاخذ الأنبياء بمثاقيل الذر ، لمكانتهم عنده ، ويجاوز عن سائر الخلق لقلة مبالاته بهم في أضعاف ما أتوا به من سوء الأدب .

وقد قال المحتج للفرقة الأولى على سياق ما قلناه : إذا كان الأنبياء يؤاخذون بهذا مما لا يؤاخذ به غيرهم من السهو والنسيان ، وما ذكرته ، وحالهم أرفع فحالهم إذًا في هذا أسوأ حالاً من غيرهم .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أنا لا نثبت لك المؤاخذة في هذا على حد مؤاخذة غيرهم ، بل نقول : إنهم يؤاخذون بذلك في الدنيا ، ليكون ذلك زيادة في درجاتهم ، ويبتلون بذلك ، ليكون استشعارهم له سبباً لمَنْماة رُتبهم ، كما قال تعالىفي آدم عليه السلام :(ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (طه : 122 ) .
وقال في داود عليه السلام :(فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (صـ : 25 ).
قال ـ بعد قول موسى :( تبت إليك ):( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف : 144 ) .
وقال ـ بعد ذكر فتنة سليمان وإنابته :( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ *وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ *)(ص 36-40)
و قال بعض المتكلمين : زلات الأنبياء في الظاهر زلات ، وفي الحقيقة كرامات وزُلَف ، وأشار إلى نحو مما قدمناه .

-وأيضاً فلينبه غيرهم من البشر منهم ، أو ممن ليس في درجتهم بمؤاخذتهم بذلك ، فيستشعروا الحذر ، ويعتقدوا المحاسبة ليلتزموا الشكر على النعم ، ويعدوا الصبر على المحن بملاحظة ما وقع بأهل هذا النصاب الرفيع المعصوم ، فكيف بمن سواهم ، ولهذا قال صالح المري : ذكر داود بسطة للتوابين .
قال ابن عطاء:لم يكن ما نص الله تعالى عليه من قضية صاحب الحوت نقصا له،ولكن استزادة من نبينا
r.وأيضاً فيقال لهم : فإنكم ومن وافقكم تقولون بغفران الصغائر باجتناب الكبائر .
ولا خلاف في عصمة الأنبياء من الكبائر ، فما جوزتم من وقوع الصغائر عليهم هي مغفورة على هذا ، فما معنى المؤاخذة بها إذاً عندكم وخوف الأنبياء وتوبتهم منها ، وهي مغفورة لو كانت ؟
فما أجابوا به فهو جوابنا عن المؤاخذة بأعمال السهو والتأويل .
وقد قيل : إن كثرة استغفار النبي
r وتوبته ، وغيره من الأنبياء على وجه ملازمة الخضوع والعبودية ، والاعتراف بالتقصير ، شكراً لله على نعمه ، كما قال r وقد أمِن من المؤاخذة مما تقدم وتأخر : أفلا أكون عبداً شكوراً .وقال : إني أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي .

قال الحارث بن أسد : خوف الملائكة والأنبياء خوف إعظام وتعبد الله ، لأنهم آمنون .
وقيل : فعلوا ذلك ليُقتدي بهم ، وتستنَّ بهم أممهم ، كما قال
r : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً       و لبكيتم كثيراً .

وأيضاً فإن في التوبة والإستغفار معنى آخر لطيفاً أشار إليه بعض العلماء ، وهو استدعاء محبة الله ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة : 222 )
فإحداث الرسل والأنبياء الإستغفار والتوبة والإنابة والأوبة في كل حين ـ استدعاء لمحبة الله ! والإستغفار فيه معنى التوبة ، وقد قال الله لنبيه ـ بعد أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر : (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 117 ) وقال تعالى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر : 3 )

                                          الفصل الخامس عشر                                                                                                

                                 في تنزيه النبي r عما لا يجب أن يضاف إليه

قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه ، ما هو الحق من عصمته r عن الجهل با لله وصفاته ، وكونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله بعد النبوة عقلاً وإجماعاً ، وقبلها سمعاً ونقلاً ، ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع ، وأداه عن ربه من الوحي قطعاً عقلاً وشرعاً ، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله قصداً أو غير قصد ، واستحالة ذلك عليه شرعاً وإجماعاً ، ونظراً وبرهاناً ، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً ، و تنزيهه عن الكبائر إجماعاً وعن الصغائر تحقيقاً ، وعن استدامة السهو والغفلة       واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة ، وعصمته في كل حالاته ، من رضاً وغضب ، وجد     ومزح ، فيجب عليك أن تتلقاه باليمين ، وتشد عليه يد الضنين وتقدر هذه الفصول حق قدرها ، وتعلم عظيم فائدتها وخطرها ، فإن من يجهل ما يجب للنبي r ، أو يجوز له ، أو يستحيل عليه ، ولا يعرف صور أحكامه ، لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه ، ولا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه ، فيهلك من حيث لا يدري ، ويسقط في هوة الدرك الأسفل من النار إذ ظن الباطل به ، واعتقاده ما لا يجوز عليه يحل بصاحبه دار البوار .
ولهذا ما احتاط
r على الرجلين اللذين رأياه ليلاً ، وهو معتكف في المسجد مع صفية ، فقال لهما : إنها صفية . ثم قال لهما : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، و إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً فتهلكا .

هذه ـ أكرمك الله ـ إحدى فوائد ما تكلمنا عليه في هذه الفصول ، ولعل جاهلاً لا يعلم بجهله إذا سمع شيئاً منها يرى أن الكلام فيها جملة من فصول العلم ، وأن السكوت أولى . وقد استبان لك أنه متعين للفائدة التي ذكرناها .

وفائدة ثانية يضطر إليها في أصول الفقه ، وتبني عليها مسائل لا تنعد من الفقه ، يتخلص بها من تشغيب مختلفي الفقهاء في عدة منها ، وهي الحكم في أقوال النبي r وأفعاله ، وهو باب عظيم ، وأصل كبير من أصول الفقه ، ولا بد من بنائه على صدق النبي r في إخباره وبلاغه ، وأنه لا يجوز عليه السهو فيه   وعصمته من المخالفة في أفعاله عمداً ، وبحسب اختلافهم في وقوع الصغائر وقع خلاف في امتثال الفعل ، بسط بيانه في كتب ذلك العلم فلا نطول به .

و فائدة ثالثة يحتاج إليها الحاكم والمفتى فيمن أضاف إلى النبي r شيئاً من هذه الأمور ، ووصفه بها ، فمن لم يعرف ما يجوز وما يمتنع عليه ، وما وقع الإجماع فيه والخلاف ، كيف يصمم في الفتيا في ذلك ، ومن أين يدري ؟ هل ما قاله فيه نقص أو مدح ، فإما أن يجتريء على سفك دم مسلم حرام ، أو يسقط حقاً ، أو يضيع حرمةً للنبي r.
وبسبيل هذا ما قد اختلف أرباب الأصول وأئمة العلماء والمحققين في عصمة الملائكة .

الفصل السادس عشر
في القول في عصمة الملائكة

أجمع المسلمون على أن الملائكة مؤمنون فضلاء ، واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه ، وأنهم في حقوق الأنبياء والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم .

واختلفوا في غير المرسلين منهم ، فذهبت طائفة إلى عصمة جميعهم عن المعاصي ، واحتجوا بقوله تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم : 6 ) .

 وبقوله : (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ *   وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (الصافات : 165 167- ).   

وبقوله : (وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء : 19 -20) .

وبقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (الأعراف : 206 ).

 وبقوله :(كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس : 16 ))

وبقوله : (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة : 79 )،

ونحوه من السمعيات .

وذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم والمقربين . واحتجوا بأشياء ذكرها أهل الأخبار        والتفاسير ، نحن نذكرها إن شاء الله بعد ، ونبين الوجه فيها إن شاء الله .

والصواب عصمة جميعهم ، وتنزيه نصابهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل مقدارهم .

ورأيت بعض شيوخنا أشار بأن لا حاجة بالفقيه إلى الكلام في عصمتهم ، وأنا أقول : إن للكلام في ذلك ما للكلام في عصمة الأنبياء من الفوائد التي ذكرناها سوى فائدة الكلام في الأقوال والأفعال ، فهي ساقطة ها هنا .

فمما احتج به من لم يوجب عصمة جميعهم قصة هاروت وماروت ، وما ذكر فيها أهل الأخبار ونقله المفسرين ، وما  روي عن علي وابن عباس في خبرهما وابتلائهما .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا سقيم ولا صحيح عن رسول الله
r ، وليس هو شيئاً يؤخذ بقياس .
والذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه ، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف كما سنذكره  وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم ، كما نصه الله أول الآيات من افترائهم بذلك على سليمان         وتكفيرهم إياه .وقد انطوت القصة على شنع عظيمة . وها نحن نخبر في ذلك ما يكشف غطاء هذه الإشكالات إن شاء الله. 

فاختلف أولاً في هاروت وماروت ، هل هما ملكان أو إنسيان ؟ وهل هما المراد بالملكين أم لا ؟ وهل القراءة ملكين أو ملكين ؟ وهل ما في قوله تعالى: (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) (البقرة 102 ) وقوله:( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ) (البقرة  102 )   نافية أو موجبة ! .
فأكثر المفسرين أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين لتعليم السحر وتبيينه ، وأن عمله كفر ، فمن تعلمه كفر ، ومن تركه آمن ، وقال الله تعالى :( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ) (البقرة  102 )   وتعليمها الناس له تعليم إنذار ، أي يقولان لمن جاء يطلب تعلمه : لا تفعلوا كذا : فإنه يفرق بين المرء وزوجه ، ولا تتحيلوا بكذا ، فإنه سحر ، فلا تكفروا .
فعلى هذا فعل الملكين طاعة ، وتصرُّفهماً فيما أمرا به ليس بمعصية ، وهي لغيرهما فتنة .
وروى ابن وهب ، عن خالد بن أبي عمران ـ أنه ذكر عنده هاروت وماروت ، وأنهما يعلمان السحر ، فقال : نحن ننزههما عن هذا .
فقرأ بعضهم : (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) . فقال خالد : لم ينزل عليهما .
فهذا خالد على جلالته وعلمه نزههما عن تعليم السحر الذي قد ذكر غيره أنهما مأذون لهما في تعليمه بشريطة أن يبينا أنه كفر ، ، وأنه امتحان من الله وابتلاء ، فكيف لا ينزههما عن كبائر المعاصي والكفر المذكورة في تلك الأخبار .
و قول خالد :  لم ينزل : يريد أن ما نافية ، وهو قول ابن عباس ، قال مكي : وتقدير الكلام : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) ـ يريد بالسحر الذي افتعلته الشياطين ، فاتبعتهم في ذلك اليهود ، : (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، قال مكي : هما جبريل وميكائيل :
ادعى اليهود عليهما المجيء به ، كما ادعوا على سليمان ، فأكذبهم الله في ذلك .
َ(ولَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر) (البقرة : 102 )    َببابل، هاروت وماروت قيل : هما رجلان تعلماه .

قال الحسن : هاروت وماروت علجان من أهل بابل ، وقرأ : (وما أنزل على الملِكين) ـ بكسر اللام ،      وتكون   ما  ايجاباً على هذا .
وكذلك قراءة عبد الرحمن بن أبزى ـ بكسر اللام ، ولكنه قال : الملكان هنا داود وسليمان ، وتكون  ما  نفياً على ما تقدم .وقيل : كانا ملِكين من بني اسرائيل ، فمسخهما الله ، حكاه السمرقندي .

والقراءة بكسر اللام شاذة ، فحمل الآية على تقدير أبي محمد مكي حسن ينزه الملائكة ويذهب الرجس عنهم ، ويطهرهم تطهيراً .

وقد وصفهم الله مطهرون ، وكرام بررة ، ولا يعصون الله ما أمرهم .
ومما يذكرونه قصة إبليس ، وأنه كان من الملائكة ورئيساً فيهم ، ومن خزان الجنة ... إلى آخر ما حكوه وأنه استثناه من الملائكة بقوله : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة : 34 )
وهذا أيضاً لم يتفق عليه ، بل الأكثر ينفون ذلك ، وأنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو الإنس ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، وابن زيد .

وقال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض حين أفسدوا ، والاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب سائغ ، وقد قال الله تعالى : (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ  ) (النساء : 157 ) [ سورة النساء / 4 ، الآية : 157 ] .
ومما رووه من الأخبار أن خلقاً من الملائكة عصوا الله فحُرِّقوا ، وأمروا أن يسجدوا لأدم فأبوا فحُرِّقوا ، ثم آخرون كذلك ، حتى سجدَ له مَن ذكرَ اللهُ إلا إبليس ، في أخبار لا أصل لها تردُّها صحاح الأخبار ، فلا يُشتَغل بها . و الله أعلم .

 


                                  
الباب الثاني

             فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم من العوارض البشرية

وفــــيــــه  9  فـــصــول

1-حال الأنبياء بالنسبة للعوارض البشرية

2- الأخبار التي وردت في أنه r سُحِر

3- في أحواله r في أمور الدنيا

4- فيما يعتقد من أمور أحكام البشر الجارية على يديه  r

5- أقوالهr   الدنيوية من أخباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله

6- في معنى الحديث في وصيته r

7- في وجه حديث : إنما محمد بشر ...

8- في أفعاله  r الدنيوية

9- بيان الحكمة في إجراء الأمراض وشدتها عليه  rوعلى غيره من الأنبياء

                                     الفصل الأول

                          حال الأنبياء بالنسبة للعوارض البشرية

 قد قدمنا أنه  rوسائر الأنبياء والرسل من البشر ، وأن جسمه ، وظاهره خالص للبشر ، يجوز عليه من الآفات والتغييرات ، والآلام والأسقام ، وتجرع كأس الحِمام ما يجوز على البشر ، وهذا كله ليس بنقيصة فيه ، لأن الشيء إنما يسمى ناقصاً بالإضافة إلى ما هو أتم وأكمل من نوعه ، وقد كتب الله تعالى على أهل هذه الدارـ قَالَ : (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) (الأعراف : 25 )، ، وخلق جميع البشر بمدرجة الغير ، فقد مرض r، واشتكى ، وأصابه الحر والقر ، وأدركه الجوع والعطش ، ولحقه الغضب والضجر ، وناله الإعياء والتعب ، ومسه الضعف والكبر ، وسقط فجحش شقه ، وشجه الكفار ، وكسروا رباعيته ، وسقي السم ، وسحر ،  وتداوى ، واحتجم ، وتنشر وتعوذ ، ثم قضى نحبه فتوفي r ، ولحق بالرفيق الأعلى ، وتخلص من دار الامتحان والبلوى ، وهذه سمات البشر التي لا محيص عنها ، وأصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه ، فقُتِلوا قتلاً .
ورموا في النار ، ونُشروا بالمياشير . ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات . ومنهم من عصمه كما عصم بعد نبينا من الناس ، فلئن لم يكْف نبينا ربه يد ابن قميئة يوم أحد ، ولا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف ، فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور ، وأمسك عنه سيف غورث ،     وحجر أبي جهل ، وفرس سراقة ، ولئن لم يقِه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم ، من سم اليهودية .
وهكذا سائر أنبيائه مبتلى ومعافى ، وذلك من تمام حكمته ، ليظهر شرفهم في هذه المقامات ، ويبين أمرهم  ويتم كلمته فيهم ، وليحقق بامتحانهم بشريتهم ، ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم ، وليكون في محنهم تسلية لأممهم ،      ووفور لأجورهم عند ربهم تماماً على الذي أحسن إليهم .
قال بعض المحققين : وهذه الطوارئ والتغيرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ، ومعاناة بني آدم لمشاكلة الجنس .
وأما بواطنهم فمنزهة غالباً عن ذلك معصومة منه ، متعلقة بالملأ الأعلى والملائكة لأخذها عنهم ،        وتلقيها الوحي منهم .
قال : وقد قال
r: إن عيني تنامان و لا ينا م قلبي .
وقال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يُطعمني ربي و يَسقيني .
وقال : لست أَنسى ، و لكن أُنسى ، ليستن بي .
فأخبر أن سره وباطنه وروحه بخلاف جسمه وظاهره ، وأن الآفات التي تحل ظاهره من ضعف وجوع ،    وسهر ونوم ، لا يحل منها شيء باطنه ، بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن ، لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه وقلبه ، وهو
r في نومه حاضر القلب كما هو في يقظته حتى قد جاء في بعض الآثار أنه كان محروساً من الحدث في نومه لكون قلبه يقظان كما ذكرناه .
وكذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه ، وخارت قوته ، فبطلت بالكلية جملته ، وهو
r قد أخبر أنه لا يعتريه ذلك ، وأنه بخلافهم ، لقوله : لست كهيئتكم : إني أبيت يُطعمني ربي و يَسقيني .
و كذلك أقول : إنه في هذه الأحوال كلها ، من وصب ومرض ، وسحر وغضب ، لم يجز على باطنه ما يحل به ، ولا فاض منه على لسانه وجوارحه ما لا يريق به ، كما يعتري غيره من البشر مما نأخذ بعد في بيانه .

الفصل الثاني
الأخبار التي وردت في أنه
r سُحِر

فإن قلت : فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه r سُحِر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتابي بقراءتي عليه ، قال : حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن خلف ، حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبيد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سُحر رسول الله r حتى إنه ليُخَيَّل إليه أنه فعل الشيء وما فعله .

وفي رواية أخرى : حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن .. الحديث .
وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور فكيف حال النبي
r في ذلك ؟ وكيف جاز عليه ـ وهو معصوم ؟ .

فاعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، وقد طعنت فيه الملحدة ، وتدرعت به لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع ، وقد نزه الله الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبسأً وإنما السحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته .

وأما ما ورد أنه كان يُخَيَّل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخله في شيء من تبلغيه أوشريعته ، أو يقدح في صدقه ، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا ، وإنما هذا ، فيما يجوز طروءه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ، ولا فضل من أجلها ، وهو فيها للأفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه ، كما كان .
وأيضاً فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله : حتى يُخَيَّل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن .
وقد قال سفيان ـ وهذا أشد ما يكون من السحر ، ولم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ولم يفعله ، وإنما كانت خواطر وتخيلات .
وقد قيل : إن المراد بالحديث أنه : كان يتخيل الشيء أنه فعله ، وما فعله ، لكنه تخييل لا يعتقد صحته ، فتكون اعتقاداته كلها على السداد ، وأقواله على الصحة .
هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحناه من معنى كلامهم ، وزدناه بياناً من تلويحاتهم . وكل وجه منها مقنع ، لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث ، وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وقال فيه عنهما : سحر يهود بني زريق رسول الله
r ، فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله   rأن ينكر بصره ، ثم دله الله على ما  صنعوا فاستخرجه من البئر .

 وروي نحوه عن ، عن الواقدي ، وعن عبد الرحمن بن كعب ، وعمر بن الحكم  .
وذكر عن عطاء الخرساني ، عن يحيى بن يعمر : حبس رسول الله
r عن عائشة سنة ، فبينا هو نائم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ... الحديث .
قال عبد الرزاق : حبس رسول الله
r عن عائشة خاصة سنة حتى أنكر بصره .

 وروى محمد بن سعد ، عن ابن عباس : مرض رسول الله r ، فحبس عن النساء والطعام والشراب ، فهبط عليه ملكان ... وذكر القصة  .
فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه   ، لا على قلبه     واعتقاده وعقله ، وأنه إنما أثر في بصره ، وحبسه عن وطء نسائه ، وطعامه ، وأضعف جسمه وأمرضه   ويكون معنى قوله : يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن ، أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء ، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر ، فلم يقدر على إتيانهن ، كما يعتري من أخذ واعترض .
ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله : وهذا أشد ما يكون من السحر . ويكون قول عائشة في الرواية الآخرى : إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله ، من باب ما اختل من بصره ، كما ذكر في الحديث ، فيظن أنه رأى شخصاً من بعض أزواجه ، أو شاهد فعلاً من غيره ، ولم يكن على ما يحيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره ، لا لشيء طرأ عليه في ميزه .
وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابته السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبساً ولا يجد به الملحد المعترض أنساً .

الفصل الثالث
في أحواله
r في أمور الدنيا

هذه حاله في جسمه ، فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسبرها على أسلوبنا المتقدم بالعقد والقول والفعل:  
-أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه ، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع ، كما حدثنا أبو بحر سفيان بن العاصي وغير واحد سماعاً وقراءة ، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر ، ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد بن عمرويه ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبد الله بن الرومي ، وعباس العنبري ، وأحمد المعقري ، قالوا : حدثنا النضر بن محمد ، قال : حدثني عكرمة ، حدثنا أبو النجاشي ، قال : حدثنا رافع بن خديج ، قال : قدم رسول الله
r المدينة وهم يأبرون النخل ، فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه . قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً ، فتركوه ، فنقصت ، فذكروا ذلك له ، فقال : إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر .

وفي رواية أنس : أنتم أعلم بأمر دنياكم .

وفي حديث آخر : إنما ظننت ظناً ، فلا تؤاخذوني بالظن .

وفي حديث ابن عباس في قصة الخرص ، فقال رسول الله r: إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطيء وأصيب .

وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها ، لا ما قاله من قبل نفسه    واجتهاده في شرع شرعه ، وسُنة سنَّها .

وكما حكى ابن إسحاق أنه r  لما نزل بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟
قال :  لا ، بل هو الرأي والحرب والمكيدة  . قال : فإنه ليس بمنزل ، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نعور ما وراءه من القِلَب ، فنشرب ولا يشربون . فقال :  أشرت بالرأي  ، وفعل ما قاله .وقد قال له الله تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)   (آل عمران : 159 ).
وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمر المدينة ، فاستشار الأنصار . فلما أخبروه برأيهم رجع عنه .
فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها ، يجوز عليه    فيها ما ذكرناه ، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة ، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها ،     وجعلها همة ،وشغل نفسه بها ،والنبي
r مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة ، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية ، ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ، ويجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها ، لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة .
وقد تواتر بالنقل عنه
r من المعرفة بأمور الدنيا و دقائق مصالحها ، وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبَّهْنا عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب .

تافصل الرابع
 فيما يعتقد من أمور أحكام البشر الجارية على يديه
 r

وأما ما يعتقد في أمور أحكام البشر الجارية على يديه ، وقضاياهم ، ومعرفة المحق من المبطل ، وعلم المصلح من المفسد ، فبهذه السبيل ، لقوله r : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً ، فإنما أقطع له قطعة من النار .

*حدثنا الفقيه أبو الوليد رحمه الله ، حدثنا الحسين بن محمد الحافظ ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا أبو محمد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قال رسول الله r... الحديث .

وفي رواية الزهري ، عن عروة : فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه صادق فأقضي له .

وتجري أحكامه r على الظاهر وموجب غلبات الظن بشهادة الشاهد ، ويمين الحالف ، ومراعاة الأشبه ، ومعرفة العِفاص والوِكاء ، مع مقتضى حكمة الله في ذلك ، فإنه تعالى لو شاء لأطلعه على سرائر عباده  ومخبآت ضمائر أمته ، فتولى الحكم بينهم بمجرد يقينه وعلمه دون حاجة إلى اعتراف أو بينة أو يمين أو شبهة ، ولكن لما أمر الله أمته باتباعه والإقتداء به في أفعاله وأحواله وقضاياه وسِيَره ، وكان هذا لو كان مما يختص بعلمه ويؤثره الله به ، لم يكن للأمة سبيل إلى الاقتداء به في شيء من ذلك ، ولا قامت حجة بقضية من قضاياه لأحد في شريعته ، لأنا لا نعلم ما أطلع عليه هو في تلك القضية لحكمه هو إذاً في ذلك بالمكنون من إعلام الله له بما أطلعه عليه من سرائرهم ، وهذا ما لا تعلمه الأمة ، فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم التي يستوي في ذلك هو وغيره من البشر ، ليتم اقتداء أمته به في تعيين قضاياه ، وتنزيل أحكامه ، ويأتون ما أتوا من ذلك على علم ويقين من سنته ، إذ البيان بالفعل أوقع منه بالقول ،   وأدفع لاحتمال اللفظ وتأويل المتأول ، وكان حكمه على الظاهر أجلى في البيان ، وأوضح في وجوه الأحكام  وأكثر فائدة لموجبات التشاجر والخصام ، وليقتدي بذلك كله حكام أمته ، ويستوثق بما يؤثر عنه ،         وينضبط قانون شريعته ، وَطيُّ ذلك عنه من علم الغيب الذي استأثر به (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * ) ( الجن 26-28)  فيعلمه منه بما شاء ، ويستأثر بما شاء ، ولا يقدح هذا في نبوته ، ولا يفصم عروة عن عصمته .

الفصل الخامس
أقواله
r   الدنيوية من أخباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله

وأما أقواله الدنيوية من أخباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله ـ فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال ، وعلى أي وجه ، من عمد أو سهو ، أو صحة أو مرض ، أو رضا أو غضب ،  وأنه معصوم منه r  .


هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق والكذب ، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه
r    في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة ، كتوريَّته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدو جذره .وكما روي من ممازحته ودعابته لبسط أمته وتطييب قلوب المؤمنين من صحابته ، وتأكيداً في تحببهم ومسرة نفوسهم ، كقوله : لأحملنك على ابن الناقة . وقوله للمرأة التي سألته عن زوجها : أهو الذي بعينه بياض .

وهذا كله صدق ، لأن كلَّ جملٍ ابنُ ناقة ، وكلَّ إنسانٍ بعينه بياض وقد قال r  : إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً .

هذا كله فيما بابه الخبر ، فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر والنهي في الأمور الدنيوية فلا يصح منه أيضاً ، ولا يجوز عليه أن يأمر أحداً بشيء أو ينهي أحداً عن شيء وهو يبطن خلافه .
وقد قال
r   : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، فكيف أن تكون له خيانة قلب .

فإن قلت : فما معنى إذاً قوله تعالى في قصة زيد رضي الله عنه :( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ  ) (الأحزاب : 37 )

فاعلم ـ أكرمك الله ، ولا تَسْتَرِب في تنزيه النبي r   عن هذا الظاهر
وأن يأمر زيداً بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها ، كما ذكر عن جماعة من المفسرين .
وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين ـ أن الله تعالى كان أعلم نبيَّه أن زينب رضي الله عنها  ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد قال له :( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) . وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج بعد تطليق زيد لها .

وروى نحوه عمرو بن فائد ، عن الزهري ، قال : نزل جبريل على النبي يُعْـلِمُه أن الله يزوجه زينب بنت جحش ، فذلك الذي أخفى في نفسه ويصحح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا : (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (الأحزاب  37 ) ، أي لا بُد لك  أن تتزوجها .
ويوضح هذا أن الله لم يُـبْدِ من أمره معها غير زواجه لها ، فدل أنه الذي أخفاه
r   مما كان أعلمه به تعالى .

وقوله تعالى في القصة : (مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً) (الأحزاب : 38 )
فدل أنه لم يكن عليه حرج في الأمر .


-قال الطبري : ما كان الله ليُؤثِّم نبيَّه فيما أحل مثال فعله لمن قبله من الرسل ، قال الله تعالى : (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا ) (الأحزاب : 38+62 )، أي من النبيين فيما أحل لهم ، ولو كان على ما روي في حديث قتادة من وقوعها من قلب النبي
r عندما أعجبته ، ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج ، وما لا يليق به من مدِّ عينيه لما نُهِيَ عنه من زهرة الحياة الدنيا ، ولكان هذا نفس الحسد المذموم الذي لا يرضاه ولا يتسم به الأتقياء ، فكيف سيد الأنبياء ؟ .

قال القشيري : وهذا إقدام عظيم من قائله ، وقِلة معرفة بحق النبي  rوبفضله .
وكيف يقال:رآها فأعجبته وهي بنت عمه ،ولم يزل يراها منذ ولدت ،ولا كان النساء 
يحتجبن منه
r، وهو زوَّجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها ، وتزويج النبي r إياها ، لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته ، كما قال تعالى : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الأحزاب : 40 ) . وقال : (  لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (الأحزاب : 37 ).

ونحوه لابن فورك .

وقال أبو الليث السمرقندي : فإن قيل : فما الفائدة في أمر النبي صلى الله عليه و سلم لزيد بإمساكها ؟ فهو أن الله أعلم نبيه أنها زوجته ، فنهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن طلاقها ، إذ لم تكن بينهما ألفة ، و أخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس : يتزوج إمرأة ابنه ، فأمره الله بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته ، كما قال تعالى :( لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (الأحزاب : 37 )

وقد قيل : كان أمره لزيد بإمساكها قمعاً للشهوة ، ورداً للنفس عن هواها . وهذا إذا جوزنا عليه أنه رآها فجأة واستحسنها . ومثل هذا لا نكرة فيه ، لما طبع عليه ابن آدم من استحسانه للحسن ، ونظرة الفجاءة معفو عنها ، ثم قمع نفسه عنها ، وأمَر زيداً بإمساكها ، وإنما تُنكر تلك الزيادات في القصة .

والتعويل والأولى ما ذكرناه عن علي بن حسين ، وحكاه السمرقندي ، وهو قول ابن عطاء ، وصححه    واستحسنه القاضي القشيري ،  وعليه عول أبو بكر بن فورك ، وقال : إنه معنى ذلك عند المحققين من أهل التفسير ، قال : والنبي r منزه عن استعمال النفاق في ذلك ، وإظهار خلاف ما في نفسه ، وقد نزهه الله عن ذلك بقوله تعالى :( (مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً) (الأحزاب : 38 ) ، ومن ظنَّ ذلك بالنبي r فقد أخطأ 
قال : وليس معنى الخشية هنا الخوف ، وإنما معناه الاستحياء ، أي يستحي منهم أن يقولوا : تزوج زوجة ابنه  .وأن خشيته
r من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود وتشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان ، فعتبة الله على هذا ، ونزهه عن الالتفاف إليهم فيما أحله له ، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التحريم : 1 ) . وكذلك قوله له ها هنا : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ  ) (الأحزاب : 37 ).

وقد روي عن الحسن وعائشة : لو كتم رسول الله r شيئاً كتم هذه الآية لما فيها من عَـتْـبه  وإ بْداء ما أخفاه .

الفصل السادس
في معنى الحديث في وصيته
r

فإن قلت : قد قررت عصمته r في أقواله في جميع أحواله ، وأنه لا يصح منه فيها خلف ولا اضطراب في عمد ولا سهو ، ولا صحة ولا مرض ، ولا جد ولا هزل ، ولا رضا ولا غضب . ولكن ما معنى الحديث في وصيته r الذي حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو محمد ، وأبو الهيثم ، وأبو إسحاق ، قالوا : حدثنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا عبد الرزاق ابن همام ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما حضر رسول الله r وفي البيت رجال فقال النبي r  : هلموا أكتب كتاباً لن تضلوا بعده .فقال بعضهم : أن رسول الله r قد غلبه الوجع ... الحديث .

-وفي رواية : ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فتنازعوا فقالوا : ما له أهجَر ! استفهموه ، فقال : دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير .

-وفي بعض طرقه : أن النبي r يهجُر .

-وفي رواية : هجر . و يروى : أهُجْرٌ . و يروى : أهُجْراً .

-وفيه فقال عمر : إن النبي r قد اشتد به الوجع ، وعندنا كتاب الله ، حسبنا .
وكثر اللغط ، فقال : قوموا عني .

-وفي رواية : واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله r كتاباً .
ومنهم من يقول ما قال عمر .

*قال أئمتنا في هذا الحديث : النبي r غير معصوم من الأمراض ، وما يكون من عوارضها من شدة وجع وغشي ونحوه مما يطرأ على جسمه ، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ، ويؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان واختلال كلام .
وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث : هجَر إذ معناه هذى يقال : هجر هُجراً ، إذا هذى . وأهجر هُجراً ، إذا أفحش ، وأهجَر تعديةُ هجَر ، وإنما الأصح والأولى أهجر ، على طريق الإنكار على من قال : لا نكتب .

وهكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة في حديث الزهري المتقدم ، وفي حديث محمد بن سلام ، عن عيينة ، وكذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه ، وغيره من هذه الطرق ، و كذا رويناه عن مسلم في حديث سفيان ، وعن غيره .
وقد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام ، والتقدير :
أهجر ، أو أن يحمل قول القائل هجر أو أهجر دهشة من قائل ذلك وحيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول
r، وشدة وجعه ، وهو المقام الذي اختلف فيه عليه ، والأمر الذي هم بالكتاب فيه ، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه ، وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر ، كما حملهم الإشفاق على حراسته ، و الله تعالى يقول : ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ  ) (المائدة : 67 ) ، ونحو هذا .

وأما على رواية : أَهُجْراً ـ وهي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير ، عن ابن عباس ، من رواية قتيبة ـ فقد يكون هذا راجعاً إلى المختلفين عنده r، ومخاطبة لهم من بعضهم ، أي جئتم باختلافكم على رسول الله r وبين يديه ـ هُجراً ومنكراً من القول .
والهُجر ـ بضم الهاء : الفحش في المنطق .

وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث ، وكيف اختلفوا بعد أمرهr لهم أن يأتوه بالكتاب ، فقال بعضهم  أوامر النبي r يفهم إجابها من ندبها من إباحتها بقرائن ، فلعله قد ظهر من قرائن قوله r لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عَزْمَة ، بل أمرٌ ردّه إلى اختيارهم ، وبعضهم لم يفهم ذلك ، فقال : استفهموه ، فلما اختلفوا كف عنه ، إذا لم يكن عزمة ، ولما رأوه من صواب رأي عمر ، ثم هؤلاء قالوا ويكون امتناع عمر إما إشفاقاً على النبي r من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب ، أو تدخل عليه مشقة من ذلك ، كما قال : أن النبي r اشتد به الوجع .

وقيل : خشي عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ، ورأى أن الأرفَق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد ، وحكم النظر ، وطلب الصواب ، فيكون المصيب والمخطيء مأجوراً .
وقد علم عمر تقرر الشرع ، وتأسيس الملة ، وأن الله تعالى قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً  ) (المائدة : 3 ). وقوله
r أوصيكم بكتاب الله وعترتي .
وقول عمر : حسبنا كتاب الله ـ رد على من نازعه ، لا على أمر النبي
r.
وقد قيل : إن عمرخشِيَ تطرُّقَ المنافقين ومن في قلبه مرض لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة ، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك .

 وقيل : إنه كان من النبي r لهم على طريق المشورة والاختيار . هل يتفقون على ذلك أم يختلفون ؟ فلما اختلفوا تركه  .

وقالت طائفة أخرى : إن معنى الحديث أن النبي r كان مجيباً في هذا الكتاب لما طلب منه ، لا أنه ابتدأ بالأمر به ، بل اقتضاه منه بعض أصحابه ، فأجاب رغبتهم ، و كره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها .
واستدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي : انطلق بنا إلى رسول الله
r ، فإن كان الأمر فينا علمناه  وكراهة علي هذا ، وقوله : والله لا أفعل ... الحديث .
واستدل بقوله : دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير ، أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر وترككم وكتاب الله  وأن تدعوني مما طلبتم .

وذكر أن الذي طلب كتابه أمر الخلافة بعده ، وتعيين ذلك .

 الفصل السابع
   في وجه حديث : إنما محمد بشر ...

فإن قيل : فما وجه حديثه أيضاً الذي حدثناه الفقيه أبو محمد الخشني بقراءتي عليه ، حدثنا أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، قال : حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا قتيبة ،حدثنا ليت ،عن سعيد بن أبي سعيد ،عن سالم مولى النصريين ،قال :سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله r يقول  : اللهم إنما محمد بشر ، يغضب كما يغضب البشر ، وإني قداتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها كفارةً له ، وقربةً تقربُه بها إليك يوم القيامة .

وفي رواية : فأيُّما أحدٍ دعوتُ عليه دعوة .

وفي رواية : ليس لها بأهل .

وفي رواية : فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلْها له زكاةً وصلاةً ورحمةً .

وكيف يصح أن يلعن النبي r من لا يستحق اللعن ، ويسب من لا يستحق السب ، ويجلد من لا يستحق الجلد ، أو يفعل مثل ذلك عند الغضب ، وهو معصوم عن هذا كله ؟ .
فاعلم ـ شرح الله صدرك ـ أن قوله
r أولاً : ليس لها بأهل ، أي عندك يا رب ، في باطن أمره ، فإن حكمه r على الظاهر ، كما قال : وللحكمة التي ذكرناها ، فحكم r بجلده ، أو أدبه بسبه أو لعنه بما افتضاه عنده حال ظاهره ، ثم دعا r لشفقته على أمته ، ورأفته ورحمته له مؤمنين ، التي وصفه الله بها ، وحذره أن يتقبل الله فيمن دعا عليه دعوة ـ أن يجعل دعاءَه ولعنَه له رحمة ، فهو معنى قوله : ليس لها بأهل ، لا أنه r يحمله الغضب ويستفزه الضَّجر لأن يفعل مثل هذا بمن لا يستحقه من مسلم .
وهذا معنى صحيح ، ولا يفهم من قوله : أغضب كما يغضب البشر ـ أن الغضب حمله على ما لا يجب فعله ، بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه ، وأنه مما كان يحتمل ويجوز عفوه عنه ، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه والعفو عنه .
وقد يحمل على أنه خرج مخرج الإشفاق و تعليم أمته الخوف و الحذر من تعدي حدود الله تعالى .
وقد يحمل ما ورد من دعائه هنا ، و من دعواته على غير واحد في غير موطن ، على غير العقد        والقصد ، بل بما جرت به عادة العرب ، وليس المراد بها الإجابة ، كقوله
r  : تربت يمينك .
ولا أشبع ا لله بطنك .   وعقري حلقي . وغيرها من دعواته .
وقد ورد في صفته في غير حديث ـ أنه  
r لم يكن فحاشاً وقال أنس لم يكن سباباً ، ولا فاحشاً ، ولا لعاناً ، وكان يقول لأحدنا عند المعتبة ، ما له .. ترب جبينه ! .
فيكون حمل الحديث على هذا المعنى ، ثم أشفق  
r من موافقة أمثالها إجابة ، فعاهد ربه ، كما قال في الحديث ، أن يجعل ذلك للمقول زكاة ورحمة وقربة .
وقد يكون ذلك إشفاقاً على المدعو عليه ، وتأنيساً له ، لئلا يلحقه من استشعار الخوف والحذر من لعن النبي  
r، و تقبل دعائه ، ما يحمله على اليأس والقنوط .
وقد يكون ذلك سؤالاً منه لربه لمن جلده ، أو سبه على حق وبوجه صحيح أن يجعل ذلك له كفارةً لما أصابه ، وتمحيةً لما اجترم ، وأن تكون عقوبته له في الدنيا سبب العفو والغفران ، كما جاء في الحديث الآخر : ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة .
فإن قلت : فما معنى حديث الزبير وقول النبي
r  حين تخاصمه مع الأنصاري في شِراج الحرة : اسق يا زبير حتى يبلغ الكعبين . فقال له الأنصاري : إن كان ابن عمتك يا رسول الله ! فتلون وجه رسول الله  r، ثم قال : اسق يازبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر . . الحديث .
فالجواب أن النبي  
r منزه أن يقع بنفس مسلم منه في هذه القصة أمر يريب ، و لكنه  r   ندب الزبير أولاً إلى الاقتصار على بعض حقه على طريق التوسط والصلح ، فلما لم يرض بذلك الآخر ، ولجَّ وقال ما لا يجب استوفى النبي  r للزبير حقه .
ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث : باب . إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم .
وذكر في آخر الحديث : فاستوفى رسول الله
r  حينئذ للزبير حقه .
وقد جعل المسلمون هذا الحديث أصلاً في قضيته .
وفيه الاقتداء به  
r في كل ما فعله في حال غضبه ورضاه ، وأنه ـ وإن نهى أن يقضي القاضي وهو غضبان ، فإنه في حكمه في حال الغضب والرضا سواء لكونه فيهما معصوماً . وغضب النبي  r  في هذا إنما كان لله تعالى لا لنفسه، كما جاء في الحديث .

وكذلك الحديث في إقادته عكاشة من نفسه لم يكن لتعد حمله الغضب عليه ، بل وقع في الحديث نفسه أن عكاشة قال له : وضربتني بالقضيب ، فلا أدري أعمداً ، أم أردت ضرب الناقة ؟ فقال النبي  r   : أعيذك بالله يا عكاشة أن يتعمدك رسول الله .

وكذلك في حديثه الآخر مع الأعرابي حين طلب  r الاقتصاص منه ، فقال الأعرابي قد عفوت عنك .     وكان النبي  r قد ضربه بالسوط لتعلقه بزمام ناقته مرة بعد أخرى ، و النبي  r ينهاه و يقول له : تدرك حاجتك ، و هو يأبى ، فضربه بعد ثلاث مرات .
وهذا منه  
r لمن لم يقف عند نهيه صواب وموضع أدب ، لكنه  r :أشفق إذ كان حق نفسه من الأمر حتى عفا عنه .

وأما حديث سواد بن عمرو : أتيت النبي  r وأنا متخلق ، فقال  r : وَرْسٌ ، ورس ... حُطَّ ، حط ... وغشيني بقضيب في يده في بطني فاوجعني .
قلت : القصاص يا رسول الله . فكشف لي عن بطنه.
و إنما ضربه  
r لمنكر رآه به ، ولعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه ، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه على ما قدمنا .

الفصل الثامن
 في أفعاله  
r الدنيوية

وأما أفعاله r الدنيوية فحكمه فيها من تَوَقّي المعاصي والمكروهات ما قد قدمناه ، ومن جواز السهو والغلط في بعضها ما ذكرناه .
وكله غير قادح في النبوة ، بل إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد والصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات والقرَب على ما بينا إذ كان
r لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورتة ،    وما يقيم رمق جسمه ، وفيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، ويقيم شريعته ، ويسوس أمته ، وما كان فيما بينه وبين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر  يوسعه ، أوكلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ،أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، وكل هذا لاحق بصالح أعماله ، متتظم في زاكي وظائف عباداته ، وقد كان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الاحوال ، ويعد للأمور أشباهها ، فيركب ـ في تصرفه لما قرب ـ الحمار ، وفي أسفاره الراحلة ، ويركب البغلة في معارك الحرب دليلاً على الثبات ، ويركب الخيل ويعدها ليوم الفزع وإجابه الصارخ .

وكذلك في لباسه و سائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه ومصالح أمته .

وكذلك يفعل الفعل في أمور الدنيا مساعدة لأمته وسياسة وكراهية لخلافها وإن كان قد يرى غيره خيراً منه  كما يترك الفعل لهذا ، وقد يرى فعله خيراً منه وقد يفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد     وجهيْه ، كخروجه من المدينة لاحد ، وكان مذهبه التحصن بها ، وتركه قتل المنافقين ، وهو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، ورعاية للمؤمنين من قرابتهم ، وكراهة لأن يقول الناس : إن محمداً يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ، وتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش وتعظيمهم لتغييرها ، وحذراً من نفار قلوبهم لذلك ، وتحريك متقدم عداوتهم للدين وأهله ، فقال لعائشة في الحديث الصحيح : لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم .
ويفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيراً منه ، كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من قريش ،    وقوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي .
وبسط وجهه للكافر والعدو رجاء استئلافه .
ويصبر للجاهل ، ويقول : إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره . ويبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته ودين ربه . ويتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، ويتسمت في ملئه ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، وحتى كأن على رؤوس جلسائه الطير ، ويتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويضحك مما يضحكون منه ، قد وسع الناس بشره وعدله ، لا يستفزه الغضب ، ولا يقصر عن الحق ولا يبطن على جلسائه ، يقول : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين .
فإن قلت : فما معنى قوله لعائشة رضي الله عنها في الداخل عليه : بئس ابن العشيرة . فلما دخل ألان له القول وضحك معه ، فلما خرج سألته عن ذلك، فقال: إن من شرالناس من اتقاه الناس لشره .
وكيف جاز أن يظهر لهما خلاف ما يبطن ، ويقول في ظهره ما قال ؟
فالجواب أن فعله
r كان استئلافاً لمثله ، وتطييباً لنفسه ، ليتمكن إيمانه ، ويدخل في الإسلام بسبب أتباعه ، ويراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . ومثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . وقد كان النبيr  يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ .
قال صفوان : لقد أعطاني وهو أبغض الخلق  إلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي .
وقوله فيه : بئس ابن العشيرة ـ هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ،    ويحترز منه ، ولا يوثق بجانبه كل الثقة ولا سيما وكان مطاعاً متبوعاً .
ومثل هذا إذا كان لضرورة ودفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزاً ، بل واجباً في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة والمزكين في الشهود .

فإن قيل : فما معنى المفضل الوارد في حديث بريرة من قوله r لعائشة ، وقد أخبرته أن موالي بريرة أبَوْا بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال r : اشتريها واشترطي لهم الولاء .
ففعلت ، ثم قام خطيباً ،فقال : ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل والنبي
r قد أمرها بالشرط لهم ، وعليه باعوها ، ولولاه ـ والله أعلم ـ لما باعوها من عائشة ، كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله r ، وهو قد حرم الغش والخديعة .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن النبي
r منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ، ولتنزيه النبي r عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله : اشترطي لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق ا لحديث ، ومع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع لهم بمعنى عليهم ، قال الله تعالى :( أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ  ) (الرعد : 25 ) . وقال : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا )  . (الإسراء : 7 )
فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، ويكون قيام النبي
r ووعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك .

ووجه ثاني : أن قوله r: اشترطي لهم الولاء ،ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية والإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعم بعد بيان النبي r  لهم قبل أن الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع .
وإلى هذا ذهب الداودي وغيره ، وتوبيخ النبي
r  لهم ، وتقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا  
الوجه الثالث : أن معنى قوله : اشترطي لهم الولاء ، أي أظهري لهم حكمه ، و بيني سنتة بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو صلى الله عليه و سلم مبيناً ذلك و موبخاً على مخالفة ما تقدم منه فيه  
فإن قيل : فما معنى فعل يوسف عليه السلام بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله وأخذه باسم سرقتها ، وما جرى علىإخوته في ذلك و قوله تعالى :( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف : 70 )، و لم يسرقوا .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن الآية تدل على أن فعل يوسف كان عن أمر الله ، لقوله تعالى :( َذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف : 76 )

فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه .

وأيضاً فإن يوسف كان أعلم أخاه: (قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (يوسف : 69 )، فكان ما جرى عليه بعد هذا من وفقه ورغبته ، وعلى يقين من عقبى الخير له به ، وإزاحة السوء والمضرة    عنه بذلك .وأما قوله :( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف : 70 )، فليس من قول يوسف . فيلزم عليه جواب لحل شبهه . ولعل قائله إن حسن له التأويل كائناً من كان ظن على صورة الحال ذلك وقد قيل قال ذلك لفعلهم قبل بيوسف وبيعهم له وقيل غير هذا : ولا يلزم أن نُقَوِّل الأنبياءَ ما لم بأت أنهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، ولا يلزم الاعتذار عن زلات غيرهم .

الفصل التاسع
بيان الحكمة في إجراء الأمراض وشدتها عليه
 rوعلى غيره من الأنبياء

فإن قيل : فما الحكمة في إجراء الأمراض وشدتها عليه r وعلى غيره من الأنبياء على
جميعهم السلام ؟ وما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء ، وامتحانهم بما امتحنوا به كأيوب ، ويعقوب    ودانيال ، ويحيى ، وزكريا ، وعيسى ، وإبراهيم ، ويوسف ، وغيرهم ، صلوات الله عليهم ، وهم خيرته من خلقه واحباؤه وأصفياؤه ؟

فاعلم ـ وفقنا الله وإياك ـ أن أفعال الله تعالى كلها عدل ، وكلماته جميعها صدق لا مبدل لكلماته ، يبتلي عباده كما قال تعالى لهم :( لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس : 14 ).

وقال : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ( سورة هود 7 )+ (الملك  2 )

وقال : (وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ  ) (آل عمران : 140 ).

وقال : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران : 142 ).

وقال : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد : 31 ).

فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم ، ورفعه في درجاتهم ، وأسباب لاستخراج حالات الصبر والرضا ، والشكر والتسليم ، والتوكل ، والتفويض ، والدعاء ، والتضرع منهم ، وتأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين ، والشفقة على المبتلين ، وتذكرة لغيرهم ، وموعظة لسواهم ليتأسوا في البلاء بهم ، فيتسلوا في المحن بما جرى عليهم ، ويقتدوا بهم في الصبر ، ومحو لهنات فرطت منهم ، أو غفلات سلفت لهم ، ليلقوا الله طيبين مهذبين ، وليكون أجرهم أكمل ، وثوابهم أوفر وأجزل .

*حدثنا القاضي أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو الحسين الصيرفي و أبو الفضل ابن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد ابن محبوب ، حدثنا أبو عيسى الترمزي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه حدثنا قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال: الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة .
وكما قال تعالى :( (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران 146-148 )

وعن أبي هريرة عنه r: ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله و ما عليه خطيئة.  

وعن أنس ، عنه r : إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة .

وفي حديث آخر: إذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرعه .

وحكى السمرقندي أن كل من كان أكرم على الله تعالى كان بلاؤه أشد كي يتبين فضله ، ويتسوجب الثواب  كما روي عن لقمان أنه قال : يابني ، الذهب والفضة يختبران بالنار ، والمؤمن يختبر بالبلاء .

وقد حكي أن ابتلاء يعقوب بيوسف كان سببه التفاته في صلواته إليه ، ويوسف نائم محبة  له .
وقيل : بل اجتمع يوماً هو وابنه يوسف على أكل حمل مشوي ، وهما يضحكان ، وكان لهم جار يتيم ، فشم ريحه واشتهاه وبكى ، وبكت له جدة له عجوز لبكائه ، وبينهما جدار ، ولا علم عند يعقوب وابنه ، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفاً على يوسف إلى أن سالت حدقتاه ، وابيضت عيناه من الحزن . فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر منادياً ينادي على سطحه : ألا من كان مفطراً فليتغذ عند آل يعقوب . وعوقب يوسف بالمحنة التي نص الله عليها .

وروى عن الليث أن سبب بلاء أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم فكلموه في ظلمه ، وأغلظوا له إلا أيوب ، فإنه رفق به مخافة على زرعه ، فعاقبه الله ببلائه .

ومِحنَة سليمان لما ذكرناه من نيته في كون الحق في جنبه أصهاره ، أو للعمل بالمعصية في داره ، ولا علم عنده .

وهذه فائدة شدة المرض والوجع بالنبي r ، قالت عائشة : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله r.

وعن عبد الله : رأيت النبي r في مرضه ، يوعك وعكاً شديداً ،‍ قال : أجل ، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم . قلت : ذلك أن لك الأجر مرتين ، قال : أجل ، ذلك كذلك .

وفي حديث أبي سعيد أن رجلاً وضع يده على النبي r فقال : والله ما أطيق أضع يدي عليك من شدة حماك . فقال النبي r : إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء ، إن كان النبي ليبتلى بالقمل حتى يقتله ،    وإن كان النبي ليبتلى بالفقر ، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء .

وعن أنس ، عنه (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) (النساء : 123 ): إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط .

وقد قال المفسرون في قوله تعالى : ( مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ  ) (النساء : 123 )) ، إن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة . وروى هذا عن عائشة وأبيّ ، ومجاهد .

وقال أبو هريرة ، عنه  r: من يرد الله به خيراً يصب منه .

وفي رواية عائشة ،قال r:ما من مصيبة تصيب المسلم إلا يكفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاركها .

وفي رواية أبي سعيد ، قال r: ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ، وقيل ولا همّ ولا حزن ، ولا أذى ولا غمّ ، حتى الشوكة يشاكلها إلا كفر الله بها من خطاياه .

وفي حديث ابن مسعود، قال r: ما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتَّ اللهُ عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر  

وحكمة أخرى أودعها الله في الأمراض لأجسامهم ، وتعاقب الأوجاع عليها وشدتها عند مماتهم ، لتضعف قوى نفوسهم ، فيسهل خروجها عند قبضهم ، وتخف عليهم مؤنة النزع ، وشدة السكرات بتقدم المرض ، وضعف الجسم والنفس لذلك .

وهذا خلاف موت الفجاءة وأخذه ، كما يشاهد من اختلاف أحوال الموتى في الشدة واللين ، والصعوبة     والسهولة . وقد قال r : مثل المؤمن مثل خامة  الزرع تُـفَـيِّـؤُها الريح هكذا وهكذا .

وفي رواية أبي هريرة عنه r : من حيث أتتها الريح تَـكْـفِـؤُها ، فإذا سكنت اعتدلت ، و كذلك المؤمن يُكْفَأُ بالبلاء . و مثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمه اللهُ .
معناه أن المؤمن مُرَزَّء ، مُصاب بالبلاء والأمراض ، راضٍ بتصريفه بين أقدار الله تعالى ، منطاع لذلك ، لين الجانب برضاه وقلة سخطه ، كطاعة خامة الزرع وانقيادها للرياح ، وتمايلها لهبوبها وترنُّحها من حيث ما أتتها ، فإذا أزاح الله عن المؤمن رياح البلايا ، واعتدل صحيحاً كما اعتدلت خامة الزرع عند سكون رياح الجو رجع إلى شكر ربه معرفة نعمته عليه بلائه ، منتظراً رحمته وثوابه عليه .
فإذا كان بهذه السبيل لم يصعب عليه مرض الموت ، ولا نزوله ، ولا اشتدت عليه سكراته ونزعه ، لعادته بما تقدم من الآلام ومعرفة ما له فيها من الأجر وتوطينه نفسه على المصائب ورقتها وضعفها بتوالي المرض أو شدته ، والكافر بخلاف هذا ، معافى في غالب حاله ، ممتع بصحة جسمه ، كالأرز ة الصماء ، حتى إذا أراد اللهُ هلاكَه قصمَه لحينه على غرة ، وأخذه بغتة من غير لطف ولا رفق ، فكان موتُه أشدَّ عليه حسرة ، ومقاساة نزعه مع قوة نفسه وصحة جسمه أشد ألماً وعذاباً ،( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه : 127 )، كانجعاف الأرزة . و كما قال تعالى :( فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (الأعراف : 95 )

وكذلك عادة الله تعالى في أعدائه ، كما قال تعالى : (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت : 40 )، ففَجأ جميعَهم بالموت على حال عتو وغفلة و صبَّحهم به على غير استعداد بغتة ، ولهذا ذُكر عن السلف أنهم كانوا يكرهون موت الفجأة  . ومنه في حديث إبراهيم : كانوا يكرهون أخذة كأخذة الأسف : أي الغضب ، يريد موت الفجاءة .

وحكمه ثالثة أن الأمراض نذير الممات ، و بقدر شدة الخوف من نزول الموت ، فيستعد من أصابته ،      وعلم تعاهدها له ، للقاء ربه ، ويعرض عن دار الدنيا الكثيرة الأنكاد ، ويكون قلبه معلقاً بالمعاد ، فيتنصل من كل ما يخشى تباعته من قبل الله ، وقبل العباد ، ويؤدي الحقوق إلى أهلها ، وينظر فيما يحتاج إليه من وصية فيمن يخلفه أو أمر يعهده .

وهذا نبينا r المغفور له ما تقدم وما تأخر ، قد طلب التنصل في مرضه ممن كان له عليه مال أو حق في بدن ، وأقاد من نفسه وماله ، وأمكن من القصاص منه ، على ما ورد حديث في الفضل ، وحديث الوفاة ، وأوصى بالثقلين بعده : كتاب الله ، وعترته و بالأنصار عيبته ، ودعى إلى كتب كتاب لئلا تضل أمته بعده ، إما في النص على الخلافة ، أو الله أعلم بمراده . ثم رأى الإمساك عنه أفضل وخيراً .

وهكذا سيرة عباد الله المؤمنين وأوليائه المتقين .
وهذا كله يحرمه غالباً الكفار ، لإملاء الله لهم ، ليزدادوا إثماً ، وليستدرجهم من حيث لا يعلمون ، قال الله تعالى : (مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ*فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (يس : 49+50 ))  

ولذلك قال r في رجل مات فجأة : سبحان الله .. كأنه على غضب ، المحروم من حرم وصيته . وقال : موت الفُجَأة راحةٌ للمؤمن ، وأخذةُ أسفٍ للكافر والفاجر ، وذلك لأن الموت يأتي المؤمن ، وهو غالباً مستعد له منتظر لحلوله ، فهان أمر عليه كيفما جاء ، وأفضى إلى راحته من نصب الدنيا وأذاها ، كما قال r : مستريح ومستراح منه . وتأتي الكافر والفاجر منيته على غير استعداد ولا أهبة ولا مقدمات منذرة مزعجة ، (بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) (الأنبياء : 40)، فكان الموت أشد شيء عليه .وفراق الدنيا أفظع أمر صدمه ، وأكره شيء له ، وإلى هذا المعنى أشار r بقوله : من أحب لقاء الله أحب اللهُ لقاءَه ، و من كرِه لقاءَ اللهِ كره اللهُ لقاءه .

القسم الرابع
في تصرف وجوه الأحكام فيمن تنقص أو سب النبي
r

 المقدمة:

 *قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه : قد تقدم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي r، وما يتعين له من بر وتوقير ، وتعظيم وإكرام ، وبحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه ،    وأجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه ،

قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) (الأحزاب : 57 ).

وقال :( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة : 61 ).

وقال : (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً) (الأحزاب : 53 )

وقال تعالى، في تحريم التعريض به :( (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة : 104 ).

وذلك أن اليهود كانوا يقولون : راعنا يا محمد ، أي أرعنا سمعك ، واسمع منا ، ويعرضون بالكلمة ، يريدون الرعونة ، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم ، وقطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها ، لئلا يتوصل بها الكافر والمنافق إلى سبه والاستهزاء به .

وقيل : بل لما من مشاركة اللفظ ، لأنها عند اليهود بمعنى اسمع لا سمعت .
و قيل : بل لما فيها من قله الأدب ، وعدم توقير النبي
r وتعظيمه ، لأنها في لغة الأنصار بمعنى ارعنا نرعك ، فنهوا عن ذلك ، إذ مضمنه أنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، وهو r واجب الرعاية بكل حال.

 وهذا هو r قد نهى عن التكني بكنيته ، فقال : تسموا باسمي ، ولا تكنوا بكنيتي ، صيانة لنفسه ،       وحماية عن أذاه ، إذ كان استجاب لرجل نادى : يا أبا القاسم ، فقال : لم أعْنِكَ ، إنما دعوت هذا ، فنهى حينئذ عن التكني بكنيته لئلا يتأذى بإجابة دعوة غيره لمن لم يدعُه ، ويجد بذلك المنافقون          والمستهزئون ذريعة إلى أذاه دعوة غيره فينادونه ، فإذا التفت قالوا : إنما أردنا هذا ، لسواه ، تعنيتاً له  واستخفافاً بحقه على عادة المجَّان والمستهزئين ، فحمى  rحمى أذاه   بكل وجه ، فحمل محققوا العلماء نهيَه عن هذا على مدة حياته ، وأجازوه بعد وفاته لارتفاع العلة .

وللناس في هذا الحديث مذاهب ليس هذا موضعها ، وما ذكرناه هو مذهب الجمهور ، والصواب إن شاء الله . وإن ذلك على طريق تعظيمه وتوقيره ، وعلى سبيل الندب والاستحباب ، لا على التحريم ، ولذلك لم ينْه عن اسمه،لأنه قد كان الله منع من ندائه به بقوله(لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً  ) (النور : 63 )، وإنما كان المسلمون يدعونه برسول الله ، وبنبي الله ، وقد يدعوه، بكنيته أبا القاسم بعضهم في بعض الأحوال .

وقد روى أنس رضي الله عنه ، عنه r ، ما يدل على كراهة التسمي باسمه ، وتنزيهه عن ذلك ، إذا لم يوقر ، فقال : تسمون أولادكم محمداً ثم تلعنوهم .

وروى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة : لايسمى أحد باسم النبي r ، حكاه أبو جعفر الطبري

 وحكى محمد بن سعد أنه نظر إلى رجل اسمه محمد ، ورجل يسبه ويقول له : فعل الله بك يا محمد        وصنع . فقال عمر لابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب : لا أرى محمداً r يسب بك ، والله لا تدعى محمداً ما دمت حياً ، وسماه عبد الرحمن ، وأراد أن يمنع أن يسمى أحد بأسماء الأنبياء إكراماً لهم بذلك

 وغير أسماء جماعة تسموا بأسماء الأنبياء ، ثم أمسك  .

والصواب جواز هذا كله بعده r، بدليل إطباق الصحابة على ذلك . وقد سمى جماعة منهم ابنه محمداً ، و كناه بأبي القاسم . وروي أن النبي r أذن في ذلك لعلي رضي الله عنه . وقد أخبر r أن ذلك اسم الهدي و كنيته . وقد سمَّي به النبيُّ r محمد بن طلحة ، ومحمد بن عمرو بن حزم ، ومحمد بن ثابت بن قيس ، وغير واحد ، و قال : ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد ومحمدان وثلاثة  .
وقد فصلت الكلام في هذا القسم على بابين كما قدمناه :

                                                 الباب الأول   

                   في بيان ما هو ـ في حقه r ـ سب أو نقص ، من تعريض أو نص...

وفيه 10 فصول:

 1- الحكم الشرعي فيمن سب النبي r  أو تنقصه

2- في الحجة في إيجاب قتل من سب النبي r  أو عابه

3- أسباب عفو النبي r على بعض من آذاه

4- حكم القائل لما قال في جهة النبي  r غير قاصد للسب والإزراء ، ولا معتقد له...

5-  حكم من يقصد إلى تكذيب النبي  rفيما قاله وأتى به ،أو نفِي نبوَّته أو رسالته ،أو وجوده ...

 6- حكم من يأتي من الكلام بمجمل ويلفظ من القول بمشكل يمكن حملُه على النبي  rأو غيره ..

7- حكم من لا يقصد نقصاً ، ولا يذكر عيباً ولا سباً ، لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه...

8- حكم من يقول ذلك حاكياً عن غيره

9-  ما يجوز على النبي r ، أو يختلف في جوازه...

10- الالتزام عند ذكر النبيr بالواجب من توقيره وتعظيمه

                                                الفصل الأول

                                الحكم الشرعي فيمن سب النبي r  أو تنقصه

 
اعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن جميع من سب النبي
r ، أو عابه ، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرض به ، أو شبهه بشيء على طريق السب له ، أو الإزراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو الغض منه ، و العيب له ، فهو ساب له ، والحكم فيه حكم الساب ، يقتل كما نبينه  ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد ، ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً .  وكذلك من لعنه أو دعا عليه ، أو تمنى مضرة له ، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهُجر ، ومنكر من القول وزور ، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه ، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه .
وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جراً .

وقال أبو بكر بن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي r يقتل ، وممن قال ذلك مالك بن أنس ، والليث ، وأحمد ، وإسحاق ، وهو مذهب الشافعي .

*قال القاضي أبو الفضل : وهو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ولا تقبل توبته عند هؤلاء المذكورين.

وبمثله قال أبو حنيفة ،وأصحابه ،والثوري وأهل الكوفة ، والأوزاعي في المسلم ، لكنهم قالوا : هي ردة .

روى مثله الوليد بن مسلم عن مالك .

وحكى الطبري مثله عن أبي حنيفة و أصحابه فيمن تنقصه صلى الله عليه و سلم ، أو برئ منه أو كذبه .

وقال سحنون فيمن سبه : ذلك ردة كالزندقة .

وعلى هذا وقع الخلاف في استتابته وتكفيره ، وهل قتله حد أو كفر ، كما سنبينه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى ، ولا نعلم خلافاً في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة ، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره ، وأشار بعض الظاهرية ـ وهو أبو محمد علي بن أحمد الفارسي إلى الخلاف في تكفير المستخف به .

والمعروف ما قدمناه ، قال محمد بن سحنون : أجمع العلماء أن شاتم النبيr  المتنـقِّص له كافر .     والوعيد جار عليه بعذاب الله ، وحكمه عند الأمة القتل ، ومن شك في كفره وعذابه كفر .
واحتج إبراهيم بن حسين بن خالد الفقيه في مثل هذا بقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة لقوله ـ عن النبي
r صاحبكم .

وقال أبو سليمان الخطابي : لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلماً .

وقال ابن القاسم ـ عن مالك في كتاب ابن سحنون ، والمبسوط ، والعتبية ، وحكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب : من سب النبي r من المسلمين قتل ، ولم يستتب .

قال ابن القاسم في العتبية : من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل ، وحكمه عند الأمة القتل كالزنديق . وقد فرض الله تعالى توقيره وبره . وفي المبسوط  ،عن عثمان بن كنانة : من شتم النبي r من المسلمين قتل أو صلب حياً ولم يستتب والإمام مخير في صلبه حياً أو قتله .

ومن رواية أبي المصعب ، وابن أبي أويس : سمعنا مالكاً يقول : من سب رسول الله r  ، أو شتمه ، أو عابة ، أو تنقصه ـ قتل مسلماً كان أو كافراً ، ولا يستتاب .
وفي كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب النبي
r أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب .

وقال أصبغ : يقتل على كل حال أسر ذلك أو ظهره ، ولا يستتاب ، لأن توبته لا تعرف .

وقال عبد الله بن الحكم : من سب النبي r  من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب .

وحكى الطبري مثله عن أشهب ، عن مالك .

وروى ابن وهب ، عن مالك : من قال : إن رداء النبي r ـ و يروى زر النبي r ـ وسخ ، أراد عيبه ـ قتل .

قال بعض علمائنا : أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل ، أو بشيء من المكروه ـ أنه يقتل بلا استتابة .

وأفتى أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي r : الحمال يتيم أبي طالب   ـ بالقتل .

وأفتى أبو محمد بن أبي زيد بقتل رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي r  إذ مر بهم رجل قبيح الوجه  واللحية ، فقال لهم : تريدون تعرفون صفته ، هي في صفة هذا المار في خلقه ولحيته . قال : ولا تقبل توبته . وقد كذب ـ لعنه الله ، وليس يخرج من قلب سليم الإيمان .

وقال أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي r كان أسود يقتل .

وقال في رجل قيل له : لا ، وحق رسول الله . فقال فعل الله برسول الله كذا و كذا ـ وذكر كلاماً قبيحاً ، فقيل له : ما تقول يا عدو الله ؟ فقال أشد من كلامه الأول ، ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب . فقال ابن أبي سليمان للذي سأله : اشهد عليه وأنا شريكك ـ يريد في قتله وثواب ذلك .

قال حبيب بن الربيع : لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل ، لأنه امتهان ، وهو غير معزز لرسول الله r ، ولا موقر له ، فوجب إباحة دمه .

وأفتى أبو عبد الله بن عتاب في عشَّار ، قال لرجل : أدِّ واشكُ إلى النبي r، وقال : إن سألت أو جهلت فقد جهل وسأل النبي  rـ بالقتل .

 
وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه الطليطلي وصلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي
r  وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم ، وختن حيدرة ، وزعمه أن زهده لم يكن قصداً ، ولو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا .

وأفتى فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري ، وكان شاعراً متفننا في كثير من العلوم ، وكان ممن يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن طالب للمناظرة ، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا r ، فأحضر له القاضي يحيى بن عمر وغيره من الفقهاء ، وأمر بقتله وصلبه ، فطعن بالسكين ، وصلب منكسا ، ثم أنزل وأحرق بالنار .

وحكى بعض المؤرخين أنه لما رفعت خشبته ، وزالت عنها الأيدي استدارت ، وحولته عن القبلة ، فكان آية للجميع ، وكبر الناس ، وجاء كلب فولغ في دمه ، فقال يحيى بن عمر : صدق رسول الله r  ،       وذكر حديثاً عنه r أنه قال : لا يلغ الكلب في دم مسلم .

وقال القاضي أبو عبد الله بن المرابط : من قال : إن النبي r هزم يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته .

وقال حبيب بن ربيع القروي : مذهب مالك وأصحابه أن من قال فيه r : ما فيه نقص ـ قتل دون استتابة .

وقال ابن عتاب : الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي r  بأذى أو نقص ، معرضاً أو مصرحاً ،    وإن قلَّ ـ فقتله واجب .

فهذا الباب كله مما عده ا لعلماء سباً أو تنقصاً يجب قتل قائله ، لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم ، وإن اختلفوا في حكم قتله على ما أشرنا إليه   ونبينٌه بعد .

وكذلك أقول حكم من غمصه أو عيَّره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر ، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه ، أو أذى من عدوه ، أو شدة من زمنه ، أو بالميل إلى نسائه ، فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل .
وقد مضى من مذاهب العلماء في ذلك ، ويأتي ما يدل عليه .

                                            الفصل الثاني

                          في الحجة في إيجاب قتل من سب النبي r أو عابه  

*فمن القرآن لعنُه تعالى لمؤذيه في الدنيا والآخرة ، و قِرانُه تعالى أذاه بأذاه ، ولا خلاف في قتل من سب الله ، وأن اللعن إنما يستوجبه من هو كافر ، وحكم الكافر القتل ، فقال (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) (الأحزاب : 57 )] .

وقال ـ في قاتل المؤمن مثل ذلك ، فمن لعنته في الدنيا القتل ، قال الله تعالى : ( لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (الأحزاب : 60+61 ).

وقال ـ في المحاربين ، وذكر عقوبتهم ( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة : 33 )

وقد يقع القتل بمعنى اللعن ، قال الله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (الذاريات : 10). (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون : 4 ) ، أي لعنهم الله ، ولأنه فرق بين أذاهما وأذى المؤمنين ، وفي أذى المؤمنين ما دون القتل ، من الضرب و النكال ، فكان حكم مؤذي الله ونبيه أشد من ذلك ، وهو القتل .

وقال : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء : 65 )
فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجاً من قضائه ، ولم يسلم له ، ومن تنقضه فقد ناقض هذا .

وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (الحجرات : 2 )
ولا يُحبِط العملَ إلا الكفر ، والكافر يقتل .

وقال : (وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (المجادلة : 8 )

وقال: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة : 61 )

وقال  : (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ) (التوبة 65+ 66 )  

قال أهل التفسير : كفرتم بقولكم في رسول الله r.

وأما الإجماع فقد ذكرناه .

وأما الآثار فحدثنا الشيخ أبو عبد الله أحمد بن غلبون ، عن الشيخ أبي ذر الهروي إجازة ، قال : حدثنا أبو الحسن الدارقطني ، وأبو عمر ابن حيوة ، حدثنا محمد بن نوح ، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفر ، عن علي بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي ، عن أبيه ـ أن رسول الله  r. قال : من سب نبيّاَ فاقتلوه ، ومن سب أصحابي فاضربوه .

وفي الحديث الصحيح : أمر النبي  r. بقتل كعب بن الأشرف . وقوله : من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه يؤذي الله ورسوله . ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة ، بخلاف غيره من المشركين ، وعلل قتله بأذاه له ، فدل أن قتله إياه لغير الإشراك ، بل للأذى .

وكذلك قتَل أبا رافع ، قال البراء : وكان يؤذي رسول الله  r.، ويعين عليه .

وكذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل وجاريتيْه اللتين كانتا تغنيان بسبه  r..

وفي حديث آخر أن رجلاً كان يسبه النبي r.  فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال خالد : أنا . فبعثه  r.  فقتله .

وكذلك أمر بقتل جماعة ممن كان يؤذيه من الكفار ويسبه ، كالنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .
وعهد بقتل جماعة منهم قبل الفتح وبعده ، فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه .

وقد روى البزار ، عن ابن عباس ـ أن عقبة بن أبي معيط نادى : يا معشر قريش ، مالي أقتل من بينكم صبراً ! فقال له  r. : بكفرك وافترائك على رسول الله  r.

وذكر عبد الرزاق أن النبي  r. سبه رجل ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال الزبير : أنا ، فبارزه فقتله الزبير .

وروى أيضاً أن امرأة كانت تسبه  r.، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها .

وروى أن رجلاً كذب على النبي  r. فبعث علياً والزبير إليه ليقتلاه .

وروى ابن قانع أن رجلاً جاء إلى النبي  r.  فقال : يا رسول الله ، سمعت أبي يقول فيك قولاً قبيحاً فقتلته ! فلم يشق ذلك على النبي  r.

وبلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر رضي الله عنه أن امرأة هناك في الردة غنت بسب النبي  r. فقطع يدها ، ونزع ثنيتها ، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه ذلك ، فقال له : لولا ما فعلت لأمرتك بقتلها ، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود .

وعن ابن عباس : هجت امرأة من خطمة النبي  r. فقال : من لي بها ؟ فقال رجل من قومها : أنا يا رسول الله . فنهض فقتلها ، فأخبر النبي  r.، فقال : لا ينتطح فيها عنزان

وعن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تسب النبي  r. فيزجرها فلا تنزجر ، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي  r.وتشتمه ، فقتلها ، وأعلم النبي  r.بذلك ، فأهدر دمها .

وفي حديث أبي برزة الأسلمي : كنت يوماً جالساً عند أبي بكر الصديق ، فغضب على رجل من المسلمين ـ وحكى القاضي إسماعيل وغير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكرـ
ورواه النسائي : أتيت أبا بكر ، وقد أغلظ لرجل فرد عليه ، قال : فقلت : يا خليفة رسول الله ، دعني أضرب عنقه . فقال : اجلس ، فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله  
r.

قال القاضي أبو محمد بن نصر : ولم يخالف عليه أحد ، فاستدل الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي  r. بكل ما أغضبه أو أذاه أو سبه .

ومن ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة ، وقد استشاره في قتل رجل سب عمر رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر : إنه لا يحل قتل امرئ مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلاً سب رسول الله  r.  فمن سبه  فقد حل دمه .

وسأل الرشيد مالكاً في رجل شتم النبي  r.  وذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده ، فغضب مالك ،     وقال : يا أمير المؤمنين ، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها ! من شتم الأنبياء قتل ، ومن شتم أصحاب النبي  r.جلد .

*قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى : كذا وقع في هذه الحكاية ، رواها غير واحد من أصحاب مناقب مالك ومؤلفي أخباره وغيرهم ، ولا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر ! وقد ذكرنا مذهب العراقيين بقتله ، ولعلهم ممن لم يشهر بعلم ، أو من لا يوثق بفتواه ، أو يميل به هواه ، أو يكون ما قاله يحمل على غير السب ، فيكون الخلاف : هل هو سب أو غير سب ؟ أو يكون رجع وتاب من سبه ، فلم يقله لمالك على أصله ، وإلا فالإجماع على قتل من سبه كما قدمناه .
ويدل على قتله من جهة النظر والاعتبار أن من سبه أو تنقصه  
r. فقد ظهرت علامة مرض قلبه ،     وبرهان سر طويته وكفره ، ولهذا ما حكم له كثير من العلماء بالردة ، وهي رواية الشاميين عن مالك    والأوزاعي ، وقول الثوري ، وأبي حنيفة ، والكوفيين .

والقول الآخر أنه دليل على الكفر فيقتل حداً ، وإن لم يحكم له بالكفر إلا أن يكون متمادياً على قوله ، غير منكر له ، ولا مقلع عنه ، فهذا كافر ، وقوله : إما صريح كفر كالتكذيب ونحوه ، أو من كلمات الاستهزاء والذم ، فاعترافه بها وترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك ، وهو كفر أيضاً ، فهذا كافر بلا خلاف ، قال الله تعالى في مثله :(يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ) (التوبة : 74 )

قال أهل التفسير : هي قولهم : إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من الحمير .
وقيل : قول بعضهم : ما مثلنا ومثل محمد إلا قول القائل : سمن كلبك يأكلك ،( (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) . (المنافقون : 8 )
وقد قيل إن قائل مثل هذا إن كان مستتراً به إن حكمه حكم الزنديق يقتل ، ولأنه قد غير دينه ، وقد قال
r: من غير دينه فاضربوا عنقه ، ولأن لحكم النبي  rفي الحرمة مزية على أمته ، وسابّ الحر من أمته يحد ، فكانت العقوبة لمن سبه r القتل ، لعظيم قدره ، وشفوف منزلته على غيره .  

الفصل الثالث
أسباب عفو النبي
r على بعض من آذاه

فإن قلت : فلم لم يقتل النبي r اليهودي الذي قال له : السام عليكم، وهذا دعاء عليه ، ولا قتل الآخر الذي قال له : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، وقد تأذى النبي r من ذلك ، وقال : قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ، ولا قتل المنافقين الذين كانوا يؤذونه في أكثر الأحيان ؟

فاعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن النبي r  كان أول الإسلام يستألف عليه الناس ويُميل قلوبهم ، ويُحبِّب إليهم الإيمان ، ويزينه في قلويهم ويداريهم ، ويقول لأصحابه : إنما بعثتم مبشرين ولم تبعثوا منفرين .
ويقول : يسروا ولا تعسروا ، و سكنوا ولا تنفروا .
ويقول : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه .
وكان
r يداري الكفار والمنافقين ، ويجمل صحبتهم ، ويُغضي عنهم ، ويحتمل من أذاهم ويصبر على جفائهم ما لا يجوز لنا اليوم الصبر لهم عليه ، وكان يرفقهم بالعطاء والإحسان ، وبذلك أمره الله تعالى ، فقال  : (وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة : 13 )

وقال تعالى :( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت : 34 )

وذلك لحاجة الناس للتألف أول الإسلام ، وجمع الكلمة عليه ، فلما استقر وأظهره الله على الدين كله قتل من قدر عليه ، واشتهر أمره ، كفعله بابن خطل ، ومن عهد بقتله يوم الفتح ، ومن أمكنه قتله غيلة من يهود وغيرهم ، أو غلبة ممن لم ينظمه قبل سلك صحبته ، والانخراط في جملة مُظهري الإيمان له ممن كان يؤذيه ، كابن الأشرف ، وأبي رافع ، والنضر ، وعقبة .
وكذلك نذر دم جماعة سواهم ، ككعب بن زهير ، وابن الزبعري وغيرهما ممن آذاه حتى ألقوا بأيديهم ،   ولقُوه مسلمين .وبواطن المنافقين مستترة ، وحكمه
r على الظاهر ، وأكثر تلك الكلمات إنما كان يقولها القائل منهم خفية ومع أمثاله ، ويحلفون عليها إذا نميت ، وينكرونها ، و (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ) (التوبة  74 ) ، وكان مع هذا يطمع في فيئتهم ، ورجوعهم إلى الإسلام وتوبتهم ، فيصبر r على هناتهم وجفوتهم ، كما صبر أولوا العزم من الرسل حتى فاء كثير منهم باطناً ، كما فاء ظاهراً ،     وأخلص سراً كما أظهر جهراً ، ونفع الله بعد بكثير منهم ، وقام منهم للدين وزراء و أعوان وحماة        وأنصار كما جاءت به الأخبار .

وبهذا أجاب بعض أئمتنا رحمهم الله عن هذا السؤال . وقال : لعله لم يثبت عنده r من أقوالهم ما رفع ، وإنما نقله الواحد ومن لم يصل رتبة الشهادة في مثل هذا الباب ، من صبي أو عبد أو امرأة ، والدماء لا تستباح إلا بعدلين .

وعلى هذا يحمل أمر اليهود من السلام ، وأنهم لوَوْا ألسنتهم ، ولم يبينوه ، ألا ترى كيف نبهت عليه عائشة ، ولو كان صرح بذلك لم تنفرد بعلمه ، ولهذا نبَّه النبي r أصحابه على فعلهم ، وقلة صدقهم في سلامهم ، وخيانتهم في ذلك لياً بألسنتهم ، وطعناً في الدين ، فقال : إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول : السام عليكم ، فقولوا : عليكم .

وكذلك قال بعض أصحابنا البغداديين : إن النبي r لم يقتل المنافقين بعلمه فيهم ، ولم يأت أنه قامت بينة على نفاقهم ، فلذلك تركهم .

وأيضاً فإن الأمر كان سراً وباطناً ، وظاهرهم الإسلام والإيمان ، وإن كان من أهل الذمة بالعهد والجوار ، والناس قريب عهدهم بالإسلام ، ولم يتميز بعد الخبيث من الطيب .
وقد شاع عن المذكورين في العرب كون من يتهم بالنفاق من جملة المؤمنين وصحابة سيد المرسلين ،   أنصار الدين بحكم ظاهرهم ، فلو قتلهم النبي
r لنفاقهم وما يبدر منهم ، وعلمه بما أسروا في أنفسهم لوَجد المنفِّر ما يقول ، ولارتاب الشاردُ ، وأرجف المعاندُ ، وارتاع مِن صحبةالنبي r ، والدخول في الإسلام غير واحد ، ولزعم الزاعمُ ، وظن العدوُّ الظالم ـ أن القتل إنما كان للعداوة وطلب أخذ الترة .
وقد رأيت معنى ما حررته منسوباً إلى مالك بن أنس رحمه الله ، ولهذا قال
r :لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه . وقال : أؤلئك الذين نهاني الله عن قتلهم .
وهذا بخلاف إجراء الأحكام الظاهرة عليهم من حدود الزنا والقتل وشبهه ، لظهورها واستواء الناس في علمها .

وقد قال محمد بن المواز : لو أظهر المنافقون نفاقهم لقتلهم النبي r، وقاله القاضي أبو الحسن بن القصار .

وقال قتادة في تفسير قوله تعالى : (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً * ) ( الأحزاب   60 - 62 ) .
قال : معناه إذا أظهروا النفاق .

وحكى محمد بن مسلمة في المبسوط ، عن زيد بن أسلم ـ أن قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة : 73 )+ (التحريم : 9 ).. نسخها ما كان قبلها .

وقال بعض مشايخنا : لعل القائل : هذه قسمة ما أريد وجه الله : و قوله : اعدل ـ لم يفهم النبي r منه الطعن عليه والتهمة له ، وإنما رآها من وجه الغلط في الرأي ، وأمور الدنيا والاجتهاد في مصالح أهلها ، فلم ير ذلك سباً ، ورأى أنه من الأذى له العفو عنه والصبر عليه ، فلذلك لم يعاقبه .

وكذلك يقال في اليهود إذ قالوا : السام عليكم ـ ليس فيه صريح سب ولا دعاء إلا بما لا بُد منه من الموت الذي لا بد من لحاقه جميع البشر .
وقيل : بل المراد تسأمون دينكم . والسأم والسآمة : الملال .
وهذا دعاء على سآمة الدين ليس بصريح سب ، ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث ، باب ـ إذا عرض الذمي أو غيره بسبب النبي
r.

قال بعض علمائنا : وليس هذا بتعريض بالسب ، وإنما هو تعريض بالأذى .

*قال القاضي أبو الفضل : قد قدمنا أن الأذى والسب في حقه r سواء .

وقال القاضي أبو محمد بن نصر مجيباً عن هذا الحديث ببعض ما تقدم ، ثم قال : ولم يذكر في الحديث : هل كان هذا اليهودي من أهل العهد والذمة أو الحرب ، ولا يترك موجب الدلة للأمر المحتمل .
والأولى في ذلك كله والأظهر من هذه الوجوه مقصد الاستئلاف والمدارة على الدين لعلهم يؤمنون .
ولذلك ترجم البخاري على حديث القسمة والخوارج : باب ـ من ترك قتال الخوارج للتألف .
ولئلا ينفر الناس عنه ، ولما ذكرنا معناه عن مالك ، وقررناه قبل .
وقد صبر لهم
r على سحره وسمه ، وهو أعظم من سبه إلى أن نصرَه الله عليهم ، وأذِن له في قتل مَن حيَّنَه منهم وإنزالهم من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وكتب   على من شاء منهم الجلاء ،     وأخرجهم من ديارهم ، وخرب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، وكاشفهم بالسب ، فقال : يا إخوة القردة والخنازير ، وحكَّم فيهم سيوف المسلمين ، وأجلاهم من جوارهم  وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى   .

فإن قلت : فقد جاء في الحديث الصحيح ، عن عائشة رضي الله عنها ـ أنه r ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط ، إلا أن تنتهك حرمة الله ، فينتقم لله .
فاعلم أن هذا لا يقتضي أنه لم ينتقم ممن سبه أو آذاه أو كذبه ، فإن هذه من حرمات الله التي انتقم لها ، وإنما يكون ما لا ينتقم له فيما تعلق بسوء أدب أو معاملة من القول أو الفعل بالنفس والمال مما لم يقصد فاعله به أذاه ، لكن مما جبلت عليه الأعراب من الجفاء ، والجهل ، أو جُبِل عليه البشر من الغفلة ، كجبذ الأعرابي بإزاره حتى أثر في عنقه ، وكرفع صوت الآخر عنده ، وكحجد الأعرابي شراءه منه فرسه التي شهد فيها خزيمة ، ولما كان من تظاهر زوجيه عليه ، وأشباه هذا مما يحسن الصفح عنه .

 وقد قال بعض علمائنا : إن أذى النبي r حرام لا يجوز بفعل مباح  ولا غيره .
وأما غيره فيجوز بفعل مباح ما لا يجوز للإنسان فعله ، وإن تأذى به غيره . واحتج بعموم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) (الأحزاب : 57 )،      وبقوله
r  في حديث فاطمة : إنها بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها ، ألا و إني لا أحرم ما أحل الله ، و لكن لا تجتمع ابنة رسول الله وابنة عدو الله عند رجل أبداً  أو يكون هذا مما آذاه به كافر وجاء بعد ذلك إسلامه ، كعفوه عن اليهودي الذي سحره ، وعن الأعرابي الذي أراد قتله ، وعن اليهودية التي سمته ،   وقد قيل : قتلها .

ومثل هذا مما يبلغه من أذى أهل الكتاب والمنافقين ، فصفح عنهم رجاء استئلافهم واستئلاف غيرهم كما قررناه قبل ، وبالله التوفيق .

الفصل الرابع
حكم القائل لما قال في جهة النبي  
r غير قاصد للسب والإزراء ، ولا معتقد له...

تقدم الكلام في قتل القاصد لسبه والإزراء به ، وغمصه بأي وجه كان من ممكن أو محال ، فهذا وجه بين لا إشكال فيه .

الوجه الثاني لاحِق به في البيان والجلاء ، وهو أن يكون القائل لما قال في جهته r غير قاصد للسب    والإزراء ، ولا معتقد له ، ولكنه تكلم في جهته r بكلمة الكفر ، مِن لعنه أو سبه أو تكذيبه أو إضافة ما لا يجوز عليه ، أو نفى ما يجب له مما هو في حقه r نقيصة ، مثل أن ينسب إليه إتيان كبيرة ، أو مداهنة في تبليغ الرسالة ، أو في حكم بين الناس ، أو يغض من مرتبته ، أو شرف نسبه ، أو وفور علمه أو زهده ، أو يكذب بما اشتهر من أمور أخبر بها r وتواتر الخبر بها عنه عن قصد لرد خبره ، أو يأتى بسفه من القول ، وقبيح من الكلام ، ونوع من السب في جهته ، وإن ظهر بدليل حاله أنه لم يعتمد ذمه ، ولم يقصد سبه ، إما لجهالة حملته على ما قاله ، أو لضجر أو سكر اضطره إليه ، أو قلة مراقبة وضبط للسانه وعجرفة وتهور في كلامه ، فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم ، إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ، ولا بدعوى زلل اللسان ، ولا بشيء مما ذكرناه ، إذ كان عقله في فطرته سليماً ،( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ  ) (النحل : 106 ) .

وبهذا أفتى الأندلسيون على ابن حاتم في نفيه الزهد عن رسول الله r  الذي قدمناه .

وقال محمد بن سحنون ـ في المأسور يسُب النبي r  في أيدي العدو : يقتل إلا أن يعلم تنصره أو إكراهه.

وعن أبي محمد بن أبي زيد : لا يعذر بدعوى زلل اللسان في مثل هذا .

وأفتى أبو الحسن القابسي ـ فيمن شتم النبي r  في سكره : يقتل ، لأنه يظن به أنه يعتقد هذا ويفعله في صحوه .وأيضاً فإنه حد لا يسقطه السكر ، كالقذف ، والقتل ، وسائر الحدود ، لأنه أدخله على نفسه ، لأن من شرب الخمر على علم من زوال عقله بها ، وإتيان ما ينكر منه ، فهو كالعامد لما بسببه .
وعلى هذا ألزمناه الطلاق والعتاق ، والقصاص والحدود .
ولا يعترض على هذا بحديث حمزة و قوله للنبي
r : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ! .
قال : فعرفَ النبيُّ
r  أنه ثمِل فانصرف ، لأن الخمر كانت حنيئذ غير محرمة ، فلم يكن في جناياتها إثم ، و كان حكم ما يحدث عنها معفواً عنه كما يحدث من النوم وشرب الدواء المأمون .

الفص الخامس

  حكم من يقصد إلى تكذيب النبي  rفيما قاله وأتى به ،أو نفِي نبوَّته أو رسالته ،أو وجوده ...

الوجه الثالث : أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله وأتى به ، أو ينفي نبوته أو رسالته ، أو وجوده ، أو يكفر به  انتقل بقوله ذلك إلى دين آخر غير ملته أم لا ؟

فهذا كافر بإجماع ، يجب قتله ، ثم ينظر فإن كان مصرحاً بذلك كان حكمه أشبه بحكم المرتد ، وقوي الخلاف في استتابته .

وعلى القول الآخر لا يسقط عنه توبته لحق النبي r ، إن كان ذكره بنقيصة فيما قاله من كذب أو غيره ، وإن كان مستسراً بذلك فحكمه حكم الزنديق لا تُسقط قتلَه التوبةُ عندنا كما سنبينه .

قال أبو حنيفة وأصحابه : من بريء من محمد ، أو كذب به ، فهو مرتد حلال الدم إلا أن يرجع .

و قال ابن القاسم ـ في المسلم إذا قال : إن محمداً ليس بنبي ، أو لم يرسل ، أو لم ينزل عليه قرآن ،    وإنما هو شيء تقوله : يقتل .
قال : ومن كفر برسول الله
r وأنكره من المسلمين ، فهو بمنزلة المرتد ، وكذلك من أعلى بتكذيبه أنه كالمرتد يستتاب .
وكذلك قال فيمن تنبأ ، و زعم أنه يوحى إليه ، وقاله سحنون .
قال ابن القاسم : دعا إلى ذلك سراً أو جهراً .

قال أصبغ : وهو كالمرتد ، لأنه قد كفر بكتاب الله مع الفرية على الله .

وقال أشهب ـ في يهودي تنبأ أو زعم أنه أرسل إلى الناس ، أو قال : بعد نبيكم نبي ـ أنه يستتاب إن كان معلنا بذلك ، فإن تاب وإلا قتل ، وذلك لأنه مكذب للنبي r في قوله ، لا نبي بعدي ، مفتر على الله في دعواه عليه الرسالة و النبوة .

وقال محمد بن سحنون : من شك في حرف مما جاء به النبي r عن الله فهو كافر جاحد .
وقال : من كذب النبي
r كان حكمه عند الأمة القتل .

وقال أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي r أسود ـ قتل ، لم يكن النبي r  بأسود .

وقال نحوه أبو عثمان الحداد ، قال : لو قال : إنه مات قبل أن يلتحي ، أو إنه كان بِتاهَرْتَ ولم يكن بتهامة قتل ، لأن هذا نفي .

قال حبيب بن ربيع تبديل صفته ومواضعه كفر ، والمُظهِر له كافر ، وفيه الاستتابة والمُسِرّ له زنديق ، يُقتل دون استتابة .

 الفصل السادس
حكم من يأتي من الكلام بمجمل ويلفظ من القول بمشكل يمكن حملُه على النبي
 rأو غيره ..

الوجه الرابع : أن يأتي من الكلام بمجمل ، ويلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي r أو غيره ، أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه أو شره ، فها هنا متردد النظر وحيرة العبر ، ومظنة اختلاف المجتهدين ، ووقفة استبراء المقلدين ،( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ  ) (الأنفال : 42 )، فمنهم من غلب حرمة النبي r ، و حمى حمى عرضه ، فجسر على القتل ، ومنهم من عظم حرمة الدم ، ودرأ الحد بالشبهة لاحتمال القول .

وقد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه ، فقال له : صلِّ على النبي محمد ، فقال له الطالب : لا صلى الله على من صلى عليه ، فقيل لسحنون : هل هو كمن شتم النبي r ، أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه ، قال : لا ، إذا كان على ما وصفت من الغضب ، لأنه لم يكن مضمراً الشتم .

وقال أبو إسحاق البرقي ، وأصبغ بن الفرج : لا يقتل ، لأنه إنما شتم الناس ، وهذا نحو قول سحنون : لأنه لم يعذره بالغضب في شتم النبي r ، ولكنه لما احتمل الكلام عنده ، ولم تكن معه قرينة على شتم النبي r ، أو شتم الملائكة صلوات الله عليهم ، ولا مقدمة يحمل عليها كلامه ، بل القرينة تدل على أن مراده الناس غير هؤلاء ، لأجل قول الآخر له : صل على النبي ، فحمل قوله وسبه لمن يصلي عليه الأن لأجل أمر الآخر له بهذا عند غضبه .هذا معنى قول سحنون ، و و مطابق لعلة صاحبيه .

و هب الحارث بن مسكين القاضي و يره في مثل هذا إلى القتل .

وتوقف أبو الحسن القابسي في قتل رجل قال : كل صاحب فندق قرنان ، ولو كان نبياً مرسلاً ، فأمر بشده بالقيود والتضييق عليه حتى تستفهم البينة عن جملة ألفاظه ، وما يدل على مقصده ، هل أراد أصحاب الفنادق الآن فمعلوم أنه ليس فيهم نبي مرسل ، فيكون أمره أخف .
قال : ولكن ظاهرُ لفظه العموم لكل صاحب فندق من المتقدمين والمتأخرين . وقد كان فيمن تقدم من الأنبياء والرسل من اكتسب المال .

قال : ودم المسلم لا يُقْدَم عليه إلا بأمر بيِّن . وما ترد إليه التأويلات لا بُد من إمعان النظر فيه . هذا معنى كلامه .

وحكي عن أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله ـ فيمن قال : لعن الله العرب ، ولعن الله بني إسرائيل ،  ولعن الله بني آدم ، وذكر أنه لم يرد الأنبياء ، وإنما أراد الظالمين منهم ـ إن عليه الأدب بقدر إجتهاد السلطان 
وكذلك أفتى ـ فيمن قال : لعن الله من حرم المسكر ، وقال : لم أعلم من حرمه .
وفيمن لعن حديث : لا يبع حاضر لباد . ولعن من جاء به ـ إنه إن كان يعذر بالجهل وعدم معرفة السُّـنن فعليه الأدب الوجيع ، وذلك أن هذا لم يقصد بظاهرة حاله سب الله ولا سب رسوله ، وإنما لعن من حرمه من الناس على نحو فتوى سحنون وأصحابه في المسألة المتقدمة .
ومثل هذا ما يجري في كلام سفهاء الناس في قول بعضهم لبعض : يا ابن ألف خنزير ، و ابن مائة كلب ، وشبهه من هُجر القول .

ولا شك أنه يدخل في مثل هذا العدد من آبائه وأجداده جماعة من الأنبياء ، ولعل بعض هذا العدد منقطع إلى آدم عليه السلام ، فينبغي الزجر عنه ، وتبيين ما جهله قائله منه وشدة الأدب فيه .
ولو علم أنه قصد سب من في آبائه من الأنبياء على علم لقتل .
وقد يُضَيَّقُ القولُ في نحو هذا لو قال لرجل هاشمي : لعن الله بني هاشم ـ وقال : أردت الظالمين منهم ، أو قال لرجل من ذرية النبي
r  قولاً قبيحاً في أبائه أو من نسله أو ولده على علم منه أنه من ذرية النبي r ، ولم تكن قرينة في المسألتين تقتضي تخصيص بعض أبائه ، وإخراج النبي r ممن سبه منهم .

 وقد رأيت لأبي موسى عيسى بن مناس ـ في من قال لرجل : لعنك الله إلى آدم عليه السلام ـ أنه إن ثبت عليه ذلك قتل  .

وقد كان اختلف شيوخنا فيمن قال لشاهد شهد عليه بشيء ثم قال له : تتهمني ؟ قال له الآخر : الأنبياء يتهمون ، فكيف أنت ؟ فكان شيخنا أبو إسحاق بن جعفر يرى قتله ، لبشاعة ظاهر اللفظ .

وكان القاضي أبو محمد بن منصور يتوقف عن القتل لأحتمل اللفظ عنده أن يكون خبراً عمن أتهمهم من الكفار .

وأفتى فيها قاضي قرطبة أبو عبد الله ابن الحاج بنحو هذا .

وشدد القاضي أبو محمد تصفيده ، وأطال سجنه ، ثم استحلفه بعد على تكذيب ما شهد به عليه ، إذ دخل في شهادة بعض من شهد عليه وهن ، ثم أطلقه .

وشاهدت شيخنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى أيام قضائه أتى برجل هاتر رجلاً ، ثم قصد إلى كلب فضربه برجله وقال له : قم يا محمد ، فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك ، وشهد عليه لفيف من الناس ، فأمر به إلى السجن ، وتقصى عن حاله ، وهل يصحب من يستراب بدينه ؟ فلما لم يجد ما يقوي الريبة باعتقاده ضربه بالسوط وأطلقه .

 الفصل السابع
حكم من لا يقصد نقصاً ، ولا يذكر عيباً ولا سباً ، لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه...

الوجه الخامس :ألا يقصد نقصاً ، ولا يذكر عيباً ولا سباً ، لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله r الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل ، والحجة لنفسه أو لغيره ، أو على التشبه به ، أو عند هضمية نالته ، أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي و طريق التحقيق ، بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره ، أو على سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه r ، أو على قصد الهزل  والتندير بقوله ، كقول القائل : إن قيل فيَّ السوء فقد قيل في النبي ، وإن كذبتُ فقد كذب الأنبياء ، أو إن أذنبتُ فقد أذنبوا ، أو أنا أَسْلَمُ من ألسنة الناس ولم يَسلم منهم أنبياء الله ورُسله ، أو قد صبرتُ كما صبر أولو العزم ، أو كصبر أيوب ، أو قد صبر نبيُّ الله عن عِداه ، وحلم على أكثر مما صبرت ، وكقول المتنبي  
                        أنــــا في أمة تداركـها       الله غريب كصالح في ثمود

ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول ، المتساهلين في الكلام ، كقول المعري :

                       كنت موسى وافته بنت شعيب       غير أن ليس فيكما من فقير

على أن آخر البيت شديد ، وداخل في باب الإزراء والتحقير بالنبي r   ، وتفضيل حال غيره عليه .

و كذلك قوله :

                    لولا انقطاع الوحي بعد محمد       قلنا محمد من أبيه بديل

                    هو مثله في الفضل إلا أنـه        لم يأته برسالة جبريـل


فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد ، لتشبيهه غير النبي في فضل بالنبي ، والعجز محتمل لوجهين : أحدهما أن هذه الفضيلة نقصت الممدوح ، والآخر استغناؤه عنها . وهذا أشد .

و نحو منه قول الآخر :

                      وإذا مـــا رفعت راياته       صفقت بين جناحي جَبرين

و قول الآخر من أهل العصر :

                   فر من الخلد واستجار بنا       فصبـَّر الله قلبَ رضـوان

وكقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ووزيره أبي بكر بن زيدون :

                  كأن أبا بكر أبو بكر الرضا       وحسان حسـان وأنت محمد

وإنما أكثرنا شاهدنا مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك ، واستخفافهم فادح هذا العبء وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر ، وكلامهم منه بما ليس لهم به علم ، ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ، لا سيما الشعراء . وأشدهم فيه تصريحاً ، وللسانه تسريحاً ،   ابن هانيءالأندلسي، وابن سليمان المعري ، بل قد خرج كثير من كلامهما إلى حد الاستخفاف والنقص    و صريح الكفر . وقد أجبنا عنه ، وغرضنا الآن الكلام في الفصل الذي سقنا أمثلته ، فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سباً ، ولا أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصاً ، ولست أعني عجُزيْ بيتي المعري ، ولا قصد قائلها إزراء وغضاً ، فما وقر النبوة ، ولا عظم الرسالة ، ولا عزز حرمة الاصطفاء ، ولا عزز حظوة الكرامة حتى شبه من شبه في كرامة نالها ، أو معرة قصد الانتقاء منها ، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره ، وشرف قدره ، وألزم توقيره وبره ، ونهى عن جهر القول له ، ورفع الصوت عنده . فحقُّ هذا ،إن دُرِئ عنه القتلُ، الأدبُ والسجنُ وقوةُ تعزيره بحسب شنعة مقاله ، ومقتضى قبح ما نطق به ، ومألوف عادته لمثله ، أو ندوره ، وقرينة كلامه ، أو ندمه على ما سبق منه ، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ، وقد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله :

                  فإن يك باقي سحر فرعون فيكم      فإن عصا موسى بكف خصيب

وقال له : يا ابن اللخناء ، أنت المستهزئ بعصا موسى ! وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته .

وذكر القتبي أن مما أخذ عليه أيضاً ، وكفر فيه ، أو قارب ـ قوله في محمد الأمين وتشبيهه إياه بالنبي    r، حيث قال :

                 تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها      خَلقاً وخُلقاً كما قُدَّ الشِّراكانِ

  وقد أنكروا عليه أيضاً قوله :

                كيف لا يدنيك مــــن أمل       من رسول الله مــن نفره


لأن حق الرسول وموجب تعظيمه وإنافة منزلته أن يُضاف إليه ، ولا يضافُ .
فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في طريق الفتيا على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس رحمه الله وأصحابه :ففي النوادر من رواية ابن أبي مريم عنه في رجل عير رجلاً بالفقر ، فقال : تعيرني بالفقر و د رعى النبي
r الغنم ؟ فقال مالك : قد عرض بذكر النبي r في غير موضعه ، أرى أن يؤدب  قال : ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا .

وقال عمر بن عبد العزيز لرجل : انظر لنا كاتباً يكون أبوه عربياً . فقال كاتب له : قد كان أبو النبي كافراً  فقال : جعلت هذا مثلاً ! فعزله ، وقال : لا تكتب لي أبداً .

وقد كره سحنون أن يصلى على النبي r عند التعجب إلا على طريق الثواب والاحتساب ، توقيراً له      وتعظيماً ، كما أمرنا الله .

وسئل القابسي عن رجل قال لرجل قبيح كأنه وجه نكير ، ولرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان ، فقال : أي شيء أراد بهذا ، ونكير أحد فتاني القبر ، وهما ملكان ، فما الذي أراد ! أروْع دخل عليه حين رآه من وجهه ، أم عاف النظر إليه لدمامة خلقه ؟ فإن كان هذا فهو شديد ، لأنه جرى مجرى التحقير والتهوين ، فهو أشد عقوبة ، وليس فيه تصريح بالسب للملك ، وإنما السب واقع على المخاطب . وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء ، قال : وأما ذاكر مالك خازن النار فقد جفا الذي ذكره عندما أنكر حاله من عبوس الآخر إلا أن يكون المعبس له يد فيرهب بعبسته ، فيشبهه القائل على طريق الذم لهذا في فعله ، ولزومه في ظلمه صفة مالِك  ،الملَك المطيع لربه في فعله ، فيقول كأنه لله يغضب غضب مالِك ، فيكون أخف ،    وما كان ينبغي له التعرض لمثل هذا ، ولو كان أثنى على العبوس بِعـبْسته ، واحتج بصفة مالِك كان أشد  ويعاقب المعاقبة الشديدة ، وليس في هذا ذم للملك ، ولو قصد ذمه لقتل .
وقال أبو الحسن أيضاً في شاب معروف بالخير قال لرجل شيئاً ، فقال الرجل :
اسكت ، فإنك أمِّيّ . فقال الشاب : أليس كان النبي
r أمِّياً ! فشنع عليه مقاله ، وكفره الناس ، وأشفق الشاب مما قال ، وأظهر الندم عليه ، فقال أبو الحسن : أما إطلاق الكفر عليه فخطأ، لكنه مُخطيء في استشهاده بصفة النبي r ، وكون النبي أمِّياً  آية له ، وكون هذا أمِّياً نقيصة فيه وجهالة .
ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي
r ، لكنه إذا استغفر وتاب ، واعترف ولجأ إلى الله فيترك ، لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل ، ما طريقه الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه .

ونزلت أيضاً مسألة استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد ابن منصور رحمه الله في رجل تنقَّصه آخر بشيء ، فقال له : إنما تريد نقصي بقولك ، وأنا بشر ، وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي r ، فأفتاه بإطالة سجنه ، وإيجاع أدبه ، إذ لم يقصد السب ، وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله .

                                          الفصل الثامن

حكم من يقول ذلك حاكياً عن غيره ...

الوجه السادس: أن يقول القائل ذلك حاكياً عن غيره ، وآثراً له عن سواه ، فهذا ينظر في صورة حكايته  وقرينة مقالته ، ويختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه : الوجوب ، و الندب ، والكراهة ، والتحريم. ، فإن كان أخبر به على وجه الشهادة التعريف بقائله ، والإنكار والإعلام بقوله ، والتنفير منه ، والتجريح له ـ فهذا مما ينبغي امتثاله ، ويحمد فاعله ، وكذلك إن حكاه في كتاب أو في مجلس على طريق الرد له والنقض على قائله ، وللفتيا بما يلزمه .
وهذا منه ما يجب ، ومنه ما يستحب بحسب حالات الحاكي لذلك والمحكي عنه ، فإن كان القائل لذلك ممن تصدى لأن يؤخذ عنه العلم أو رواية الحديث ، أو يقطع بحكمه أو شهادته ، أو فتياه في الحقوق ـ وجب على سامعه الإشادة بما سمع منه والتنفير للناس عنه ، والشهادة عليه بما قاله ، ووجب على من بلغه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره ، وبيان كفره ، وفساد قوله ، لقطع ضرره عن المسلمين ، وقياماً بحق سيد المرسلين ، وكذلك إن كان ممن يعظ العامة ، أو يؤدب الصبيان فإن من هذه سريرته لا يؤمن على إلقاء ذلك في قلوبهم ، فيتأكد في هؤلاء الإيجاب لحق النبي
r، ولحق شريعته .
وإن لم يكن القائل بهذه السبيل فالقيام بحق النبي
r واجب ، وحماية عرضه متعين ، ونصرته عن الأذى حياً وميتاً مستحق على كل مؤمن ، لكنه إذا قام بهذا من ظهر به الحق ، وفصلت به القضية ، وبان به الأمر سقط عن الباقي الفرض ، وبقي الاستحباب في تكثير الشهادة عليه ، وعضد التحذير منه .
وقد أجمع السلف على بيان حال المتهم في الحديث ، فكيف بمثل هذا ؟ .

وقد سئل أبو محمد بن أبي زيد عن الشاهد يسمع مثل هذا في حق الله تعالى : أيسعه ألا يؤدي شهادته ؟ قال : إن رجا نفاذ الحكم بشهادته فليشهد .
وكذلك إن علم أن الحاكم لا يرى القتل بما شهد به ، ويرى الاستتابة والأدب فليشهد ، ويلزمه ذلك .
وأما الإباحة لحكاية قوله لغير هذين المقصدين ، فلا أرى لها مدخلاً في هذا الباب ، فليس التفكه بعرض رسول الله
r، التمضمض بسوء ذكره لأحد ، لا ذاكراً ولا آثراً لغير غرض شرعي بمباح .
وأما للأغراض المتقدمة فمتردد بين الايجاب والاستحباب .
وقد حكى الله تعالى مقالات المفترين عليه وعلى رسله في كتابه على وجه الإنكار لقولهم ، والتحذير من كفرهم ، الوعيد عليه ، والرد عليهم بما تلاه الله علينا في محكم كتابه .
وكذلك وقع من أمثاله في أحاديث النبي الله
r الصحيحة على الوجوه المتقدمة ، وأجمع السلف والخلف من أئمة الهدى على حكايات مقالات الكفرة  والملحدين في كتبهم  ومجالسهم  ليبينوها للناس ، وينقضوا شبهها عليهم ، وإن كان ورد لأحمد بن حنبل إنكار لبعض هذا على الحارث ابن أسد ، فقد صنع أحمد مثله في رده على الجهمية و القائلين بالمخلوق .

هذه الوجوه السائغة الحكاية عنها ، فأما ذكرها على غير هذا من حكاية سبه والإزراء بمنصبه على وجه الحكايات والأسمار والطرف وأحاديث الناس ومقالاتهم في الغث والسمين ، ومضاحك المجان ، ونوادر السخفاء ، والخوض في قيل وقال ، ما لا يعني ـ فكل هذا ممنوع ، وبعضه أشد في المنع والعقوبة من بعض ، فما كان من قائله الحاكي له على غير قصد أو معرفة بمقدار ما حكاه ، أو لم تكن عادته ، أو لم يكن الكلام من البشاعة حيث هو ، ولم يظهر على حاكيه استحسانه واستصوابه ـ زُجر عن ذلك ، ونُهي عن العودة إليه ، وإن قُوِّم ببعض الأدب فهو مستوجب له ، وإن كان لفظه من البشاعة حيث هو كان الأدب أشد .

وقد حكي أن رجلاً سأل مالكاً عمن يقول : القرآن مخلوق . فقال مالك : كافر فاقتلوه . فقال : إنما حكيته عن غيري . فقال مالك : إنما سمعناه منك .

وهذا من مالك على طريق الزجر والتغليظ ، بدليل أنه لم ينفذ قتله .
وإن اتهم هذا الحاكي فيما حكاه أنه اختلقه ، ونسبه إلى غيره ، أو كانت تلك عادة له ، أو ظهر استحسانه لذلك ، أو كان مولعاً بمثله ، والاستخفاف له ، أو التحفظ لمثله ، وطلبه ، ورواية أشعار هجْو النبي
r    وسبه ، فحكم هذا حكم الساب نفسه ، يؤاخذ بقوله ، ولا تنفعه نسبته إلى غيره ، فيبادر بقتله ويعجل إلى الهاوية أمِّه .

قال أبو عبيد القاسم بن سلام ـ فيمن حفظ شطر بيت مما هُجي به النبي r فهو كفر .
وقد ذكر بعض من ألف في الإجماع ـ إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هُجي به النبي
r ، وكتابته وقراءته ، وتركه متى وجد دون محْو. ورحِم اللهُ أسلافنا المتقين المتحرزين لدينهم ، فقد أسقطوا من أحاديث المغازي والسير ما كان هذا سبيله ، وتركوا روايته إلا أشياء ذكروها يسيرة وغير مستبشعة ، على نحو الوجوه الأُوَّل ، ليروا نقمة الله من قائلها ، وأخذه المفتري عليه بذنبه .
وهذا أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله قد تحرى فيما اضطر إلى الاستشهاد به من أهاجي أشعار العرب في كتبه ، فكنى عن اسم المهجو بوزن اسمه ، استبراء لدينه ، وتحفظاً من المشاركة في ذم أحد أو نشره  فكيف بما يتطرق إلى عرض سيد البشر
r.  

الفصل التاسع
  ما يجوز على النبي
r ، أو يُختلف في جوازه...

الوجه السابع: أن يذكر ما يجوز على النبي r ، أو يختلف في جوازه عليه ، وما يطرأ من الأمور البشرية به ، وتمكن إضافتها إليه ، أو يذكر ما امتحن به ، وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه ،وأذاهم له ،ومعرفة ، ابتداء حاله وسيرته ،وما لقيه من بؤس زمنه ،ومر عليه من معاناة عيشه ، كل ذلك على طريق الرواية ، ومذاكرة العلم ، ومعرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء ، وما يجوز عليهم ـ فهذا فن خارج عن هذه الفنون الستة ، إذ ليس فيه غمص ولا نقص ، ولا إزراء ولا استخفاف ، لا في ظاهر اللفظ   ولا في مقصد اللافظ ، لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده . ويحققون فوائده ، وينجب ذلك من عساه لا يفقه ، أو يُخشى به فتنته ، فقد كرِه بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف ، لما انطوت عليه من تلك القصص لضعف معرفتهن ، ونقص عقولهن وإدراكهن ، فقد قال r ـ مخبراً عن نفسه باستيجار لرعاية الغنم في ابتداء حاله ، وقال : ما من نبي إلا و قد رعى الغنم .
وأخبرنا الله تعالى بذلك عن موسى عليه السلام ، وهذا لا غضاضة فيه جملة واحدة لمن ذكره على وجهه  بخلاف من قصد به الغضاضة والتحقير ، بل كانت عادة جميع العرب .
نعم ، في ذلك للأنبياء حكمة بالغة ، وتدريج لله تعالى لهم إلى كرامته ، وتدريب برعايتها لسياسة أممهم من خليقته بما سبق لهم من الكرامة في الأزل ، ومتقدم العلم .
وكذلك قد ذكر الله يُتمه وعَيلته على طريق المِنَّة عليه ، والتعريف بكرامته له ، فذِكر الذاكر لها على وجه تعريف حاله ، والخبر عن مبتدئه ، والتعجب من منح الله قبله ، وعظيم مِنَّـته عنده ليس فيه غضاضة ، بل فيه دلالة على نبوته وصحة دعوته ، إذ أظهره الله تعالى بعد هذا على صناديد العرب ومن ناوَأه من أشرافهم شيئاً فشيئاً ، ونمى أمره حتى قهرهم ، وتمكن من ملك مقاليدهم ، واستباحة ممالك كثير من الأمم غيرهم ، بإظهار الله تعالى له ، وتأييده بنصره وبالمؤمنين ، وألف بين قلوبهم ، وإمداده بالملائكة المسومين ، ولو كان ابنَ ملِكٍٍ أو ذا أشياع متقدمين لحسب كثير من الجهال أن ذلك موجب ظهوره ،       ومقتضى علوه ، ولهذا قال هرقل ـ حين سأل أبا سفيان عنه : هل في آبائه من ملِك ؟ فقال :لا . ثم قال : ولو كان في آبائه ملك لقلنا : رجل يطلب ملك أبيه ، وإذا اليتيم من صفته وإحدى علاماته في الكتب المتقدمة وأخبار الأمم السالفة .
وكذا وقع ذكره في كتاب أرميا ، وبهذا وصفه ابن ذي يزن لعبد المطلب ، وبحيرا لأبي طالب .
وكذلك إذا وصف بأنه أمِّيّ كما وصفه الله به ـ فهي مدحه له وفضيلة ثابتة فيه ، وقاعدة معجزته ، إذ معجزته العظمى في القرآن العظيم إنما هي متعلقة بطريق المعارف والعلوم ، مع ما مُنح
r ، وفُضِّل به من ذلك ، كما قدمناه في القسم الأول .
وجود مثل ذلك من رجل لم يقرأ ولم يكتب ولم يدارس لا لُـقِّن ـ مقتضى العجب ، ومنتهى العبر ،       ومعجزة البشر .

وليس في ذلك نقيصة ، إذ المطلوب من الكتابة والقراءة المعرفة ، وإنما هي آلة لها ، وواسطة موصلة إليها غير مرادة في نفسها ، فإذا حصلت الثمرة والمطلوب استغني عن الواسطة والسبب .
والأميَّة في غيره نقيصة ، لأنها سبب الجهالة ، وعنوان الغباوة ، فسبحان من باين أمره من أمر غيره ، وجعل شرفه فيما فيه محطة سواه ، وجعل حياته فيما فيه هلاك من عداه ، هذا شق قلبه ، وإخراج حشوته  كان تمام حياته ، وغاية قوة نفسه ، وثبات روعه ، وهو فيمن سواه منتهى هلاكه وحتم موته وفنائه ،   وهلم جراً إلى سائر ما روي من أخباره وسِيَره ، وتقلله من الدنيا   ومن الملبس والمطعم والمركب ،     وتواضعه ومهنته نفسه في أموره ، وخدمة بيته زهداً ورغبة عن الدنيا ، وتسوية بين حقيرها وخطيرها ، لسرعة فناء أمورها ، وتقلب أحوالها ، كل هذا من فضائله ومآثره وشرفه كما ذكرناه ، فمن أورد شيئاً منها مورده وقصد بها مقصدهكان حسناً ، ومن أورد ذلك على غير وجهه ، وعلم منه بذلك سوء قصده لحق بالفصول التي قدمناها .

وكذلك ما ورد من أخباره وأخبار سائر الأنبياء عليهم السلام في الأحاديث مما في ظاهره إشكال يقتضي أموراً لا تليق بهم بحال ، ويحتاج إلى تأويل وتردد احتمال ، فلا
يجب أن يتحدث منها إلا بالصحيح ، ولا يروى منها إلا المعلوم الثابت .
ورحم الله مالكاً ، فلقد كره التحدث بمثل ذلك من الأحاديث الموهمة للتشبيه والمشكلة المعنى ، وقال : ما يدعو إلى التحدث بمثل هذا ؟ فقيل له : إن ابن عجلان يحدث بها ، فقال : لم يكن من الفقهاء ، وليت الناس وافقوه على ترك الحديث بها ، وساعدوه على طيها ، فأكثرها ليس تحته عمل .

وقد حكي عن جماعة من السلف ، بل عنهم على الجملة ـ أنهم كانوا يكرهون الكلام فيما ليس تحته عمل والنبي r أوردها على قوم عرب يفهمون كلام العرب على وجهه ، وتصرفاتهم في حقيقته ومجازه ،    واستعارته ، وبليغه وإيجازه ، فلم تكن في حقهم مشكلةً ، ثم جاء من غلبت عليه العجمة ، داخلته الأمية ، فلا يكاد يفهم من مقاصد العرب إلا نصها وصريحها ، ولا يتحقق بإشاراتها إلى غرض الإيجاز ، ووحيها   وتبليغها ، وتلويحها ، فتفرقوا من تأويلها ، وحملها على ظاهرها شذر مذر ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر .

فأما ما لا يصح من هذه الأحاديث فواجب ألا يُذكر منها شيء في حق الله ولا في حق أنبيائه ، ولا يتحدث بها ، ولا يتكلف الكلام على معانيها . والصواب طرحها ، وترك الشغل بها إلا أن تذكر على وجه التعريف بأنها ضعيفة المقاد واهية الإسناد .

وقد أنكر الأشياخ على أبي بكر بن فورك تكلفه في مشكلة الكلام على أحاديث ضعيفة موضوعة لا أصل لها  أو منقولة عن أهل الكتاب الذين يلبسون الحق بالباطل كان يكفيه طرحها ، ويغنيه عن الكلام التنبيه على ضعفها ، إذ المقصود بالكلام على مشكل ما فيها إزالة اللبس ، واجتثاثها من أصلها ، وطرحها أكشف للبس و أشفى للنفس .

الفصل العاشر
الالتزام عند ذكر النبي
r بالواجب من توقيره وتعظيمه

ومما يجب على المتكلم فيما يجوز على النبي r وما لا يجوز ، والذاكر من حالاته ما قدمناه في الفصل قبل هذا على طريق المذاكرة والتعليم ، أن يلتزم في كلامه ، عند ذكره r ، وذكر تلك الأحوال ،الواجب من توقيره وتعظيمه ، ويراقب حال لسانه ، ولا يهمله ، وتظهر عليه علامات الأدب عند ذكره ، فإذا ذكر ما قاساه من الشدائد ظهر عليه الإشفاق والإرتماض ، والغيط على عدوه ، ومودة الفداء للنبي r لو قدر عليه ، والنصرة له لو أمكنته .

وإذا أخذ في أبواب العصمة ، وتكلم على مجاري أعماله وأقواله r تحرى أحسن اللفظ وأدب العبارة ما أمكنه ، واجتنب بشيع ذلك ، وهجر من العبارة ما يقبح ، كلفظة الجهل والكذب والمعصية ، فإذا تكلم في الأقوال قال : هل يجوز عليه الخلف في القول والإخبار بخلاف ما وقع سهواً أو غلطاً ، ونحوه من العبارة  ويتجنب لفظة الكذب جملةً واحدةً .

وإذا تكلم على العلم قال : هل يجوز ألا يعلم إلا ما علم ؟ وهل يمكن ألا يكون عنده علم من بعض الأشياء حتى يوحى إليه ، ولا يقول يجهل ، لقبح اللفظ و بشاعته .

وإذا تكلم في الأفعال قال : هل يجوز منه المخالفة في بعض الأوامر والنواهي ومواقعة بعض الصغائر ؟ فهو أولى وآدب من قوله : هل يجوز أن يعصي أو يذنب أو يفعل كذا وكذا ، من أنواع المعاصي ؟ فهذا من حق توقيره r، وما يجب له من تعزيز وإعظام .

و قد رأيت بعض العلماء لم يتحفظ من هذا ، فـقٌبِّح منه ، ولم أستصوب عبارتَه فيه .

ووجدت بعض الجائرين قوله لأجل ترك تحفظه في العبارة ما لم يقله ، وشنع عليه بما يأباه ، ويكفر قائله.

وإذا كان مثل هذا بين الناس مستعملاً في آدابهم وحسن معاشرتهم و خطابهم ، فاستعماله في حقه r أوجب ، والتزامه آكد .

فجودة العبارة تقبح الشيء أو تحسنه ، وتحريرها وتهذيبها تُعظِّم الأمر أو تهَوِّنُـه ، و لهذا قال r : إن من البيان لسحراً .


فأما ما أورده على جهة النفي عنه والتنزيه فلا حرج في تسريح العبارة وتصريحها فيه ، كقوله : لا يجوز عليه الكذب جملةً ، ولا إتيان الكبائر بوجه ، ولا الجور في الحكم على حال ، ولكن مع هذا يجب ظهور توقيره وتعظيمه عند ذكره مجرداً ، فكيف عند ذكر مثل هذا .

وقد كان السلف تظهر عليهم حالات شديدة عند مجرد ذكره ، كما قدمناه في القسم الثاني .
وقد كان بعضهم يلتزم مثل ذلك عند تلاوة آي من القرآن ، حكى الله تعالى فيها مقال عداه ، ومن كفر بآياته ، وافترى عليه الكذب ، فكان يخفض بها صوته إعظاماً لربه ، وإجلالاً له ، وإشفاقاً من التشبه بمن كفر به .

الباب الثاني

في حكم  وعقوبة ساب النبي r ، وشانئه ومتنقصه ومؤذيه ...

وفـــــــيــــه  5  فـصـول:

1- في حكم ساب وشانيء ومؤذي  النبي r

2- القول في استتابة الساب والشاتم للنبي r

3- في حكم من لم تتم الشهادة عليه

4- حكم الذمي إذا صرح بسب النبي r  ، أو عرض...

 5- في ميراث من قـُتل بسبِّ النبي r، وغسله ، والصلاة عليه...

                                               الفصل الآول

                                        في حكم ساب وشانيء ومؤذي النبي r

قد قدمنا ما هو سب وأذى في حقه صلى الله عليه و سلم ، و ذكرنا إجماع العلماء على قتل فاعل ذلك      وقائله ، أو تخيير الإمام في قتله أو صلبه على ما ذكرناه ، وقررنا الحجج عليه ... 
وبعد فاعلم أن مشهور مذهب مالك وأصحابه ، وقول السلف وجمهور العلماء قتله حداً لا كفراً إن أظهر التوبة منه ، ولهذا لا تقبل عندهم توبته ، ولا تنفعه استقالته ولا فيئته كما قدمناه قبل ، وحكمه حكم الزنديق ، ومسر الكفر في هذا القول ، وسواء كانت توبته على هذا بعد القدرة عليه والشهادة على قوله ، أو جاء تائباً من قبل نفسه ، لأنه حد لا تسقطه التوبة كسائر الحدود .

قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله : إذا أقر بالسب ، وتاب منه ، وأظهر التوبة ـ قتل بالسب ، لأنه هو حده .

  وقال أبو محمد بن أبي زيد في مثله ، وأما ما بينه و بين الله فتوبته تنفعه .

وقال ابن سحنون : من شتم النبي r من الموحدين ، ثم تاب عن ذلك لم تُزل توبتُه عنه القتلَ .
وكذلك قد اختلف في الزنديق إذا جاء تائباً ، فحكى القاضي أبو الحسن بن القصار في ذ لك قولين :
قال : من شيوخنا من قال : أقتله بإقراره ، لأنه كان يقدر على ستر نفسه ، فلما اعترف خفنا أنه خشي الظهور عليه فبادر لذلك .
ومنهم من قال : أقبل توبته ، لأني أستدل على صحتها بمجيئه ، فكأننا وقفنا على باطنه ، بخلاف من أسرتْه البيـَّــنة .

قال القاضي أبو الفضل : وهذا قول أصبغ ، ومسألة ساب النبي r أقوى ، لا يتصور فيها الخلاف على الأصل المتقدم ، لأنه حق متعلق للنبي r ولأمته بسبه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين .
والزنديق إذا تاب بعد القدرة عليه فعند مالك ، والليث ، وإسحاق ، وأحمد ، لا تقبل توبته .
وعند الشافعي تقبل . واختلف فيه أبي حنيفة و أبي يوسف .

وحكى ابن المنذر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : يستتاب .

قال محمد بن سحنون : ولم يُزَلِ القتلُ عن المسلم بالتوبة من سبِّه r، لأنه لم ينتقل من دين إلى غيره ، وإنما فعل شيئاً حده عندنا القتل لا عفو فيه لأحد ، كالزنديق ، لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر .

وقال القاضي أبو محمد بن نصر محتجاً لسقوط اعتبار توبته : والفرق بينه و بين من سب الله تعالى على مشهور القول باستتابته ـ أن النبي r بشر ، والبشر جنس تلحقه المعرة إلا من أكرمه الله بنبوته ،     والبارئ تعالى منزه عن جميع المعايب قطعاً ، وليس من جنس تلحق المعرة بجنسه ، وليس سبه r كالارتداد المقبول فيه التوبة ، لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد ، لا حق فيه لغيره من الآدميين ، فقبلت توبته . ومن سب النبي r تعلق فيه حق لآدمي ، فكان كالمرتد يقتل حين ارتداده أو يقذف ، فإن توبته لا تسقط عند حد القتل والقذف .
وأيضاً فإن توبة المرتد إذا قبلت لا تسقط ذنوبه من زنا وسرقة وغيرها ، ولم يُقتَل سابُّ النبي
r    لكفره ، لكن لمعنى يرجع إلى تعظيم حرمته وزوال المعرة به ، وذلك لا تسقطه التوبة .

*  قال القاضي أبو الفضل : يريد ـ و الله أعلم : لأن سبه لم يكن بكلمة تقتضي الكفر ، ولكن بمعنى الإزراء والإستخفاف ، أو لأن بتوبته وإظهار إنابته ارتفع عنه اسم الكفر ظاهراً ، والله أعلم بسريرته ،    وبقي حكم السب عليه .

 وقال أبو عمران القابسي : من سب النبي r ، ثم ارتد عن الإسلام قُتل و لم يُستتب ، لأن السب من حقوق الآدميين التي لا تسقط عن المرتد  . وكلام شيوخنا هؤلاء مبني على القول بقتله ، حداً لا كفراً ،   وهو يحتاج إلى تفصيل .

وأما على رواية الوليد بن مسلم عن مالك وافقه على ذلك ممن ذكرناه وقال به من أهل العلم ـ فقد صرحوا أنه ردة ، قالوا : و يستتاب منها ، فإن تاب نكل ، وإن أبَى قُتل ، فحكَم له بحُكم المرتد مطلقا في هذا الوجه .

والوجه الأول أشهر وأظهر لما قدمناه ، ونحن نبسط الكلام فيه ، فنقول  :
من لم يرَه ردَّه فهو يوجب القتل فيه حداً ، وإنما نقول ذلك مع فصلين : إما مع إنكاره ما شهد به عليه ، و إظهاره الإقلاع والتوبة عنه ، فنقتله حداً لثبات كلمة الكفر عليه في حق النبي
r، وتحقيره ما عظم الله من حقه ، وأجرَينا حكمه في ميرائه ، وغير ذلك حكم الزنديق إذا ظهر عليه و أنكر أو تاب .
فإن قيل : فكيف تثبتون عليه الكفر ، ويشهد عليه بكلمة الكفر ولا تحكمون عليه بحكمه من الاستتابة     وتوابعها ؟ قلنا : نحن وإن أثبتنا له حكم الكافر فلا نقطع عليه بذلك ، لإقراره بالتوحيد والنبوة ، وإنكاره ما شهد به عليه ، أو زعمه أن ذلك كان منه وَهَلاً ومعصيةً ، وأنه مقلع عن ذلك نادم عليه ، ولا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر على بعض الأشخاص وإن لم تثبت له خصائصه ، كقتل تارك  الصلاة .
وأما من علم أنه سبه معتقداً استحلاله فلا شك في كفره بذلك .
وكذلك إن كان سبه في نفسه كفر ، كتكذيبه أو تكفيره ونحوه ، فهذا مما لا إشكال فيه ، ويقتل وإن تاب منه ، لأنا لا نقبل توبته ، ونقتله بعد التوبة حداً ، لقوله ، ومتقدم كفره ، وأمرُه بعد إلى الله المطلع على صحة إقلاعه ، العالم بسره .
وكذلك من لم يظهر التوبة ، واعترفَ بما شُهد به عليه ، وصمَّم عليه ـ فهذا كافر بقوله وباستحلاله . هتك حرمة الله وحرمة نبيه
r يقتل كافراً بلا خلاف .

فعلى هذه التفصيلات خذْ كلام العلماء ، ونزِّلْ مختلفَ عباراتهم في الاحتجاج عليها ، وأَجْـرِ اختلافهم في الموارثة وغيرها على ترتيبها تتَّضحْ لك مقاصدُهم إن شاء الله تعالى .

الفصل  الثاني
القول في استتابة الساب والشاتم للنبي
r

إذا قلنا بالاستتابة حيث تصح فالاختلاف فيها على الاختلاف في توبة المرتد ، إذ لا فرق .
وقد اختلف السلف في وجوبها وصورتها ومدتها ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن المرتد يستتاب .
وحكى ابن القصار أنه إجماع من الصحابة على تصويب قول عمر في الاستتابة ، ولم ينكره واحد منهم ، وهو قول عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وبه قال عطاء بن أبي رباح ، والنخعي ، والثوري ، ومالك    وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي .

وذهب طاوس، وعبيد بن عمير ، والحسن في إحدى الروايتين عنه أنه لا يستتاب ، وقاله عبد العزيز بن أبي سلمة ، وذكره عن معاذ ، وأنكره سحنون عن معاذ ، وحكاه الطحاوي عن أبي يوسف ، وهو قول أهل الظاهر ، قالوا : وتنفعه توبته عند الله ، ولكن لا ندرأ القتلَ عنه ، لقوله  r: من بدل دينه فاقتلوه .

وحكي أيضاً عن عطاء : إن كان ممن ولد في الإسلام لم يستتب ، ويستتاب الإسلامي .

وجمهور العلماء على أن المرتد والمر تدة في ذلك سواء .

وروي عن علي رضي الله عنه : لا تُقتل المرتدة ، و تُسترَقّ ، وقاله عطاء ، وقتادة .

وروي عن ابن عباس : لا تقتل النساء في الردة ، وبه قال أبو حنيفة .

قال مالك : والحر والعبد و الذكر والأنثى في ذلك سواء .

وأما مدتها فمذهب الجمهور ، وروي عن عمر ، أنه يستتاب ثلاثة أيام يحبس فيها ، وقد اختلف فيه عن عمر ، وهو أحد قولي الشافعي ، وقول أحمد ، وإسحاق ، واستحسنه مالك ، وقال : لا يأتي الاستظهار إلا بخير ، وليس عليه جماعة الناس ..

قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد : يريد في الاستثناء ثلاثاً .

وقال مالك أيضاً : الذي آخذُ به في المرتد قولَ عمر : يحبس ثلاثة أيام ، ويعرض عليه كل يوم ، فإن تاب و إلا قتل .

وقال أبو الحسن بن القصار في تأخيره ثلاثاً روايتان عن مالك : هل ذلك واجب أو مستحب ؟ واستحسن الاستتابة و الاستيناء ثلاثاً أصحاب الرأي .


وروي عن أبي بكر الصديق أنه استتاب امرأة فلم تتب فقتلها ، وقاله الشافعي مرة ، فقال : إن لم يتب قُتل مكانه . و استحسنه المزني .

وقال الزهري : يدعى إلى الإسلام ثلاث مر ات ، فإن أبى قتل .

وروي عن علي رضي الله عنه : يستتاب شهرين . وقال النخعي : يستتاب أبداً ، وبه أخذ الثوري ما رُجِيَت توبتُه .

وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة ـ أنه يستتاب ثلاث مرات في ثلاثة أيام أو ثلاث جمع كل يوم أو جمعة مرة .

وفي كتاب محمد ، عن القاسم : يدعى المرتد إلى الإسلام ثلاث مرات ، فإن أبى ضربت عنقه .
واختلف على هذا هل يهدد أو يشدد عليه أيام الاستتابة ليتوب أم لا ؟ فقال مالك : ما علمت في الاستتابة تجويعاً و لا تعطيشاً ، و يُؤتى من الطعام بما لا يضره .

وقال أصبغ : يخوف أيام الاستتابة بالقتل ، ويُعرض عليه الإسلام .

وفي كتاب أبي الحسن الطابثي : يوعظ في تلك الأيام ، ويُذكَّر بالجنة ، ويُخوَّف بالنار .

قال أصبغ : وأي المواضع حبس فيها من السجون مع الناس أو وحده إذا استوثق منه سواء ، ويوقف ماله إذا خيف أن يُتلِفه على المسلمين ، ويُطعم منه ، و يُسقى .
و كذلك يستتاب كلما رجع وارتد أبداً ، وقد استتاب رسول الله
r نبهان الذي ارتد أربع مرات أو خمساً .

وقال ابن وهب ، عن مالك : يستتاب أبداً كلما رجع ، وهو قول الشافعي ، وأحمد ، وقاله ابن القاسم .

وقال إسحاق : يُقتل في الرابعة .

وقال أصحاب الرأي : إن لم يتب في الرابعة قُتل دون استتابة ، وإن تاب ضرب ضرباً وجيعاً ، ولم يخرج من السجن حتى يظهر عليه خشوع التوبة .

قال ابن المنذر : ولا نعلم أحداً أوجب على المرتد في المرة الأولى أدباً إذا رجع . وهو على مذهب مالك والشافعي والكوفي .

الفصل الثالث
في حكم من لم تتم الشهادة عليه ..

هذا حكم من ثبت عليه ذلك بما يجب ثبوته من إقرار أو عدول لم يدفع فيهم ، فأما من لم تتم الشهادة عليه بما شهد عليه الواحد أو اللفيف من الناس ، أو ثبت قوله لكن احتمل ولم يكن صريحاً .
وكذلك إن تاب على القول بقبول توبته فهذا يدرأ عنه القتل ، ويتسلط عليه اجتهاد الإمام بقدر شهرة حاله  وقوة الشهادة عليه ، وضعفها ، وكثرة السماع عنه ، وصورة حاله من التهمة في الدين والنبر بالسفه    والمجون ، فمن قوي أمره أذاقه من شديد النكال من التضيق في السجن ، والشد في القيود إلى الغاية التي هي منتهى طاقته لما لا يمنعه القيام لضرورته ، ولا يقعده عن صلاته ، وهو حكم كل من وجب عليه القتل  لكن وقف عن قتله لمعنى أوجبه ، وتربص به لإشكال وعائق اقتضاه أمره ، وحالات الشدة في نكاله تختلف بحسب اختلاف حاله .

وقد روى الوليد عن مالك والأوزاعي أنها  ردة ، فإذا تاب نكل .

ولمالك في العتبية وكتاب محمد ، من رواية أشهب : إذا تاب المرتد فلا عقوبة عليه وقاله سحنون .

وأفتى أبو عبد الله بن عتاب فيمن سب النبي r، فشهد عليه شاهدان عُدِّلض أحدُهما بالأدب الموجع        والتنكيل والسجن الطويل حتى تظهر توبته .

وقال القابسي في مثل هذا : ومن كان أقصى أمره القتل فعاق عائق أشكل في القتل لم ينبَغِ أن يطلق من السجن ، ويستطال سجنه ، ولو كان فيه من المدة ما عسى أن يقيم ، ويحمل عليه من القيد ما يطيق .
وقال في مثله ممن أشكل أمره : يشد في القيود شداً ، ويُضيَّق عليه في السجن حتى ينظر فيما يجب عليه

وقال في مسألة أخرى مثلها : ولا تهراق الدماء إلا بالأمر الواضح ، وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء ، ويعاقب عقوبة شديدة ، فأما إن لم يشهد عليه سوى شاهدين ، وأثبت من عداوتهما أو جرحتهما ما أسقطهما عنه ، ولم يسمع ذلك من غيرها فأمره أخف لسقوط الحكم عنه ، وكأنه لم يشهد عليه ، إلا أن يكون مما لا يليق به ذلك ، ويكون الشاهدان من أهل التبريز فأسقطهما بعداوة ، فهو وإن لم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما فلا يدفع الظن صدقهما ، وللحاكم هنا في تنكيله موضع اجتهاد .
والله ولي الإرشاد .

الفصل  الرابع
 حكم الذمي إذا صرح بسب النبي
r  ، أو عرض ..

هذا حكم المسلم ، فأما الذمي إذا صرح بسبه أو عرَّض ، أو استخف بقدرالنبي r أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم ، لأنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا ، وهو قول عامة الفقهاء ، إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة ، فإنهم قالوا : لا يقتل ، ما هو عليه من الشرك أعظم ، و لكن يؤدب و يعزز .

واستدل بعض شيوخنا على قتله بقوله تعالى : (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) (التوبة : 12
ويستدل عليه أيضاً بقتل النبي
r  لابن الأشرف وأشباهه ، ولأنا لم نعاهدهم ، ولم نعطهم الذمة على هذا  ولا يجوز لنا أن نفعل ذلك معهم ، فإذا أتوا ما لم يعطوا عليه العهد ولا الذمة فقد نقضوا ذمتهم ، وصاروا كفاراً يُقتلون لكفرهم .
وأيضاً فإن ذمتهم لا تُسقط حدودَ الإسلام عنهم ، من القطع في سرقة أموالهم ، والقتل لمن قتلوه منهم     وإن كان ذلك حلالاً عندهم فكذلك سبهم النبي
r يُقتلون به .

ووردت لأصحابنا ظواهر تقتضي الخلاف إذا ذكره الذمي بالوجه الذي كفر به ، ستقف عليها من كلام ابن القاسم و ابن سحنون بعد .

  وحكى أبو المعصب الخلاف فيها عن أصحابه المدنيين . واختلفوا إذا سبه ثم أسلم ، فقيل : يسقط إسلامه قتله ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب ، لأن نعلم باطنةَ الكافر في بُغضه له ، وتنقصه بقلبه ، لكنّا منعناه من إظهاره ، فلم يزدنا ما أظهره إلا مخالفة للأمر ، ونقض للعهد ، فإذا رجع عن دينه الأول إلى الإسلام سقط ما قبله ، قال الله تعالى :( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ) (الأنفال : 38 )
والمسلم بخلافه ، إذا كان ظننا بـباطنه حكم ظاهره ، وخلاف ما بدا منه الأن ، فلم نقبل بعد رجوعه ولا استنمنا إلى باطنه ، إذ قد بدت سرائره ، وما ثبت عليه من الأحكام باقية عليه لا يسقطها شيء .
وقيل : لا يُسقط إسلامُ الذمي السابِّ قتلَه ، لأنه حق النبي
r وجب عليه ، لانتهاكه حرمته ، وقصده إلحاق النقيصة والمعرة به ، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه ، كما وجب عليه من حقوق المسلمين من قبل إسلامه منقتل وقذف ، وإذا كنا لا نقبل توبة المسلم فإنا لا نقبل توبة الكافر أولى .

وقال مالك في كتاب ابن حبيب والمبسوط ، وابن القاسم ، وابن الماجشون ، وابن عبد الحكم ، وأصبغ ـ فيمن شتم نبيناً r من أهل الذمة أو أحداً من الأنبياء عليهم السلام قتل إلا أن يُسلم ، وقاله ابن القاسم في العتبية ، وعند محمد ، وابن سحنون .
وقال سحنون وأصبغ : لا يقال له أسلم ، ولا لا تسلم ، ولكن إن أسلم فذلك له توبة .
وفي كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سبَّ رسول
r أو غيرَه من الأنبياء من مسلم أو كافر قُتل و لم يُستتب .

وروي لنا عن مالك : إلا أن يسلم الكافر .

وقد روى ابن وهب ، عن ابن عمر ـ أن راهباً تناول النبي r ، فقال ابن عمر : فهلَّا قتلتموه ! .

وروى عيسى عن ابن القاسم في ذمي قال : إن محمداً لم يرسل إلينا ، إنما أرسل إليكم ، وإنما نبينا موسى أو عيسى ، ونحو هذا : لا شيء عليهم ، لأن الله تعالى أقرهم على مثله .

وأما إن سبَّه فقال : ليس بنبي ، أو لم يرسل ، أو لم ينزل عليه القرآن ، وإنما شيء تقوله أو نحو هذا فيُقتل .

وقال ابن القاسم : وإذا قال النصراني : ديننا خير من دينكم ، وإنما دينكم دين الحمير ، ونحو هذا من القبيح أو سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله ،
فقال : كذلك يعطيكم الله ، ففي هذا،الأدبُ الموجع والسجنُ الطويل .

قال : وأما إن شتم النبي r تماً يعرف فإنه يُقتل إلا أن يسلم ، قاله مالك غير مرة ، ولم يقل يستتاب .

قال ابن القاسم : ومحمل قوله عندي إن أسلم طائعاً .

وقال ابن سحنون في سؤالات سليمان بن سالم في اليهودي يقول للمؤذن ، إذا تشهد : كذبت ـ يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل .

وفي النوادر من رواية سحنون عنه : من شتم الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم .

قال محمد بن سحنون : فإن قيل : لم قتلته في سب النبي r  ون دينه سبه وتكذيبه ؟ قيل : لأنا لم نعطهم العهد على ذلك ، ولا على قتلنا ، وأخذ أموالنا ، فإذا قتل واحد منا قتلناه ، وإن كان من دينه استحلاله ، فكذلك إظهاره لسب نبينا r.

قال سحنون : كما لو بذل لنا أهل الحرب الجزية على اقرارهم على سبِّه لم يجز لنا ذلك في قول قائل .

وكذلك ينتقص عهد من سب منهم ، ويحل لنا دمه فكما لم يحصن الإسلام من سبه من القتل كذلك لا تحصنه الذمة .

*ال القاضي أبو الفضل : ما ذكره ابن سحنون عن نفسه وعن أبيه مخالف لقول ابن القاسم فيما خفف عقوبتهم فيه مما به كفروا ، فتأمله .
ويدل على أنه خلاف ما روي عن المدنيين في ذلك ، فحكى أبو المصعب الزهري ، قال : أتيت بنصراني قال : والذي اصطفى عيسى على محمد ، فاختلف على فيه ، فضربته حتى قتلته ، أو عاش يوماً وليلة ، وأمرت مَن جرَّ برجله ، و طُرح على مزبلة ، فأكلته الكلاب .

وسئل أبو المصعب عن نصراني قال : عيسى خلق محمداً . فقال : يُقتل .

وقال ابن القاسم : سألنا مالكاً عن نصراني بمصر شهد عليه أنه قال : مسكين محمد ، يخبرك أنه في الجنة ، ما له لم  ينفع نفسه ! إذ كانت الكلاب تأكل ساقيه ، لو قتلوه استراح منه الناس .
قال مالك : أرى أن تضرب عنقه .
قال ولقد كدت ألا أتكلم فيها بشيء ، ثم رأيت أنه لا يسعني الصمت .

قال ابن كنانة في المبسوطة : من شتم النبي r من اليهود والنصارى فأرى للإمام أن يحرقه بالنار وإن

شاء قتله ثم  حرق جثته ، وإن شاء أحرقه بالنار حياً إذا تهافتوا في سبه .
وقد كتب إلى مالك من مصر مسألة ابن قاسم المتقدمة ، قال : فأمرني مالك ، فكتبت بأن يقتل ، وأن يضرب عنقه ، فكتبت ، ثم قلت : يا أبا عبد الله ، وأكتب : ثم يحرق بالنار ؟ فقال كان إنه لحقيق بذلك ،  وما أولاه به .

فكتبته بيدي بين يديه ، فما أنكره ولا عابه ، ونفذت الصحيفة بذلك فقتل وحرق .
وأفتى عبيد الله ابن يحيى وابن لبابة في جماعة سلف أصحابنا الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية وبنوة عيسى الله ، وبتكذيب محمد في النبوة ، وبقبول إسلامها ودرأ القتل عنها به .
وبه قال غير واحد من المتأخرين منهم القابسي ، وابن الكتاب .

وقال أبو القاسم بن الجلاب في كتابه : من سب الله ورسوله r   من مسلم أو كافر قتل ولا يستتاب .

وحكى القاضي أبو محمد في الذمي يسب النبي r  روايتين في درء القتل عنه بإسلامه .

وقال ابن سحنون : وحد القذف وشبهه من حقوق العباد لا يُسقطه عن الذمي إسلامُه ، وإنما يسقط عنه بإسلامه حدود الله .فأما حد القذف فحق للعباد ، كان ذلك لنبي أو غيره ، فأوجب على الذمي إذا قذف النبي r  ثم أسلم حد القذف .

ولكن انظر ماذا يجب عليه ؟ هل حد القذف في حق النبي r ، وهو القتل لزيادة حرمة النبي r على غيره ، أم هل يسقط القتل بإسلامه ، ويحد ثمانين ؟ فتأمله ... 

الفصل الخامس
في ميراث من قـُتل بسبِّ النبي
r، وغسله ، والصلاة عليه...

اختلف العلماء في ميراث من قُتل بسبب النبي r ، فذهب سحنون إلى أنه لجماعة المسلمين من قبل أنَّ شتمَ النبي r  كفرٌ يشبه كفرَ الزندقة .

وقال أصبغ : ميراثه لورثته من المسلمين إن كان مستسراً بذلك ، وإن كان مظهراً له مستهلاً به فميراثه للمسلمين ، ويقتل على كل حال ولا يستتاب .

وقال أبو الحسن القابسي : إن قتل وهو منكر للشهادة عليه فالحكم في ميراثه على ما أظهره من إقراره ـ يعني لورثته ، والقتل حد ثبت عليه ليس من الميراث في شيء . و كذلك لو أقر بالسب وأظهر التوبة لقُتل  إذ هو حده . وحكمه في ميراثه ، وسائر أحكامه حكم الإسلام . ولو أقر بالسب ، وتمادى عليه ، وأبى التوبة منه ، فقتل على ذلك كان كافراً ، وميراثه للمسلمين ، ولا يغتسل ولا يصلى عليه ، ولا يكفن وتُستر عورتُه ، ويوارى كما يفعل بالكفار .

وقول الشيخ أبي الحسن في المجاهرالمتمادي بيِّن لا يمكن الخلاف فيه ، لأنه كافر مرتد غير تائب مقلع .
وهو مثل قول أصبغ ، وكذلك في كتاب ابن سحنون في الزنديق يتمادى على قوله .

ومثله لابن القاسم في العتبية ولجماعة من أصحاب مالك في كتاب ابن حبيب فيمن أعلن كفره مثله .

قال ابن القاسم : وحكمه حكم المرتد لا يرثه ورثته من المسلمين ، ولا من أهل الدين الذي ارتد إليه ، ولا تجوز وصاياه ولا عتقه ، وقاله أصبغ ، قُتل على ذلك أو مات عليه .

وقال أبو محمد بن أبي زيد : وإنما يختلف في ميراث الزنديق الذي يستهل بالتوبة ، فلا تقبل منه ، فأما المتمادي فلا خلاف أنه لا يورث .

وقال أبو محمد فيمن سب الله تعالى ثم مات ولم تعدل عليه بيِّنة ، أو لم تقبل : إنه يُصلَّى عليه .


وروى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب ابن حبيب فيمن كذب برسول الله
r، وأعلن ديناً مما يفارق به الإسلام  أن ميراثه للمسلمين .

وقال بقول مالك : إن ميراث المرتد للمسلمين ولا ترثه ورثتُه : ربيعة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن أبي ليلى ، واختلف فيه عن أحمد .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وابن المسيب ، والحسن ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، والحكم ، والأوزاعي ، والليث ، وإسحاق ، وأبو حنيفة : ترثه ورثته من المسلمين .

وقيل ذلك فيما كسبه قبل ارتداده ، وما يكسبه في الإرتداد فللمسلمين .

*قال القاضي أبو الفضل : وتفصيل أبي الحسن في باقي جوابه حسن بين ، وهو على رأي أصبغ ،        وخلاف قول سحنون ، واختلافهما على قولي مالك في ميراث الزنديق ، فمرة ورثه ورثته من المسلمين قامت بذلك بينة فأنكرها ، أو اعترف بذلك وأظهر التوبة . وقاله أصبغ ، ومحمد بن مسلمة ، وغير واحد من أصحابه،لأنه مظهر للإسلام بإنكاره أو توبته  حكمه حكم المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله r 

و روى ابن نافع عنه في العتبية ، وكتاب محمد : أن ميراثه لجماعة المسلمين ، لأن ماله تبع لدمه .
وقال به أيضاً جماعة من أصحابه ، وقاله أشهب ، والمغيرة ، وعبد الملك ، ومحمد ، وسحنون .

وذهب ابن القاسم في العتبية إلى أنه إن اعترف بما شهد عليه به وتاب فقتل فلا يورَث . وإن لم يقر حتى قُتل أو مات وُرث .

قال : وكذلك كل من أسر كفراً فإنهم يتوارثون بوراثة الإسلام .
وسئل أبو القاسم ابن الكاتب عن النصراني يسب النبي
r  فيُقتل ، هل يرثه أهل دينه أم المسلمون ؟
فأجاب بأنه للمسلمين ليس على جهة الميراث ، لأنه لا توارث بين أهل ملتين ، ولكن لأنه من فيئهم ، لنقضه العهد ، وهذا معنى قوله واختصاره .

الباب الثالث

في حكم من سب الله تعالى وملائكته وكتبه ، وأنبياءه ، وآل النبي r وأزواجه وصحبه

وفــــيـه 10 فـــــصـول:

1-  في حُكم مَن سبَّ الله تعالى

2- حكْم من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به

3- في تحقيق القول في تكفيرالمتأولين

4- في بيان ما هو من المقالات كفر ، وما يتوقف أو يختلف فيه ، وما ليس بكفر

5- في حكم الذمي إذا  سبَّ اللهَ تعالى

6- في مفتري الكذب على الله تبارك وتعالى بادعاء الإلهية

7- فيمن تكلم بسقط القول وسخف اللفظ ، ممن لم يضبط كلامه

8- في حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى وملائكته واستخف بهم أو كذبهم

9- في حكم من استخف بالقرآن أو المصحف  

10- في حكم ساب آل بيت النبي r

                                                الفصل الأول

                                           في حُكم مَن سبَّ الله تعالى

لا خلاف أن سابَّ الله تعالى من المسلمين كافرٌ حلالُ الدم . و اختُلِف في استتابته ، فقال ابن القاسم في المبسوط ، وفي كتاب ابن سحنون ، ومحمد ، ورواه ابن القاسم عن مالك في كتاب إسحاق بن يحيى : من سبَّ اللهَ تعالى من المسلمين قُتل ولم يُستتب إلا أن يكون افتراء على الله بارتداده إلى دين دان به وأظهره فيُستتاب ، وإن لم يظهره لم يستتب .

وقال ،في المبسوطة، مطرف وعبد الملك مثله .

وقال المخزومي ، ومحمد بن سلمة ، وابن أبي حازم : لا يُقتل المسلم بالسب حتى يستتاب .
وكذلك اليهودي والنصراني ، فإن تابوا قبل منهم ، وإن لم يتوبوا قُتلوا ولا بد من الاستتابة ، وذلك كله كالردة ، وهو الذي حكاه القاضي بن نصر عن المذهب .

وأفتى أبو محمد بن أبي زيد فيما حكي عنه في رجل لعن رجلاً ولعن الله ، فقال : إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني ، فقال : يُقتل بظاهر كفره ، ولا يقبل عذره .
وأما فيما بينَه و بيْن الله تعالى فمعذور .

واختلف فقهاء قرطبة في مسألة هارون بن حبيب أخي عبد الملك الفقيه ،وكان ضيق الصدر، كثير التبرم ، وكان قد شهد عليه بشهادات ، منها أنه قال عند استقلاله من مرض : لقيت في مرضى هذا ما لو قَتلت أبا بكر وعمر لم أستوجب هذا كله .
فأفتى إبراهيم بن حسين بن خالد بقتله ، وأن مضمن قوله تجوير لله تعالى وتظلم منه ، والتعريض فيه كالتصريح .

وأفتى أخوه عبد الملك بن حبيب ، وإبراهيم بن حسين بن عاصم ، وسعيد بن سليمان القاضي بطرح القتل عنه ، إلا أن القاضي رأى عليه التثقيل في الحبس ، والشدة في الأدب ، لاحتمال كلامه ، وصرفه إلى التشكي ، فوجه من قال في ساب الله بالاستتابة ـ إنه كفر ورِدَّة محضة لم يتعلق بها حق لغير الله ، فأشبه قصد الكفر بغير سب الله ، وإظهار الانتقال إلى دين آخر من الأديان المخالفة للإسلام .
ووجه ترك استتابته أنه لما ظهر منه ذلك بعد إظهار الإسلام قبل اتهمناه وظننا أن لسانه لم ينطق به إلا    وهو معتقد له ، إذ لا يتساهل في هذا أحد ، فحكم له بحكم الزنديق ، ولم تقبل توبته ، وإذا انتقل من دين إلى آخر ، وأظهر السب بمعنى الارتداد فهذا قد أعلم أنه خلع ربقة الإسلام من عنقه ، بخلاف الأول    المتمسك به ، وحكم هذا حكم المرتد : يستتاب على مشهور مذاهب أكثر أهل العلم ، وهو مذهب مالك     وأصحابه على ما بيناه قبل ، وذكرنا الخلاف في فصوله .

الفصل الثاني
حكم من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به

وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به ليس على طريق السب ولا الردة وقصد الكفر ، ولكن على طريق التأويل والاجتهاد والخطأ المفضي إلى الهوى والبدعة ، من تشبيه أو نعت بجارحة أو نفي صفة كمال ، فهذا مما اختلف السلف  والخلف في تكفير قائله ومعتقده .
واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك ، ولم يختلفوا في قتالهم إذا تحيزوا فئةً ، وأنهم يستتابون ، فإن تابوا وإلا قُتلوا وإنما اختلفوا في المنفرد منهم ، وأكثر قول مالك وأصحابه ترك القول بتكفيرهم ، وترك قتلهم ، والمبالغة في عقوبتهم ، وإطالة سجنهم ، حتى يظهر إقلاعهم ، وتستبين توبتهم ، كما فعل عمر رضي الله عنه بصبيغ .

وهذا قول محمد بن المواز في الخوارج وعبد الملك بن الماجشون ، وقول سحنون في جميع أهل الأهواء ، وبه فسَّر قول مالك في الموطأ ، وما رواه عن عمر بن عبد العزيز وجده وعمه ، من قولهم في القدرية يستتابون ، فإن تابوا وإلا قُتلوا .

وقال عيسى عن ابن القاسم ـ في أهل الاهواء من الإباضية والقدرية وشبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع والتحريف ، لتأويل كتاب الله : يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه . فإن تابوا وإلا قُتلوا ،        وميراثهم لورثتهم .

وقال مثله أيضاً ابن القاسم في كتاب محمد في أهل القدر وغيرهم ، قال : واستتابتهم أن يقال لهم : اتركوا ما أنتم عليه .

ومثله له في المبسوط في الإباضية والقدرية وسائر أهل البدع ، قال : وهم مسلمون ، وإنما قُتلوا لرأيهم السوء ، وبهذا عمل عمر بن عبد العزيز .

قال ابن القاسم : من قال : إن الله لم يكلم موسى تكليماً استتيب ، فإن تاب وإلا قُتل .
وابن حبيب و غيره من أصحابنا يرى تكفيرهم وتكفير أمثالهم من الخوارج والقدرية والمرجئة .

وقد روي أيضاً عن سحنون مثله فيمن قال : ليس لله كلام ، إنه كافر .

واختلفت الروايات عن مالك ، فاطلق في رواية الشاميين : أبي مسهر ، ومروان ابن محمد الطاطري الكفر عليهم ، وقد شووِر في زواج القدري ، فقال : لا تزوجه ، قال الله تعالى :( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ  ) (البقرة : 221 )

وقال : من وصف شيئاً من ذات الله تعالى ، وأشار إلى شيء من جسده : يد ، أو سمع ، أو بصر ، قطع ذلك منه ، لأنه شبه الله بنفسه .

وقال فيمن قال : القرآن مخلوق، كافر فاقتلوه .

وقال أيضاً ـ في رواية ابن نافع ـ يجلد ، و وجع ضرباً ، ويحبس حتى يتوب .

وفي رواية بشر بن بكر التنيسي عنه : يُقتل ولا تُقبل توْبته .

قال القاضي أبو عبد الله البرنكاني ، والقاضي أبو عبد الله التستري من أئمة العراقيين : جوابه مختلف ، يقتل المستبصر الداعية . وعلى هذا الخلاف اختلف قوله في إعادة الصلاة خلفهم .

وحكى ابن المنذر ، عن الشافعي : لا  يستتاب القدري .

وأكثر أقوال السلف تكفيرهم ، وممن قال به الليث ، وابن عيينة وابن لهيعة ، وروي عنهم ذلك فيمن قال بخلق القرآن ، وقاله ابن المبارك ، والأودي ، ووكيع ، وحفص بن غياث ، وأبو إسحاق الفزاري ،        وهشيم ، وعلي بن عاصم في آخرين ، وهو من قول أكثر المحدثين والفقهاء والمتكلمين فيهم وفي الخوارج والقدرية وأهل الأهواء المضلة وأصحاب البدع المتأولين ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وكذلك قالوا في الواقفة والشاكة في هذه الأصول .

وممن رُوي عنه معنى القول الآخر بترك تكفيرهم علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، والحسن البصري ،    وهو رأي جماعة من الفقهاء والنظار والمتكلمين ، واحتجوا بتوريث الصحابة والتابعين ورثة أهل حروراء  ومن عرف بالقدر ممن مات منهم ، ودفنهم في مقابر المسلمين ، وجري أحكام الإسلام عليهم .

قال إسماعيل القاضي : وإنما قال مالك في القدرية وسائر أهل البدع : يستتابون ، فإن تابوا وإلا قتلوا ، لأنه من الفساد في الأرض ، كما قال في المحارب : إن رأى الإمام قتلَه ، وإن لم يقتُل ، قتلَه ، وفساد المحارب إنما هو في الأموال ومصالح الدنيا ، وإن كان قد يدخل أيضاً في أمر الدين من سبيل الحج        والجهاد ، وفساد أهل البدع معظمه على الدين ، وقد يدخل في أمر الدنيا بما يلقون بين المسلمين من العداوة .

الفصل  الثالث
في تحقيق القول في تكفيرالمتأولين

قد ذكرنا مذاهب السلف في إكفار أهل البدع والأهواء المتأولين ممن قال قولاً يؤديه مساقه إلى كفر ،      وهو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه .
وعلى اختلافهم اختلف الفقهاء والمتكلمون في ذلك ، فمنهم من صوب التكفير الذي قال به الجمهور من السلف ، ومنهم من أباه ولم ير إخراجهم من سواد المؤمنين ،وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين ، وقالوا : هم فساق عصاة ضلال ، ونُوَرِّثُهم من المسلمين ، ونحكم لهم بأحكامهم ، ولهذا قال سحنون : لا إعادة على من صلى خلفهم ، قال : وهو قول جميع أصحاب مالك  كلِّهم : المغيرة ،وابن كنانة ، وأشهب ، قال : لأنه مسلم ، وذنبه لم يخرجه من الإسلام .
واضطرب آخرون في ذلك ، ووقفوا على القول بالتكفير وضده . واختلاف قوليْ مالك في ذلك ، وتوقفه عن إعادة الصلاة خلفهم منه وإلى نحو من هذا ذهب القاضي أبو بكر إمام أهل التحقيق والحق ، وقال : إنها من المُعْوِصات ، إذِ القوم لم يصرحوا بالكفر ، وإنما قالوا قولاً يؤدي إليه .
واضطرب قوله في المسألة على نحو اضطراب قول إمامه مالك بن أنس حتى قال في بعض كلامه : إنهم على رأي من كفرهم بالتأويل لا تحِل مناكحتهم ، ولا أكل ذبائحهم ، ولا الصلاة على ميتهم .
ويختلف في موارثتهم على الخلاف في ميراث المرتد .
وقال أيضاً : نُوَرِّث ميتهم ورثتهم من المسلمين ، ولا نورثهم هم من المسلمين ، وأكثر ميله إلى تركه التكفير بالمآل ، وكذلك اضطراب فيه قول شيخه أبي الحسن الأشعري ، وأكثر قوله ترك التكفير ، وأن الكفر خصلة واحدة ، وهو الجهل  بوجود الباري تعالى .
وقال مرةً : من اعتقد أن الله جسم ، أو المسيح ، أو بعض من يلقاه في الطرق ، فليس بعارف به وهو كافر .

ولمثل هذا ذهب أبو المعالي رحمه الله في أجوبته لأبي محمد عبد الحق ، وكان سأله عن المسالة ،       واعتذر له بأن الغلط فيها يصعب ، لأن إدخال كافر في الملة ، أو إخراج مسلم عنها عظيم في الدين .

وقال غيرهما من المحققين : الذي يجب الاحترازُ من التكفير في أهل التأويل ، فإن استبحاة الموحدين خطأ  والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد .

وقد قال r: فإذا قالوها ـ يعني الشهادة ـ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها،وحسابهم على الله. فالعصمة مقطوع بها من الشهادة ، ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع ، ولا قاطع من شرع ولا قياس عليه . وألفاظ الأحاديث الواردة في الباب معرضة للتأويل ، فما جاء منها في التصريح بكفر القدرية ،      وقوله : لا سهم لهم في الإسلام ، و تسميته الرافضة بالشرك ، وإطلاق اللعنة عليهم ، وكذلك في الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء ، فقد يحتج بها من يقول بالتفكير ، وقد يجيب الآخر عنها بأنه قد ورد في الحديث مثل هذه الألفاظ في غير الكفرة على طريق التغليط ، وكفر دون كفر ، وإشراك دون إشراك .
وقد ورد مثله في الرياء وعقوق الوالدين والزوج ، والزور ، وغير معصية .
وإذا كان محتملاً للأمرين فلا يقطع على أحدهما إلا بدليل قاطع .
وقوله في الخوارج : هم من شر البرية ، وهذه صفة الكفار .
وقال : شر قبيل تحت أديم السماء ، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه .
و قال : فإذا وجدتموهم فاقتلوهم قتل عاد .
فظاهرُ هذا الكفر لا سيما مع تشبيههم بعاد ، فيحتج به من يرى تكفيرهم ، فيقول له الآخر : إنما ذلك من قتلهم لخروجهم على المسلمين وبغيهم عليهم ، بدليل من الحديث نفسه : يقتلون أهل الإسلام ، فقتلهم ها هنا حد لا كفر .
وذكر عاد تشبيه للقتل وحله لا للمقتول ، وليس كل من حكم بقتله يحكم بكفره . ويعارضه بقول خالد في الحديث : دعني أضرب عنقه يا رسول الله . فقال : لعله يصلي .
فإن احتجوا بقوله
r: يقروؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم ـ فأخبر أن الإيمان لم يدخل قلوبهم .
وكذلك قوله : يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، ثم لا يعودون إليه حتى يعود السهم على فوقه 
وبقوله : سبق الفرث والدم، يدل على أنه لم يتعلق من الإسلام بشيء .
أجابه الآخرون : إن معنى لا يجاوز حناجرهم : لا يفهمون معانيه بقلوبهم ، ولا تنشرح له صدورهم ، ولا تعمل به جوارحهم ، وعارضوهم بقوله ، ويتمارى في الفوق .
وهذا يقتضي التشكك في حاله .
واحتجوا بقول أبي سعيد الخدري في هذا الحديث : سمعت رسول الله
r  يقول : يخرج في هذه الأمة ـ و لم يقل : من هذه ، وتحرير أبي سعيد الرواية ، وإتقانه اللفظ .
أجابهم الآخرون بأن العبارة : في لا تقتضي تصريحاً بكونهم من غير الأمة ، بخلاف لفظة من التي هي للتبعيض . وكونهم من الأمة مع أنه قد روي عن أبي ذر ، وعلي ، وأبي أمامة وغيرهم في هذا الحديث : يخرج من أمتي و سيكون من أمتي ، و حروف المعاني مشتركة ، فلا تعويل على إخراجهم من الأمة ب =في = ، و ا على إدخالهم فيها ب = من =، لكن أبا سعيد رضي الله عنه أجاد ما شاء في التنبيه الذي نبه عليه . وهذا مما يدل على سعة فقه الصحابة وتحقيقهم للمعاني واستنباطها من الألفاظ ، وتحريرهم لها ، وتوقيهم في الرواية... هذه المذاهب المعروفة لأهل السنة .
ولغيرهم من الفرق فيها مقالات كثيرة مضطربة سخيفة ، أقر بها قول جهم ومحمد بن شبيب : إن الكفر بالله الجهل به ، لا يكفر أحد بغير ذلك .

وقال أبو الهذيل : إن كل متأول كان تأويله تشبيهاً لله بخلقه ، وتجويراً له في فعله ، وتكذيباً لخبره فهو كافر . وكل من أثبت شيئاً قديماً لا يقال له الله فهو كافر .
وقال بعض المتكلمين : إن كان ممن عرف الأصل وبنى عليه ، وكان فيما هو من أوصاف الله فهو كافر ، وإن لم يكن من هذا الباب ففاسق ، إلا أن يكون ممن لم يعرف الأصل فهو مخطئ غير كافر .

وذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضه للتأويل  وفارق في ذلك فرق الأمة ، إذ أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين في واحد ، والمخطئ فيه آثم عاص فاسق . وإنما الخلاف في تكفيره .

وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني مثل قول عبيد الله عن داود الأصبهاني ،
قال : وحكى قوم عنهما أنهما قالا ذلك في كل من علم الله سبحانه من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا أو من غيرهم .

وقال نحو هذا القول الجاحظ ، وثمامة ، في أن كثيراً من العامة والنساء و البله ومقلدة النصارى واليهود وغيرهم لا حجة لله عليهم ، إذ لم تكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال .
وقد نحا الغزالي من هذا المنحى في كتاب التفرقة .

وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين  أو وقف في تكفيرهم ، أو شك .

قال القاضي أبو بكر : لأن التوقيف والإجماع على كفرهم ، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص ، والتوقيف  أو شك فيه . والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر .


الفصل  الرابع
في بيان ما هو من المقالات كفر ، وما يتوقف أو يختلف فيه ، وما ليس بكفر

اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع ، ولا مجال للعقل فيه ، والفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله ، أو مع الله ـ فهو كفر ، كمقالة الدهرية ، وسائر فرق أصحاب الاثنين من الديصانية أو المانوية و أشباههم من الصائبين والنصارى      والمجوس  ، والذين أشركوا بعبادة الأوثان أو الملائكة ، أو الشياطين ، أو الشمس ، أو النجوم أو النار أو أحد غير الله من مشركي العرب ، وأهل الهند والصين والسودان وغيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب .
وكذلك القرامطة وأصحاب الحلول والتناسخ من الباطنية والطيارة من الرافضة والجناحية والبيانية         والغرابية .

وكذلك من اعترف بإلالهية لله ووحدانيته ، ولكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم ، وأنه محدث أو مصور أو ادعى له ولداً أو صاحبة أو والداً ، أو أنه متولد من شيء أو كائن عنه ، أو أن معه في الأزل شيئاً قديماً غيره ، أو أن ثم صانعاً للعالم سواه ، أو مدبراً غيره ، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين ، كقول الإلهيين من الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين . وكذلك من ادعى مجالسة الله ، والعروج إليه ، ومكالمته ، أو حلوله في أحد الأشخاص ، كقول بعض المتصوفة والباطنية ، والنصارى ، والقرامطة .
وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم ، أو بقائه ، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة          والدهرية ، أو قال بتناسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص ، وتعذيبها أو تنعيمها فيها بحسب زكائها وخبثها . وكذلك من اعترف بالإلهية والوحدانية ، ولكنه جحد النبوة من أصلها عموماً ، أو نبوة نبينا
r خصوصاً ، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك ، فهو كافر بلا ريب ، كالبراهمة ، ومعظم اليهود والأروسية من النصارى ، والغرابية من الروافض الزاعمين أن علياً كان المبعوث إليه جبريل ، وكالمعطلة والقرامطة والإسماعيلية والعنبرية من الرافضة ، وإن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم .

وكذلك من دان بالوحدانية وصحة النبوة ، ونبوة نبينا r، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به ، ادعى في ذلك المصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع،كالمتفلسفين، وبعض الباطنية ، وبعض  الروافض  وغلاة المتصوفة ، وأصحاب الإباحة ، فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع ، وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة والحشر والقيامة ، والجنة والنار ، ليس منها شيء على مقتضى لفظها ومفهوم خطابها ، وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم ، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم ، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع ، وتعطيل الأوامر والنواهي ، وتكذيب الرسل ، و الإرتياب فيما أتوا به .

وكذلك من أضاف إلى نبينا  r  تعمد الكذب فيما بلغه وأخبر به ، أو شك في صدقه ، أو سبه ، أو قال : إنه لم يبلغ ، أو استخف به ، أو بأحد من الأنبياء ، أو أزرى عليهم ، أو آذاهم ، أو قتل نبياً ، أو حاربه ، فهو كافر بإجماع .

وكذلك نكفر من ذهب مذهب القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيراً أو نبياً من القردة والخنازير    والدواب والدود . ويحتج بقوله تعالى : (َإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر : 24 ) . إذ ذلك يؤدي إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة . وفيه من الإزراء على هذا المنصب المنيف ما فيه ، مع إجماع المسلمين على خلافه ، وتكذيب قائله .

وكذلك نكفر من اعترف من الأصول الصحيحة بما تقدم ، و بنبوة نبينا   و لكن قال : كان أسود ، أو مات قبل أن يلتحي ، و ليس الذي كان بمكة و الحجاز ، أو ليس بقرشي ، لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفي له و تكذيب به .
وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا  
r  أو بعده ، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب ، وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل ، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي  r  وبعده ، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والحجة ، وكالبزيعية والبيانية منهم القائلين بنبوة بزيع وبيان وأشباه هؤلاء . أو من ادعى النبوة لنفسه ، أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها ، كالفلاسفة وغلاة المتصوفة .

وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة ، أو أنه يصعد إلى السماء ويدخل إلى الجنة ،    ويأكل من ثمارها ، ويعانق الحور العين ، فهؤلاء كلهم كفار مكذَّبون للنبي  r   ، لأنه النبي  r  أخبر أنه :خاتم النبيين ، لا نبي بعده . وأخبر اللهُ تعالى عنه أنه خاتم النبيين ، وأنه أرسل للناس كافة.
وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره ، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص ،  فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً وسمعاً .

وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب ، أو خص حديثاً مجمعاً على نقله مقطوعاً به ، مجمعاً على حمله على ظاهره ، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ، و لهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل ، أو وقف فيهم ، أو شك ، أو صحح مذهبهم ، وإن أظهر مع ذلك الإسلام ، واعتقده ، واعتقد إبطال كل مذهب سواه ، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك .

وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة ، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي  r  ، إذ لم تقدم علياً . وكفرت علياً ، إذ لم يتقدم ويطلب حقه في التقديم ، فهؤلاء قد كفروا من وجوه ، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها ، إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن ، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم ، وإلى هذا ـ والله أعلم ـ أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفَّر الصحابة .
ثم كفَروا من وجه آخر بسبهم النبي  
r  على مقتضى قولهم وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه   وهو يعلم انه يكفر بعده على قولهم ، لعنة الله عليهم ، وصلى الله على رسوله وآله .

وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك الفعل ، كالسجود للصنم ، وللشمس والقمر ، والصليب والنار ، والسعي إلى الكنائس والبيع مع أهلها بزيهم : من شد الزنانير ، وفحص الرؤوس ، فقد أجمع المسلمون أن هذا  الفعل لا يوجد إلا من كافر وأن هذه الأفعال علامة على الكفر وإن صرح فاعلها بالإسلام .

وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه ، كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة .

وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع ، وما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسولr  ، ووقع الإجماع المتصل عليه ، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات أو عدد ركعاتها           وسجداتها ، ويقول : إنما أوجب الله علينا في كتابه الصلاة على الجملة ، وكونها خمساً ، وعلى هذه الصفات والشروط لا أعلمه ،إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي،والخبر به عن الرسول r  خبر و احد ..

وكذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج : إن الصلاة طرفي النهار ، وعلى تكفير الباطنية في قولهم : إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم ، والخبائث والمحارم أسماء رجال أمروا بالبراء منهم . وقول بعض المتصوفة : إن العبادة وطول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها      وإباحة كل شيء لهم ، ورفع عهد الشرائع عنهم .

وكذلك إن أنكر منكر مكة ، أو البيت ، أو المسجد الحرام ، أو صفة الحج ، أو قال : الحج واجب في القرآن ،واستقبال القبلة كذلك ،ولكن كونه على هذه الهيئة المتعارفة ،أن تلك البقعة هي مكة والبيت        والمسجد الحرام ، لا أدري هي تلك أو غيرها ، ولعل الناقلين أن النبي r  فسرها بهذه التفاسيرغلطوا    ووهِموا ، فهذا ومثله لا مرية في تكفيره إن كان ممن يظن به علم ذلك ، وممن يخالط المسلمين ،        وامتدت صحبته لهم، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام ، فيقال له : سبيلك أن تسأل عن هذا الذي لم تعلمه بعد كافة المسلمين ، فلا تجد بينهم خلافاً ، كافة ًعن كافة ، إلى معاصري الرسولr  ـ أن هذه الأمور كما قيل لك ، وأن تلك البقعة هي مكة والبيت الذي فيها هو الكعبة ، والقبلة التي صلى لها الرسول r    والمسلمون ، وحجوا إليها ، وطافوا بها ، وأن تلك الأفعال هي صفة عبادة الحج ، والمراد به ، وهي التي فعلها النبي r والمسلمون ، وأن صفات الصلاة المذكورة هي التي فعل النبي r، وشرح مراد الله بذلك ، وأبان حدودها ، فيقع لك العلم كما وقع لهم ، ولا ترتاب بذلك بعد ، والمرتاب في ذلك ، أو المنكر بعد البحث وصحبة المسلمين كافر باتفاق ، لا يعذر بقوله : لا أدري ، ولا يصدق فيه ، بل ظاهره التستر عن التكذيب ، إذ لا يمكن أنه لا يدري .
وأيضاً فإنه إذا جوز على جميع الأمة الوهم والغلط فيما نقلوه من ذلك ، وأجمعوا أنه قول الرسول
r      وفعله وتفسير مراد الله به ، أدخل الاسترابة في جميع الشريعة ، إذ هم الناقلون لها وللقرآن ، وانحلت عُرى الدين كرةً ، ومن قال هذا كافر .

وكذلك من أنكر القرآن ، أو حرفاً منه ، أو غيره شيئاً منه ، أو زاد فيه ، كفعل الباطنية والإسماعيلي ، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي r ، أو ليس فيه حجة ولا معجزة ، كقول هشام الفوطي ، ومعمر الضمري : إنه لا يدل على الله ، ولا حجة فيه لرسوله r، ولا يدل على ثواب ولا عقاب ، ولا حكم ، ولا محالة في كفرهما بذلك القول .

وكذلك تكفيرهما بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي r حجة له ، أو في خلق السموات و الأرض دليل على الله ، لمخالفتهم الإجماع و النقل المتواتر عن النبي r باحتجاجه بهذا كله و تصريح القرآن به.

وكذلك من أنكر شيئاً مما نصَّ فيه القرآن ، بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس ومصاحف المسلمين ، ولم يكن جاهلاً به ، ولا قريب عهد بالإسلام ، واحتج لإنكاره إما بأنه لم يصح النقل عنده ،   ولا بلغه العلم به ، أو لتجويزه الوهم على ناقليه ، فنكفره بالطريقين المتقدمين ، لأنه مكذِّب  للقرآن ، مكذِّب  للنبي r، لكنه تستر بدعواه .

وكذلك من أنكر الجنة أو النار ، أو البعث أو الحساب أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه ، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً.

وكذلك من اعترف بذلك ، ولكنه قال : إن المراد بالجنة والنار ، والحشر    والنشر ، والثواب والعقاب ـ معنى غير ظاهره ، وإنها لذات روحانية، ومعان باطنة ، كقول النصارى    والفلاسفة والباطنية وبعض المتصوفة ، وزعمهم أن معنى القيامة الموت أو فناء محض ، وانتقاض هيئة الأفلاك ، وتحليل العالم ، كقول بعض الفلاسفة .

وكذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم : إن الأئمة أفضل من الأنبياء .
فأما من أنكر ما عرف بالتواتر من الأخبار والسير والبلاد التي لا ترجع إلى إبطال شريعة ، ولا تفضي إلى إنكار قاعدة من الدين ، كإنكار غزوة تبوك أو مؤتة ، أو وجود أبي بكر وعمر ، أو قتل عثمان ، وخلافة علي ، مما علم بالنقل ضرورة ، وليس في إنكاره جحد شريعة ، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك ، وإنكاره وقوع العلم له ، إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة ، كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل ، ومحاربة علي من خالفه .


فأما إن ضعف ذلك من أجل تُهمة الناقلين ، ووَهَّم المسلمين أجمع ، فنكفره بذلك لسريانه إلى إبطال الشريعة .

فأما من أنكر الإجماع المجرد الذي ليس طريقه النقل المتواتر عن الشارع فأكثر المتكلمين من الفقهاء    والنظار في هذا الباب قالوا بتكفير كل من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عليه عموماً . وحجتهم قوله تعالى : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء : 115 )
و قوله
r: من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه .

وحكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع .

وذهب آخرون إلى الوقوف عن القطع بتكفير من خالف الإجماع  الذي يختص بنقله العلماء .

وذهب آخرون إلى التوقف في تكفير من خالف الإجماع الكائن عن نظر ، كتكفير النظام بإنكاره الإجماع ، لأنه بقوله هذا مخالف إجماع السلف على احتجاجهم به ، خارق للإجماع .

قال القاضي أبو بكر : القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده ، والإيمان بالله هوالعلم بوجوده.     وأنه لا يكفر أحد بقول ولا رأي إلا أن يكون هو الجهل بالله ، فإن عصى بقول أو فعل نص الله ورسولهr  أو أجمع المسلمون أنه لا يوجد إلا من كافر ، أو يقوم دليل على ذلك ، فقد كفر ، ليس لأجل قوله أو فعله  لكن لما يقارنه من الكفر ، فالكفر بالله لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور : أحدها الجهل بالله تعالى . والثاني أن يأتي فعلاً أو يقول قولاً يخبر الله ورسوله ، أو يجمع المسلمون  أن ذلك لا يكون إلا من كافر ، كالسجود للصنم ، والمشي إلى الكنائس بالتزام الزنار مع أصحابها في أعيادهم ، أو أن يكون ذلك القول أو الفعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى .قال : فهذان الضربان ، وإن لم يكونا جهلاً بالله فهما علم أن فاعلهما كافر منسلخ من الإيمان ، فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية ،أو جحدها مستبصراً في ذلك ،كقوله : ليس بعالم ولا قادر ولا مريد ولا متكلم ، وشبه ذلط من صفات الكمال الواجبة له تعالى ، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها ، وأعراه عنها .
وعلى هذا حمل قول سحنون : من قال : ليس لله كلام ، فهو كافر ، وهو لا يكفر المتأولين كما قدمناه .
فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء ها هنا ، فكفره بعضهم ، وحكي ذلك عن أبي جعفر الطبري وغيره ، وقال به أبو الحسن الأشعري مرة .
وذهبت طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن اسم الإيمان ، وإليه رجع الأشعري ، قال : لأنه لم يعتقد ذلك اعتقاداً يقطع بصوابه ، ويراه ديناً وشرعاً وإنما نكفر من اعتقد أن مقاله حق .
واحتج هؤلاء بحديث السوداء ، وأن النبي
r إنما طلب منها التوحيد لا غير ، وبحديث القائل : لئن قدر الله علي ـ وفي رواية فيه : لعلِّي أضل الله. ثم قال : فغفر الله له . قالوا : ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل .
وقد أجاب الآخر عن هذا الحديث بوجوه ، منها أن قدر بمعنى قدر ، ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه  بل في نفس البعث الذي لا يعلم إلا بشرع ، ولعله ورد عندهم به شرع يقطع عليه ، فيكون الشك به حينئذ فيه كفراً . فأما ما لم يرد به شرع فهو من مجوزات العقول ، أو يكون قدر بمعنى ضيق ، و يكون ما فعله إزراء عليها وغضباً لعصيانها .
وقيل : قال ما قاله وهو غير عاقل لكلامه ولا ضابط للفظه مما استولى عليه من الجزع والخشية التي أذهبت لبه ، فلم يؤاخذ به . وقيل : كان هذا في زمن الفترة ، وحيث ينفع مجرد التوحيد .
وقيل : بل هذا من مجاز كلام العرب الذي صورته الشك ، ومعناه التحقيق ، وهو يسمى تجاهل العارف ،   وله أمثلة في كلامهم ، كقوله تعالى :( لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه : 44 ) . و قوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (سبأ : 24 )
فأما من أثبت الوصف ونفى الصفة فقال : أقول عالم ولكن لا علم له ، ومتكلم ولكن لا كلام له . وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة   : فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله ، ويسوقه إليه مذهبه ـ كفره ، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم ، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قوله لهم . وهكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل من المشبهة والقدرية وغيرهم .
ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم ، ولا ألزمهم موجب مذهبهم ، لم ير إكفارهم ، قال : لأنهم إذا وقفوا على هذا قالوا : لا نقول ليس بعالم ، ونحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتوه لنا ، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر ، بل نقول : إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه .
فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل ، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك . والصواب ترك إكفارهم والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم ووراثاتهم ، و مناكحاتهم ، ودياتهم ، والصلاة عليهم ، ودفنهم في مقابر المسلمين ، وسائر معاملاتهم ، لكنهم يغلط عليهم بوجيع الأدب ، وشديد الزجر والهجر ، حتى يرجعوا عن بدعتهم .
وهذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم ، فقد كان نشأ على زمان الصحابة وبعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القدر ورأى الخوارج والاعتزال ، فما أزاحو لهم قبراً ، ولا قطعوا لأحد منهم ميراثاً ، لكنهم هجروهم وأدبوهم بالضرب والنفي والقتل على قدر أحوالهم ، لأنهم فساق ضلال عصاة أصحاب كبائر عند المحققين وأهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم خلافاً لمن رأى غير ذلك . والله الموفق للصواب .

قال القاضي أبو بكر وأما مسائل الوعد والوعيد ، والرؤية والمخلوق ، وخلق الأفعال ، وبقاء الأعراض ، والتولد وشبهها من الدقائق فالمنع في إكفار المتأولين فيها أوضح ، إذ ليس في الجهل بشيء منها جهل بالله تعالى ، ولا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئاً منها .
وقد قدمنا في الفصل قبله من الكلام وصورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله تعالى .

الفصل  الخامس
في حكم الذمي إذا  سبَّ  اللهَ تعالى

هذا حكم المسلم الساب لله تعالى . وأما الذمي فروي عن عبد الله بن عمر في ذمي تناول من حرمه الله تعالى غير ما هو عليه من دينه ، وحاجَّ فيه ، فخرج ابن عمر عليه بالسيف فطلبه فهرب .

وقال مالك في كتاب ابن حبيب والمبسوطة وابن القاسم في المبسوط ، وكتاب محمد وابن سحنون : من شتم الله من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا قتل ولم يستتب . قال ابن القاسم : إلا أن يسلم . قال في المبسوطة : طوعاً . قال أصبغ : لأن الوجه الذي به كفروا هو دينهم ، وعليه عوهدوا من دعوى الصاحبة و الشريك والولد .وأما غير هذا من الفرية و الشتم فلم يعاهدوا عليه ، فهو نقض للعهد .

قال ابن القاسم في كتاب محمد : ومن شتم اللهَ تعالى من غير أهل الأديان بغير الوجه الذي ذكر في كتابه قتل إلا أن يسلم .

وقال المخزومي في المبسوطة ، ومحمد بن سلمة ، وابن أبي حازم : لا يقتل حتى يستتاب مسلماً كان أو كافراً ، فإن تاب وإلا قتل .

وقال مطرف و عبد الملك مثل قول مالك .

وقال أبو محمد بن أبي زي  : من سب اللهَ تعالى بغير الوجه الذي به كفر قتل إلا أن يسلم .

وقد ذكرنا قول ابن الجلاب قبل ، وذكرنا قول عبيد الله ، وابن لبابة ، وشيوخ الأندلسيين في النصرانية وفتياهم بقتلها لسبها ، بالوجه الذي كفرت به ، لله وللنبي ، وإجماعهم على ذلك ، وهو نحو القول الآخر فيمن سب النبي r منهم بالوجه الذي كفر به ، ولا فرق في ذلك بين سب الله وسب نبيه ، لأنا عاهدناهم على ألا يظهروا لنا شيئاً من كفرهم ، وألا يسمعونا شيئاً من ذلك ، فمتى فعلوا شيئاً منه فهو نقض لعهدهم.

واختلف العلماء في الذمي إذا تزندق ، فقال مالك ، ومطرف ، وابن عبد الحكم ، وأصبغ : لا يقتل ، لأنه خرج من كفر إلى كفر .

و قال عبد الملأ بن الماجشون : يقتل لأنه دين لا يقر عليه أحد ، و ا تؤخذ عليه جزية .

الفصل السادس
في مفتري الكذب على الله تبارك وتعالى بادعاء الإلهية

هذا حكم من صرح بسبه وإضافة ما لا يليق بجلاله وإلاهيته ، فأما مفتري الكذب عليه تبارك وتعالى بادعاء الإلاهية أو الرسالة أو النافي أن يكون الله خالقه أو ربه ، أو قال : ليس رب ، أو المتكلم بما لا يعقل من ذلك في سكره أو غمرة جنونه فلا خلاف في كفر قائل ذلك ومدعيه مع سلامة عقله كما قدمنا ، لكنه تقبل توبته على المشهور ، وتنفعه إنابته ، وتنجيه من القتل فيئته ، لكنه لا يسلم من عظيم النكال ، ولا يرفه عن شديد العقاب ، ليكون ذلك زجراً لمثله عن قوله ، وله عن العودة لكفره أو جهله ، إلا من تكرر منه ذلك ، وعرف استهانته بما أتى به ، فهو دليل على سوء طويته ، وكذب توبته ، وصار كالزنديق الذي لا نأمن باطنه ، ولا نقبل رجوعه . وحكم السكران في ذلك حكم الصاحي .
وأما المجنون والمعتوه فما علم أنه قاله من ذلك في حال غمرته وذهاب ميزه بالكلية فلا نظر فيه ، وما فعله من ذلك في حال ميزه وإن لم يكن معه عقله وسقط تكليفه أدب على ذلك لينزجر عنه ، كما يؤدب على قبائح الأفعال ، ويوالى أدبه على ذلك حتى يكف عنه ، كما تؤدب البهيمة على سوء الخلق حتى تراض .

وقد حرق علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ادعى له الإلهية ، وقد قتل عبد الملك بن مروان الحارث المتنبي وصلبه ، وفعل ذلك غير واحد من الخلفاء والملوك بأشباههم .
وأجمع علماء وقتهم على صواب فعلهم ، والمخالف في ذلك من كفرهم كافر .
وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية وقاضي قضاتها أبو عمر المالكي على قتل الحلاج وصلبه ، لدعواه الإلهية ، والقول بالحلول ، وقوله : أن الحق ، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته .
وكذلك حكموا في ابن أبي الغراقيد ، وكان على نحو مذهب الحلاج بعد هذا أيام الراضي بالله ، وقاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين بن أبي عمر  المالكي .

وقال ابن عبد الحكم في المبسوط : من تنبأ قتل .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : من حجد أن الله تعالى خالقه أو ربه ، أو قال : ليس لي رب ، فهو مرتد .

وقال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب ، ومحمد في العتيبة فيمن تنبأ يستتاب أسر ذلك أو أعلنه ، وهو كالمرتد .

وقال سحنون وغيره ، وقاله أشهب في يهودي تنبأ ، وادعى أنه رسول إلينا إن كان معلناً بذلك استتيب ، فإن تاب و إلا قتل .

وقال أبو محمد بن أبي زيد فيمن لعن بارئه ، وادعى أن لسانه زل ، وإنما أراد لعن الشيطان ـ يقتل بكفره  ولا يقبل عذره .

وهذا على القول الآخر من أنه لا تقبل توبته .

 
وقال أبو الحسن القابسي في سكران ، قال : أنا الله ، أنا الله ، إن تاب أدب ، فإن عاد إلى مثل قوله طولب مطالبة الزنديق ، لأن هذا كفر المتلاعبين .

الفصل السابع
فيمن تكلم بسقط القول وسخف اللفظ ، ممن لم يضبط كلامه

وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخاف بعظمة ربه وجلالة مولاه ، أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته ، أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف ، ولا عامد للإلحاد ، فإن تكرر هذا منه ، وعرف به ، دل على تلاعبه بدينه ، واستخفافه بحرمة ربه ، وجهله بعظيم عزته وكبريائه ، وهذا كفر لا مرية فيه .

وكذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف والتنقص لربه .

وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عجب ، وكان خرج يوماً ، فأخذه المطر ،فقال: بدأ الخراز يرش جلوده .
وكان بعض الفقهاء بها : أبو زيد صاحب الثمانية ، وعبد الأعلى بن وهب ، وأبان بن عيسى ، قد توقفوا عن سفك دمه ، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب .
وأفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد ، فقال ابن حبيب : دمه في عنقي ، أيُشْتَم ربٌّ عبدناه ، ثم لا ننتصرُ له ، إنا إذاً لعبيد سوء ، وما نحن له بعابدين ، وبكى ورفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرحمن بن الحكم الأموي .
وكان عجب عمة هذا المطلوب من حظاياه ، وأعلم باختلاف الفقهاء ، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه ، وأمر بقتله ، فقتل وصلب بحضرة الفقيهين ، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة ، ووبخ بقية الفقهاء و سبهم .

وأما من صدرت عنه من ذلك الهنة الواحدة والفلتة الشاردة ، ما لم تكن تنقصاً وإزراء فيعاقب عليها       ويؤدب بقدر مقتضاها وشنعة معناها ، وصورة حال قائلها ، وشرح سببها ومقارنها .

وقد سئل ابن القاسم رحمه الله عن رجل نادى رجلاً باسمه ، فأجابه : لبيك ، اللهم لبيك .
قال : إن كان جاهلاً ، أو قاله على وجه سفه فلا شيء عليه .

قال : القاضي أبو الفضل : و شرح قوله أنه لا قتل عليه ، و لجاهل يزجر و علم ، و لسفيه يؤدب ، ولو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه لكفر.  هذا مقتضى قوله .

 و قد أسرف كثير من سخفاء الشعراء ومتهميهم في هذا الباب ، واستخفوا عظيم هذه الحرمة ، فأتوا من ذلك بما ننزه كتابنا ولساننا وأقلامنا عن ذكره ، ولولا أنا قصدنا نص مسائل حكيناها ما ذكرنا شيئاً مما يثقل ذكره علينا مما حكيناه في هذه الفصول .

فأما ما ورد في هذا من أهل الجهالة وأغاليط اللسان ، كقوله بعض الأعراب :

                  رب العباد ما لنا وما لكا      قد كنت تسقينا فما بدا لكا

                              أنزل علينا الغيث لا أبا لكا

في أشباه لهذا من كلام الجهال . ومن لم يقومه ثقاف تأديب الشريعة والعلم في هذا الباب ، فقل ما يصدر إلا من جاهل يجب تعليمه وزجره والإغلاط له عن العودة إلى مثله .

قال أبو سليمان الخطابي : وهذا تهور من القول ، والله منزه عن هذه الأمور .

وقد روينا عن بن عبد الله أنه قال : ليعظم أحدكم ربه أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول : أخزى اللهُ الكلبَ ، وفعل به كذا وكذا .

قال : وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قل ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعته . وكان يقول للإنسان : جزيت خيراً . وقل ما يقول : جزاك الله خيراً ، إعظاماً لاسمه تعالى أن يمتهن في غيره قربة .
وحدثنا الثقة أن الإمام أبا بكر الشاشي كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم فيه تعالى وفي ذكر صفاته  إجلالاً لاسمه تعالى ويقول : هؤلاء يتمندلون بالله عز وجل .
وينزل الكلام في هذا الباب تنزيله في باب ساب النبي
r على الوجوه التي فصلناها . والله الموفق .

الفصل الثامن
في حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى وملائكته واستخف بهم أو كذبهم

وحُكم من سبَّ سائر أنبياء الله تعالى وملائكته ، واستخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به ، أو أنكرهم وجحدهم  وحكم نبينا r على مساق ما قدمناه ، قال الله تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً) (النساء :150+ 151 ).

وقال تعالى: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة : 136 )
وقال : (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ )(البقرة 285) .

قال مالك في كتاب ابن حبيب ومحمد ، وقال ابن القاسم ، وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ         وسحنون فيمن شتم الأنبياء أو أحداً منهم أو تنقصه قتل ولم يستتب . ومن سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم .

و وى سحنون عن ابن القاسم : من سب الأنبياء من اليهود أو النصارى بغير الوجه الذي به كفر ضرب عنقه إلا أن يسلم .

وقد تقدم الخلاف في هذا الأصل .

وقال القاضي بقرطبة سعيد ابن سليمان في بعض أجوبته : من سب اللهَ وملائكته قتل .

وقال سحنون : من شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل .

وفي النوادر عن مالك فيمن قال : إن جبريل أخطأ بالوحي ، وإنما كان النبي علي بن أبي طالب استتيب  فإن تاب وإلا قتل .ونحوه عن سحنون.

 وهذا قول الغرابية من الروافض ، سموا بذلك لقولهم : كان النبي r أشبه بعلي من الغراب بالغراب .
وقال أبو حنيفة وأصحابه على أصلهم : من كذَّب بأحد من الأنبياء ، أو تنقص أحداً منهم ، أو بريء منه فهو مرتد .

وقال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر ، كأنه وجه مالِك الغضبان ، لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل .

*قال القاضي أبو الفضل : وهذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين ، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة والنبيين ممن نص الله عليه في كتابه ، أو حققنا علمه بالخبر المتواتر ،     والمشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع ، كجبريل ، وميكائيل ، ومالك ، وخزنة الجنة ، وجهنم والزبانيه ، وحملةالعرش المذكورين في القرآن من الملائكة ، ومَن سُمِّيَ فيه من الأنبياء ، وكعزرائيل ، وإسرافيل ،   ورضوان ، والحفظة ، ومنكر ونكير من الملائكة المتفق على قبول الخبر بهم ، فأما من لم تثبت الأخبار بتعيـينه ، ولا وقع الإجماع على كونه من الملائكة أو الأنبياء ، كهاروت وماروت في الملائكة والخضر ، ولقمان ، وذي القرنين ، ومريم ، وآسية ، وخالد ابن سنان المذكور أنه نبي أهل الرس ، وزرادشت الذي يدعي المجوس المؤرخون نبوته ، فليس الحكم في سابهم والكافر بهم كالحكم فيمن قدمناه إذ لم تثبت لهم تلك الحرمة ، ولكن يزجر من تنقصهم وآذاهم ، ويؤدب بقدر حال المقول فيهم ، لا سيما من عرفت صديقيته وفضله منهم ، وإن لم تثبت نبوته .
وأما إنكار نبوتهم أو كون الآخر من الملائكة فإن كان المتكلم في ذلك من أهل العلم فلا حرج لاختلاف العلماء في ذلك ، وإن كان من عوام الناس زجر عن الخوض في مثل هذا ، فإن عاد أدب ، إذ ليس لهم الكلام في مثل هذا .
وقد كره السلف الكلام في مثل هذا مما ليس تحته عمل لأهل العلم ، فكيف للعامة .

الفصل  التاسع
في حكم من استخف بالقرآن أو المصحف  

اعلم أن من استخف بالقرآن أو الصحف أو بشيء منه ، أو سبهما ،أو جحده ، أو حرفاً منه أو آية أو كذَّب به أو بشيء منه ،أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر ، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك ، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع ، قال الله تعالى : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : 42 )

حدثنا الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد رحمه الله ، حدثنا أبو علي ، حدثنا ابن عبد البر ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي r قال : المراء في القرآن كفر ، تُؤُوِّل بمعنى الشك وبمعنى الجدال وعن ابن عباس ، عن النبي r  قال: من جحد آية من كتاب الله من المسلمين فقد حل ضرب عنقه وكذلك إن جحد التوراة والإنجيل وكتب الله المنزلة ،أو كفر بها ، أو لعنها ، أو سبها ،أو استخف بها فهو كافر .


و قد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جمبع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، مما جمعه الدفتان من أول(الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة : 2 ) إلى آخر : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (الناس : 1 ) أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد
r ، وأن جميع ما فيه حق ، وأن من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك ،أو بدله بحرف آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفاً مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، وأجمع على انه ليس من القرآن عامداً لكل هذا ،أنه كافر .

ولهذا رأى مالك قتل من سب عائشة رضي الله عنها بالفرية ، لأنه خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قتل  لأنه كذب بما فيه .

وقال ابن القاسم : من قال: إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليماً يقتل ، وقاله عبد الرحمن بن مهدي .
وقال محمد بن سحنون فيمن قال : المعوذتان ليستا من كتاب الله يضرب عتقه إلا أن يتوب .
وكذلك كل من كذب بحرف منه . قال : وكذلك إن شهد شاهد على من قال : إن الله لم يكلم موسى تكليماً ، وشهد آخر عليه أنه قال : إن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً ، لأنهما اجتمعا علىأنه كذب النبي
r .

وقال أبو عثمان بن الحداد : جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر .

وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له ليس كما قرأت ، ويقول : أمّا أنا فأقرأُ كذا ، فبلغ ذلك إبراهيم  فقال : أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله .

وقال أصبغ بن الفرج : من كذَّب ببعض القرآن فقد كذَّب به كله ، ومن كذب به فقد كفر به ومن كفر به فقد كفر بالله .

وقد سئل القابسي عمن خاصم يهودياً فحلف له بالتوراة ، فقال الآخر لعن الله التوراة ، فشهد عليه بذلك شاهد ، ثم شهد آخر أنه سأله عن القضية فقال : إنما لعنت توراة اليهود ، فقال أبو الحسن : الشاهد الواحد لا يوجب القتل ، والثاني علق الأمر بصفة تحتمل التأويل ، إذ لعله لا يرى اليهود متمسكين بشيء من عند الله لتبديلهم و تحريفهم .ولو اتفق الشاهدان على لعن التوراة مجرداً لضاق التأويل .
وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابه ابن شنبوذ المقريءأحد أئمة المقرئين المتصدرين بها مع ابن مجاهد ، لقراءته وإقرائه بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف ، وعقدوا عليه بالرجوع عنه والتوبة عنه سجلا أشهد فيه بذلك على نفسه في مجلس الوزير أبي علي بن مقلة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة،      وكان فيمن أفتى عليه بذلك أبو بكر الأبهري وغيره .

وأفتى أبو محمد بن أبي زيد بالأدب فيمن قال لصبي : لعن الله معلمك وما علمك . قال : أردت سوء الأدب  ولم أرد القرآن .

قال أبو محمد : وأما من لعن المصحف فإنه يقتل .

الفصل العاشر
في حكم ساب آل بيت النبي
r

وسب آل بيته وأزواجه وأصحابه r وتنقصهم حرام ملعون فاعله .

*حدثنا القاضي الشهيد أبوعلي رحمه الله ، حدثنا أبو الحسين الصيرفي وأبو الفضل العدل ، حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا ابن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : قال رسول الله r : الله ، الله في أصحابي . لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه .

وقال r: لا تسبوا أصحابي ، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً .

وقال r : لا تسبوا أصحابي ، فإنه يجيء قوم في آخر الزمان يسبون أصحابي فلا تصلوا عليهم ، ولا تصلوا معهم ، ولا تناكحوهم ، ولا تجالسوهم ، وإن مرضوا فلا تعودوهم .

وعنه r قال : من سب أصحابي فاضربوه .

وقد أعلم النبي r  أن سبهم وأذاهم يؤذيه ، وأذى النبي r  حرام ، فقال : لا تؤذوني في أصحابي ،     ومن آذاهم فقد آذاني .

وقالr  : لا تؤذوني في عائشة .

وقالr  في فاطمة : فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها .

وقد اختلف العلماء في هذا ، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع ؟ قال مالك رحمه الله : من شتم النبي قتل ، ومن شتم أصحابه أدب .
و قال أيضاً : من شتم أحداً من أصحاب النبي
 r : أبا بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو معاوية ، أو عمرو بن العاص ، فإن قال : كانوا على ضلال وكفر قُتِلَ ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نُكِّلَ نكالاً شديداً .

وقال ابن حبيب : من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً ، ومن زاد إلى بعض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ، ويكرر ضربه ، ويطال سجنه حتى يموت ، ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي r.

وقال سحنون : من كفر أحداً من أصحاب النبي r : علياً ، أو عثمان ، أو غيرهما   يوجع ضربا ً .

وحكى أبو محمد بن أبي يزيد ، عن سحنون : من قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي : إنهم كانوا على ضلالة وكفر قُتِل . ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نُكِّل النكال الشديد .

وروي عن مالك : من سب أبا بكر جلد ، ومن سب عائشة قُتِل . قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن .

وقال ابن شعبان عنه : لأن الله يقول :(يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (النور : 17 )، فمن عاد لمثله فقد كفر .

وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال : إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ...  ) (الأنبياء : 26 )  في آي كثيرة .

وذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال : (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور : 16 ) ـ سبح نفسه في تبرئتها من السوء ، كما سبح نفسه في تبرئته من السوء .

  وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة .

ومعنى هذا ـ والله أعلم ـ أن الله تعالى لما عظَّم سبَّها كما عظَّم سبَّه ، وكان سبُّها سباً لنبـيِّه ، وقرن سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى ، وكان حكم مؤذيه تعالى القتل كان مؤذي نبيه كذلك كما قدمناه .
و شتم رجل عائشة بالكوفة ، فقدم إلى موسى بن عيسى العباسي ، فقال : من حضر هذا ؟ فقال ابن أبي ليلى : أنا ، فجلده ثمانين ، وحلق رأسه ، وأسلمه إلى الحجامين .

 وروي عن عمر بن الخطاب أنه نذَر قطعَ لسانِ عبيد الله بن عمر ، إذ شتَم المقداد بن الأسود ، فكُلِّمَ في ذلك ، فقال : دعوني أقطع لسانَه حتى لا يشتِم أحدٌ بعدُ أصحابَ النبي r.

وروى أبو ذر الهروي أن عمر بن الخطاب أتي بأعرابي يهجو الأنصار ، فقال : لولا أن له صحبة لكفيتكموه .

قال مالك : من انتقص أحداً من أصحاب النبي r فليس له في هذا الفيء حق ، قد قسم الله الفيء في ثلاثة أصناف ، فقال :(لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر : 8 ).

ثم قال:(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر 9 )


وهؤلاء هم الأنصار .

 ثم قال :(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر : 10 ).

فمن تنقصهم فلا حق له في فيء المسلمين .

وفي كتاب ابن شعبان : من قال في واحد منهم إنه ابن زانية وأمه مسلمة حد عند بعض أصحابنا حدين : حداً له ، وحداً لأمه ، ولا أجعله كقاذف الجماعة في كلمة لفضل هذا على غيره ، ولقوله r: من سب أصحابي فاجلدوه ، قال : ومن قذف أم أحدهم وهي كافرة حُدَّ حَدَّ الفرية ، لأنه سب له ، فإن كان أحد من ولد هذا الصحابي حياً قام بما يجب له ، وإلا فمن قام به من المسلمين كان على الإمام قبول قيامه ، قال : وليس هذا كحقوق غير الصحابة لحرمة هؤلاء بنبيهم r، ولو سمعه الإمام ، وأشهد عليه ، كان ولي القيام به ، قال : ومن سب غير عائشة من أزواج النبي r ففيها قولان :
أحدهما : يُقتل ، لأنه سب النبي
rبسب حليلته .
والآخر : أنها كسائر الصحابة ، يجلد حد المفتري ، ، قال : وبالأول أقول .

و روى أبو مصعب ، عن مالك ـ فيمن انتسب إلى بيت النبي r يضرب ضرباً وجيعاً ، ويشهر ، ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته ، لأنه استخفاف بحق الرسولr.

وأفتى أبو المطرف الشعبي فقيه مالَقة في رجل أنكر تلحيف امرأة بالليل ، وقال : لو كانت بنت أبي بكر الصديق ما حُلِّفَتْ إلا بالنهار ، وصوب قوله بعض المتسمين بالفقه ، فقال أبو المطرف : ذكر هذا لابنة أبي بكر في مثل هذا يوجب عليه الضرب الشديد والسجن الطويل .
والفقيه الذي صوب قوله أحق باسم الفسق من اسم الفقه ، فيتقدم له في ذلك ، ويزجر ، ولا تقبل فتواه ولا شهادته ، وهي جرحة ثابتة فيه ، ويُبْغَضُ في الله .

 وقال أبو عمران في رجل قال : لو شهد علي أبو بكر الصديق : أنه إن كان في مثل هذا لا يجوز فيه الشاهد الواحد ، فلا شيء عليه ، وإن كان أراد غير هذا فيضرب ضرباً يبلغ به حد الموت  ، وذكروها رواية ......

قال القاضي أبو الفضل : هنا انتهى القول بنا فيما حررناه   ، وانتجز الغرض الذي انتحيناه ، واستوفى الشرط الذي شرطناه ، مما أرجو أن يكون في كل قسم منه للمريد مقنع ، وفي كل باب منهج إلى بغيته    ومنزع .

 
وقد سفرت فيه عن نكت تستغرب وتستبدع ، وكرعت في مشارب من التحقيق لم يورد لها قبل في أكثر التصانيف مشرع ، وأودعته غير ما فصل ، وددت لو وجدت من بسط قبلي الكلام فيه ، أو مقتدى يفيدنيه عن كتاب أو فيه ، لأكتفي بما أرويه عما أرويه .
و إلى الله تعالى جزيل الضراعة في المنة بقبول ما منه لوجهه ، والعفو عما تخلله من تزين وتصنع لغيره  وأن يهب لنا ذلك بجميل كرمه وعفوه لما أو دعناه من شرف مصطفاه ، وأمين وحيه ، وأسهرنا به جفوننا لتتبع فضائله ، وأعملنا فيه خواطرنا من إبراز خصائصه ووسائله ، ويحمي أعراضنا عن ناره الموقدة لحمايتنا كريم عرضه ، ويجعلنا
ممن لا يذاد إذا ذيد المبدل عن حوضه ، ويجعله لنا و لمن تهمم باكتتابه واكتسابه سبباً يصلنا بأسببابه ،  وذخيرة نجدها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وحضراً نحوز بها رضاه ، وجزيل ثوابه ، ويخصنا بخصيصي زمرة نبينا وجماعته ، ويحشرنا في الرعيل الأول وأهل الباب الأيمن من أهل شفاعته ، ونحمده تعالى على ما هدى إليه من جمعه وألهم ، وفتح البصيرة لدرك حقائق ما أودعناه وفهم ، ونستعيذه جل اسمه من دعاء لا يسمع ، وعلم لا ينفع ، وعمل لا يرفع ، فهم الجواد الذي لا يخيب من أمله ، ولا ينتصر من خذله ، و لا يرد دعوة القاصدين ، ولا يصلح عمل المفسدين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلاته على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلم تسليماً كثيراً ..

 

                                              قام بتصحيحه ومراجعته  : أبو يوسف محمد زايد .

                                               ـ غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات.ـ

                                                              وكان الفراغ من ذلك

                                                            يوم 29 شوال عام 1426

                                                          الموافق ليوم 02-12-2005

                                                           ـ والحمد لله رب العالمين ـ